الأحد، 2 ديسمبر 2012

عن الأصولية والإيمان


ربما يكون مهماً في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا التي فيها نكتوي بنار الأصولية الدينية، سواء كان هذا الاكتواء اكتواءاً مباشراً من خلال ما ترتكبه العقول الأصولية من إعاقة للتطور الإنساني أو ما ترتكبه الانتهازية السياسية من فساد على كافة المجالات مما يجعل الدولة رخوة وكأنها مريض اقترب من الموت تتوقف أجهزته الحيوية واحداً تلو الآخر بسبب فساد سياسي واقتصادي واجتماعي واستئثار بالسلطة ينخر في عظام الدولة ويصب كل طاقتها ومواردها فقط في الوعاء الأمني البوليسي وذلك  تحت شعار الخوف من الأصولية الدينية.
نتساءل دائماً هل الأصولية هي بالفعل العودة للجذور؟ هل هي الإصلاح الديني والعودة للبساطة والقوة والزخم الذي نشأت به الأديان والحركات الروحية؟ أما هي ردة فعل جامدة غير طبيعية  ناتجة من الخوف من التجديد؟ هل هي خلايا حية نابضة؟ أم نسيج ليفي متكلس ناشئ من ردود أفعال دفاعية؟
دعونا نناقش هنا، ولغرض البعد عن الحساسيات، الأصولية المسيحية وكيف نشأت تدريجياً. ربما نحتاج لبعض الفلسفة واللاهوت في كلامنا عن الأيمان كمدخل لنا لاستيعاب هذا الأمر، ولا أظن أن القارئ المهتم سيضيق بذلك.
ثلاث مراحل على درب الإيمان
المثير للاهتمام في التاريخ أنه لا يترك شيئاً خلفه وإنما هو تراكم لخبرات ورؤى متتالية مضافة إلى بعضها البعض. و نستطيع أن نرى في  تطور الفكر في العالم من قبل الحداثة إلى الحداثة إلى بعد الحداثة ما وصفه تيد بيترز في كتابه الطليعي الله- مستقبل هذا العالم[14] بالمراحل الثلاث على درب الإيمان أو تطور الفكر الإنساني بشكل عام سواء الفردي أو الجماعي، وهي أولاً، التركيب البسيط "الساذج" للعالم Naïve world construction الذي كان يسود عصر ما قبل الحداثة ثم عصر الحداثة الذي تميز بما يسمى  التفكيك الناقد لكل شيء Critical deconstruction  و أخيراً إعادة التركيب البعد نقدية Post-critical re-construction التي تميز عصر ما بعد الحداثة.






هذه المراحل كمراحل تطورية للفكر الغربي، يمكن أن نراها أيضاً كمراحل تطورية لإيمان وحياة الأفراد وخطوات على طريق تَشَكُّل وعيهم الإنساني.  في الواقع أستطيع أن أتتبع هذه المراحل في نموي الإيماني الشخصي فأنا أعتقد أن عملي بالطب النفسي  منذ 1993 إلى الآن ودراستي في كلية اللاهوت الإنجيلية من 2000 إلى 2005 كانت مرحلة متصلة طويلة من الحلقات المتتالية من التفكيك الناقد ثم إعادة التركيب البعد نقدية.

التركيب البسيط للعالم
تنتج هذه الرؤية للعالم إيماناً بسيطاً مباشراً يعيشه الإنسان داخل عالم من المعاني لا يتعارض مع الواقع المادّي الذي يعيشه. هذه هي الحالة التي عاشها البشر في عصور ما قبل الحداثه قبل أن يختبر الإنسان ذلك الوعي الناقد الذي ميز عصر الحداثة. هذا الوعي الناقد  دفع الإنسان لأن يخرج خارج عالم المعاني الخاص به ليراه من الخارج ويحكم عليه بصورة موضوعية ويسأل: "هل هذه الأمور هكذا بالحقيقة؟[15]"  في هذه المرحلة البسيطة للإيمان، نفترض أن الأفكار التي في أذهاننا والكلمات التي في أفواهنا تطابق واقع العالم تماماً، مثلما يؤمن الأطفال أن بابا نويل هو بالفعل الذي دخل ليلاً  من النافذة بعربته التي تطير في الفاء تجرها الغزلان وترك لهم الهدايا التي يجدونها تحت الشجرة صباح عيد الميلاد.  هذا الواقعية الساذجة Naïve Realism   هي ما يحدث مع الأطفال الذين يولدون في أسر متدينة.  يفترضون وجود الملائكة الحارسة والتفسير التدبيري لكل حدث باعتباره إرادة الله المباشرة، والتفكير في الأقارب المنتقلين أنهم الآن في السماء فوقهم ينعمون بالفرح والسلام  ويلهون بالسحاب ككرات ثلج يتقاذفونها منتظرين الدينونة الأخيرة.  إنها الوحدة الساذجة مع العالم الرمزي وبالتالي الميل  لتفسير الرموز اللاهوتية تفسيراً حرفياً بسيطاً.  أذكر على سبيل المثال أول مرة ركبت طائرة مع أطفالي الصغار عندما سألتني ابنتي ذات الأعوام الثلاثة وقتها: " بابا نحن الآن فوق السحاب، أين الله؟"
أساسيّ في هذا النوع من الحياة أن يكون هناك توتر ولكنه ليس توتراً فكرياً وإنما هو توتر أخلاقي. في صورة ثنائية بين الخير والشر والله والشيطان. القضية الوجودية التي تشغل بال الإنسان في هذا النوع من الحياة ليست هي قضية البحث عن الحقيقة وإنما هي قضية مستوى الالتزام الشخصي،  بين الإيمان،  وعدم الإيمان، ومقدار الإيمان.  والسؤال الذي يسأله الإنسان لنفسه ليس: "هل هذه الأمور التي أؤمن بها حقيقية؟" وإنما: "هل أنا شجاع بما فيه الكفاية لكي أموت من أجل ما أؤمن به؟"

التفكيك الناقد
ما قدمه لنا القرن السابع عشر والثامن عشر هو وعي ناقد يميل إلى التفكيك التام لعالم ما قبل الحداثة كما يصر الطفل اليافع أن يفك اللعبة التي اشتراها له أبوه إلى كل أجزائها الصغيرة ليعرف ما بها بالضبط. هكذا الإنسان بنفس الشغف أراد أن يفكك الوجود كله ليعرف مم يُصنع هذا الوجود. هذا الوعي الناقد صنع هوة هائلة بين عالم المعاني والمعتقدات الدينية والعالم الموضوعي الخارجي، فها هو جاليليو جاليلي (1564- 1642) يؤكد ما قاله من قبل كوبرنيكوس (1473-1543) من أن الأرض ليست هي مركز الكون وأنها تدور حول الشمس وهكذا تطور الوعي الناقد والعلم التجريبي حتى استطاع الإنسان ليس فقط أن يطير فوق السحاب بل أن يصل إلى القمر وقيل[16] عن رائد الفضاء الروسي يوري جاجارين بعد أن صعد إلى القمر أنه قال ، مثل بنتي الصغيرة: " إنني لا أرى أي وجود لله هنا!"  إننا ينبغي أن نواجه الواقع.  نحن لا نستطيع بعد الآن أن نعيش بهذه البساطة في عالم الكتاب المقدس الذي يتوقع دائماً تدخلات فائقة للطبيعة من ملائكة وغيرها وأن السماء تقع خلف الغيوم.  باختصار، قد انقطعت علاقتنا الساذجة بالعالم الرمزي للكتاب ولم يعد العالم الحديث قادراً على رؤية الله في الطبيعة بنفس الطريقة التي كان يراه بها عالم قبل الحداثة، وإنما أصبح يرى أن الطبيعة تسير وفق منظومة مغلقة من الأسباب والقوانين الطبيعية و لم يعد الله موجوداً إلا في عالم القيم والمثل والأمور الذاتية. هذه الهوّة بين عالم المعاني والعالم المادي تقابل تاريخياً الهوة بين عالم ما قبل الحداثة بتركيبه البسيط للعالم وعالم الحداثة ذو الوعي الناقد الذي يميل لتفكيك كل شيء وهي الهوة التي يسميها اللاهوتيون "الهوة التفسيرية" Hermeneutical gap  التي تهتم بسؤال أساسي وهو: كيف نفسر رموز الكتب المقدسة بطريقة تستطيع  أن تكلمنا اليوم في عصرنا الذي قد تغير.
من المهم جداً أن ندرك، كما يقول بيترز، أن التفكير على مستوى السذاجة الأولى له مصداقيته الخاصة فهو ليس بالضرورة ضد العقل أو غير أمين أو ضحل روحياً. إن الرسالة الدينية (رسالة الخلاص) حقيقية وذات معنى بالنسبة للأطفال والبسطاء كما كانت بالنسبة للقدماء وبالنسبة لأي شخص آخر. وكما يقول ك. س. لويس أن الإنسان البسيط الذي يتناول عشاءه  سوف يستفيد منه دون أن يحتاج لأن يفهم تفاصيل العمليات الحيوية التي مر بها ذلك العشاء حتى يتحول إلى طاقة تحرك عضلاته.[17]
 ولكن عندما يتعرض الإنسان بطريقة أو بأخرى إلى الوعي الحداثي، وغالباً ما يحدث هذا من خلال التعليم، فإنه يدخل  نار الوعي الناقد الممحصة وعندئذ لا يمكنه العودة للوراء.  في هذه الحالة لا سبيل للحفاظ على الإيمان الحقيقي إلا بالتقدم للأمام.  بعد أن تركنا شاطئ السذاجة  ونزلنا خضم الوعي الناقد الذي يفكك كل شيء لا يمكن أن نعود للشاطئ. الأمل الوحيد هو أن نتقدم إلى الأمام و نسبح نحو جزيرة جديدة في عرض البحر.

الوعي الناقد والإيمان
هنا ينبغي أن نسأل سؤالاً هاماً: هل يتعارض الشك والوعي الناقد مع الإيمان؟  بالنسبة لكثيرين، الشك هو عدم الإيمان، والنقد يتعارض مع التصديق فلا يمكن للمؤمن أن يناقش أو يجادل وبالذات في موضوعات الإيمان الأساسية وعندما يفعل ذلك فإنهم يعتبرون أن إيمانه قد ضعف أو بدأ في الزوال.  أما إذا كان الإيمان يقبل الشك والنقد فما هي طبيعة ذلك النوع من الإيمان؟ هذا النوع من الإيمان ليس هو التصديق الساذج وإنما هو التكريس لحضور لا يمكن استقباله كما يُستقبَل الواقع المادّي، وهو يستند على فرضية أساسية وهي أن الله هو الحق وكما أن السعي إلى الله سوف يوصلنا للحق، فإن كل سعي صادق نحو الحقيقة لن يبعدنا عن الله بل سوف يقربنا إليه أكثر،  وبالتحديد سوف يقربنا لصورة أنضج وأكثر واقعية لله من الصورة القديمة الساذجة التي لم يكن البشر قادرين على استقبال ما هو أكثر منها في مراحل الطفولة الفكرية للبشر. هذا يعني أن الله سوف يعيننا على عبور هذه الهوة التفسيرية فيأخذ مما لله ويخبرنا في كل عصر من عصور نمونا الفكري، وكما كلم القدماء بلغة أسطورية ساذجة، يستطيع أيضاً أن يكلمنا بصورة نستطيع أن نفهمها ونقبلها في عالم الحداثة وبعد الحداثة.

الأصولية ليست "أصيلة"
إن كان الشك واللاأدرية والإلحاد مخاطر حقيقية تواجه الإيمان في عصر الحداثة،  فهناك خطر آخر لا يقل بعداً عن الإيمان الحقيقي من هذه المخاطر. هذا الخطر هو الأصولية. فإن كان الإيمان القبل حداثي "الساذج" إيماناً أصيلاً، فالأصولية ليست أصيلة ، بل هي رد فعل و موقف دفاعي اتخذه الإيمان كرد فعل للحداثة[18] ووعيها الناقد وكمحاولة يائسة للعودة للوراء لعصر البساطة بعد أن نزلنا رغماً عنا لبحر الحداثة.  للأسف الشديد بعد النزول لبحر الحداثة لا يمكن العودة للبساطة فكيف يمكنك أن تعود وتقنع أطفالك أن بابا نويل هو الذي يأتي بالهدايا بعد أن استطاعوا أن يسهروا ليلاً ورأوك أنت وأمهم وأنتما تضعان الهدايا بأنفسكما تحت الشجرة؟ لا يمكنك أن تقنعهم، فقط تستطيع أن "تقمعهم"  وتقول لهم أنهم إذا لم يصدقوا رواية بابا نويل فهم لا يحبون "بابا" و"ماما" لأن بابا وماما يريدانهم أن يظلوا مصدقين لرواية بابا نويل.  ولكي تعيد إلى أطفالك "إيمانهم" المفقود تملأ البيت بمنشورات وصور لبابا نويل وتذيع ليل نهار شرائط تصف شخصية بابا نويل و قصص تؤكد كيف أنه شخصية حقيقية وتتهم بالكفر والإلحاد وتهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور أي إنسان أو حتى حيوان تسول له نفسه في أن يشكك في رواية بابا وماما الصادقة عن بابا نويل. الهدف بالطبع ليس قمع الأطفال وإنما استعادة فرحهم البسيط بالعيد وبالهدايا. لكن السؤال: "هل من الممكن أن يستعيد الأطفال فرحتهم المستمدة من تصديقهم الحرفي لرواية بابا نويل؟ أم الأفضل أن نحاول أن نعيد تفسير رمز بابا نويل بصورة تصنع فرحة جديدة مناسبة لعمرهم ووعيهم الجديد؟
هذه هي قصة الأصولية والأصوليين، فلم يعد هؤلاء لأرض البساطة الخضراء التي تخترقها الأنهار دائمة الجريان، وفي نفس الوقت لم يصلوا لجزيرة الإيمان الحديث الوارفة التي تمطر عليها الأمطار طوال السنة.  وإنما في محاولتهم العودة لشاطئ البساطة،  وصلوا لجزيرة صخرية قاحلة في عرض البحر ظنوها شاطئ البساطة ورفعوا عليها علماً ضخماً كتبوا عليه "جزيرة الإيمان الحقيقي البسيط"  بالضبط كما ظن الأوربيون الأوائل الذين وصلوا لأمريكا أنهم وصلوا للهند ولذلك سموا سكانها "بالعافية" بالهنود الحمر!
كلنا نشتاق للعودة لبساطة الطفولة وتصديق قصة بابا نويل وأنا شخصياً، وغيري كثيرين يشاركونني مشاعرهم، كلنا نشتاق للعودة لبساطة الإيمان الأولى في سنوات الشباب قبل أن نرى ما رأيناه ونفهم ما فهمناه. لكن هيهات للماضي أن يعود.  وللأسف رأيت البعض يغرقون في عرض بحر الحداثة ويفقدون إيمانهم وإن احتفظوا بصور هيكلية له. ورأيت أيضاً الكثيرين من الذين قاوموا التطور وأصروا على أن يظلوا في مكان البساطة، رأيتهم يتحولون دون أن يدروا للأصولية ويظهر ذلك عليهم في صورة تعصب وعصبية وعصاب. التعصب هو ضيق الأفق وعدم القدرة على رؤية الأمور من مناظير مختلفة. و العصبية هي الغضب و سهولة الاستثارة والهجوم بعنف على كل فكر جديد أو مخالف وهي  بطبيعة الحال ناتجة من التعصب. أما العُصاب Neurosis فهو الإصابة بأمراض نفسية مثل الاكتئاب أو القلق أو اضطرابات الشخصية بسبب الحياة في حالة من التعصب والعصبية وربما اللجوء لإدمانات مختلفة (ربما تكون إدمانات حسنة المظهر مثل إدمان العمل أو الخدمة أو الدين) وذلك حتى يستطيع الإنسان أن يضيق مساحة وعيه ويحتمل الحياة على جزيرة الأصولية القاحلة.
في العدد القادم سوف نواصل الكلام عن سمات الأصولية الدينية التي تشترك فيها كل أنواع الأصوليات مهما كان الدين.


سمات أخرى للأصولية
تتميز الأصولية بعدة سمات أرى أنها كلها تنبع من التفسير الحرفي للكتاب وهي الموقف السلبي أو على الأقل المتشكك من كل شيء إنساني. كالديمقراطية مثلاً و حقوق الإنسان و العلوم. ويوجد لدى الأصوليون عداء خاص مع العلوم الإنسانية مثل الفلسفة أو علم النفس ربما لأنهم يرون أنها تنافس الكتاب المقدس في تقديم تفسيرات ميتافيزيقية للحياة والإنسان. من هذا المنطلق تتوقع الأصولية وتفترض أن حلول كل شيء سواء كان مادياً أو معنوياَ، روحياً أو نفسياً أو اجتماعياً يمكن الحصول عليه فقط من خلال الالتزام بالصلاة وبنصوص الكتب المقدسة بتفسيراته الحرفية التي يقدمونها وأي شيء خلاف ذلك يعد هرطقة وخروجاً عن الإيمان. الكتب المقدسة بالنسبة للفكر الأصولي،  فيها كل شيء نحتاجه ويصلح لعلوم الدين والدنيا. والأقل تشدداً منهم يمكن أن يقبلوا مقولات العلم الحديث بشرط أن توجد لها مبررات وتفسيرات كتابية مباشرة ولا يقنعون بتفسيرات "لاهوتية" تستقي المبدأ الروحي من الكتاب المقدس وتطبقه على الحياة الحاضرة،  وإنما يريدون دائماً اقتباسات حرفية مباشرة. أما اللاهوت (الفقه) الذي توافق عليه هذه المدرسة فهو فقه مدرسي غير نقدي  لا يقبل إلا التفسيرات الحرفية للكتب المقدسة.

الاصولية والانكفاء على الماضي
بالرغم من أن صُلب "ملكوت السموات" الذي جاء المسيح ليكرز به هو أنه ملكوت مستقبلي يستشرف أرضاً جديدة وسماء جديدة وخليقة جديدة تماماً، إلا أن المسيحيين اضطروا تحت ضغط الحداثة والروح المعادية للدين أن يتمسكوا بالماضي هرباً من رياح الماديّة ففقدوا العنصر الأساسي لإيمانهم وهو الإيمان بالمستقبل واستبدلوا به الماضي. هكذا أصبحت الكنيسة الأولى هي المثال وأسلوب الحياة فيها هو الأسلوب الذي يشتاقون إليه مرددين كلام المسيح عن أن المؤمنين به سوف يعملون الأعمال التي يعملها هو بل وأعظم منها، ولم يدركوا أن نفس هذه المقولة التي يقتبسونها وبالذات عبارة "أعظم منها"  هي مناقضة تماماً لما تهفو إليه قلوبهم من "عودة" عصر الرسل! الأصولية  ثقافة وضعت عينها في قفاها خوفاً من المستقبل الذي تجهله.
التركيب البعد نقدي  Post-critical Reconstruction
بعد أن  تَرَكَنا الوعي الناقد واللاهوت النقدي الحديث في عرض البحر، لم نعد نستطيع العودة لشاطئ البساطة الوارف وفي نفس الوقت لا  نريد أن نذهب إلى جزيرة الأصولية الصخرية.  في هذه اللحظة  من تاريخ الحضارة الغربية تتم دعوة اللاهوتيين للإيمان بأن هناك في مكان ما، جزيرة خضراء يمكن للإيمان أن يحيا عليها وهي ليست شاطئ البساطة وليست أيضاً جزيرة الأصولية الميتة. هذه الدعوة هي دعوة لإعادة تركيب عالم المعاني بعد أن قام الوعي الناقد بتفكيكه تماماً ولكن إعادة تركيبه بصورة جديدة تصلح لعالم ما بعد الحداثة.
عندما وجد الوعي الحداثي التعبيرات الكتابية غير متوافقة مع العلم الحديث، قرر أن يلقي بهذه التعبيرات ومعها رموز الإعلان الإلهي نفسها، في عرض البحر. فعلى سبيل المثال قرر اللاهوت المتحرر أن المسيح لم يقم فعلاً بشكل موضوعي وإنما كانت قيامة المسيح خبرة "ذاتية" للتلاميذ شعروا بها أما جسد المسيح نفسه فقد مات وشبع موتاً وذلك لأنهم تأثروا بالفكرة الحداثية التي لا تقبل حدوث المعجزات في الواقع المادي وإنما تقبل بحدوثها فقط في الواقع الذاتي الاختباري. فيقولون مثلاً أن معجزة القيامة هي قيامة الإيمان مرة أخرى" في قلوب" التلاميذّ!
أما الأصوات البعد حداثية فهي تشكو من أن المحدثون قبلوا بفرح الفكرة الخاطئة بأن المعنى في الحياة هو بالضرورة ذاتياً تماما وأن المعنى تخلقه الذات ولا يوجد في العالم الخارجي أي معنى أو تفسير إلا التفسير المادّي. والنتيجة الطبيعية لذلك هو شعور عميق بالوحدة والجوع الروحى يميز البشر في عصرنا الحالي. لقد تركت الحداثة البشر تائهين في عرض محيط اللامعنى وفي نفس الوقت لا يستطيعون أن يعودوا لشاطئ السذاجة وبالطبع لا يريدون أن يذهبوا لجزيرة الدين الأصولي السلطوي بل يظن الكثيرون منهم أن أي عودة للدين أو للروحانية المسيحية هي عودة لواحد من هذين الخيارين. و يكتب بول ريكور[19]: " إننا نتمنى أن نسمع دعوة تنادينا مرة أخرى للعودة من صحراء النقد" ويحتج قائلاً أن ما نحتاجه هو تفسير بعد نقدي وفي نفس الوقت إنجيلي محافظ[20] للرموز القديمة  وذلك من خلال أن نشاركها عالم معانيها وندعها تخاطبنا الآن في عالمنا. كانت روحانية ما قبل الحداثة تميل للتفسير الساذج للعالم، ثم عندما جاءت الحداثة بوعيها التفكيكي الناقد المدفوع بالعلم والنزعة الإنسانية التحررية. البعض جرفتهم رياح إما الشك واللاأدرية وبما الإلحاد وأحياناً اللاهوت المتحرر. والبعض الأخر رفضوا أن يجتازوا هذا التفكيك الناقد وأرادوا أن يعودوا للبساطة فلم يعودوا إلا للأصولية. آخرون بسبب الجوع الروحي لله و رفض التدين الأصولي السلطوي، إما تحركوا نحو الروحانية غير السماوية من ديانات شرقية أو فلسفات مثل العصر الجديد أو غيرها أو قرروا أن يجتازوا إعادة التركيب لعالم المعاني الكتابية وإعادة تفسير الرموز المسيحية في صورة لاهوت بعد حداثي محافظ وهذا ما أحاول من خلال هذا الكتاب أن أشير إلى احتياجنا الشديد إليه.
من هذا المنظور نعتبر أن كل من الإيمان البسيط القبل حداثي الخالي من الشك، والإيمان الحداثي المليء بالشك والنقد وأيضاً الإيمان البعد نقدي المحافظ، كلها صور مسيحية أصيلة بمعنى أنها تؤدي إلى نمو حقيقي في العلاقة بالله والنفس والآخرين. أما الخيارات الأخرى، وإن كانت لها صور شبه مسيحية مثل اللاهوت المتحرر أو الأصولية فهي ليست كذلك.


أما عندنا في الشرق فالوضع يختلف قليلاً فالأصولية خيار أكبر وربما الأكبر منه هو التدين الشكلي الذي يمارسه الإنسان دون اقتناع عميق  وذلك فقط لكي يكون مقبولاً من المجتمع وبالتالي لا يؤثر "إيمانه" هذا في سلوكه اليومي أما الروحانية اللاسماوية والفكر المادي اللاديني فأقل منهما في الغرب بنسبة كبيرة.
اللاهوتي المسيحي هو أصلاً لاهوت بعد نقدي
وبعد أن استعرضنا الوضع الروحي المعاصر في الشرق وفي الغرب يمكننا أن نعود للتاريخ لنكتشف أن المشهد في القرون المسيحية الأولى لم يكن مختلفاً كثيراً عن المشهد في العصر الحديث فالتاريخ، كما يقولون، يعيد نفسه في حلقات متشابهة ولكن بشكل متطور ومتصاعد كلحزون صاعد لأعلى. كان المشهد الروحي عندما جاء المسيح للعالم مشابهاً نوعياً للمشهد الحالي. كانت أورشليم وكل اليهودية والجليل تختبر حراكاً سياسياً واجتماعياً ودينياً شديداً. الصدوقيون وهم طائفة الكهنة الذين لا يؤمنون إلا بأسفار التوراة الخمسة ويحفظون طقوس الذبائح في الهيكل هم الذين يمثلون الدين الرسمي ومعروف عنهم تواطئهم مع الحكومة واشتراكهم معها في نفس درجة الفساد وحب المال. كانت طائفة الصدوقيون تمثل الطائفة الليبرالية التي تقيم الطقوس والشرائع في العلن لكن إيمانها يميل إلى المادية، فقد كان الصدوقيون يؤمنون أن النفس تموت مع الجسد ولا توجد قيامة أموات ولا خلود بعد الموت.  لم يؤمنوا بوجود الملائكة أو الشياطين أو أي كائنات غير منظورة وإنما وكانوا يؤمنون أن الله يبارك الإنسان الصالح بركة مادّية هنا في الأرض وكفى.  أما الفريسيون فكانوا يمثلون التيار المحافظ وإن لم تخل محافظتهم من أصولية سلفية. كانوا ، بسبب محافظتهم يؤمنون بكل الكتاب من توراة وأنبياء إلا أن أصوليتهم ظهرت أيضاً من خلال تفسيراتهم الحرفية للكتاب المقدس، التزامهم المبالغ فيه بكتب طقسية عديدة وتفسيرات شديدة الدقّة لكل أمور الحياة كما أنهم ادعوا وجود تقليد سماعي عن موسى تناقله الخلف من السلف وزعموا أنه معادل لشريعته المكتوبة. من حيث العقيدة كانوا يؤمنون بخلود النفس وقيامة الجسد ووجود الأرواح والجنة والنار، غير أنهم حصروا الصلاح في طاعة الناموس فجاءت دياناتهم ظاهرية وليست نابعة من القلب.
وسط هذه الخريطة الدينية تاقت أرواح الناس وبخاصة الشباب الذين يبحثون عن الصدق والحقيقة إلى خبرة روحية  حقيقية تقرب الإنسان من الله ومن أخيه الإنسان وتعطيه معنى جديداً لحياته متحرراً من الدين الرسمي والشعبي على حد سواء. تاقت القلوب إلى علاقة روحية شخصية مباشرة بالله بعيداً عن تقاليد الدين وتسلط رجاله على الناس و ظهر هذا الشوق لله وللخبرة الروحية في صور عديدة فهناك من ظل متمسكاً باليهودية ومنها أيضاً من كفر باليهودية تماماً وذهب وراء الديانات السرية ذات الأصول الوثنية.
من بين حركات التجديد الروحي اليهودية التي قامت في القرون الميلادية الأولى حركة الآسينيين الذين يقال أنهم تفرعوا من الكهنة الصدوقيين رافضين ديانتهم المادّية وعاشوا في مجتمعات صغيرة في الصحراء حياة صوفية من النسك والفقر الاختياري ممتنعين عن الزواج أو أي من مباهج الحياة. من بين الآسينيين جماعة وادي قمران وغيرهم عاشوا متوحدين في أنحاء متفرقة من صحراء اليهودية.
أما الديانات السرية  فكانت عديدة أهمها كانت ديانة مثرا التي كانت شائعة بالذات داخل الجيش الروماني من القرن الأول إلى الرابع الميلادي وهي منسوبة للإله الفارسي مثرا المولود من صخرة. و تتم عبادة مثرة في معابد سرية  تحت الأرض ومن ينضم لهذه الجماعة عليه أن يمارس طقوس خاصة فيها يقوم بذبح ثور والشرب من دمه والاغتسال بهذا الدم إيذاناً بولادته من جديد في الدين المثرائي ثم بعد ذلك يرتقي الداخل في هذا الدين سبعة رتب في الجماعة بقدر وفاءه بالطقوس والعهود.  كانت هذه الديانات السرّية تقدم للناس خبرة خاصة وتشبع احتياجاهم للعلاقات الحميمة وللدخول في مجتمع  آخر غير المجتمع  الذي يشعرون بفساده واليأس من تغييره.

وسط كل هذا جاء "حدث" المسيح بكل ما فيه من تعليم يكمل الناموس ويعيده لمعناه الأصيل وبكل ما فيه من إظهار لقوة الله المعجزية ونعمته المغيرة. كان الإيمان بالمسيح يمثل "وعياً ناقداً" جديداً للحياة الدينية اليهودية. هذا الرجل الناصري كان يعلم بسلطان وكأنه هو صاحب الناموس ويصنع معجزات لا يصنعها أحد إن لم يكن الله معه، وفي نفس الوقت يقول عن نفسه أنه ابن الله جاعلاً نفسه مساوياً لله. اصطدم يسوع بالمؤسسة الدينية اليهودية صداماً أدى إلى الحكم عليه بالإعدام صلباً، لكن تلاميذه بعد أن فقدوا إيمانهم به بعد صلبه عادوا وآمنوا به بصورة أقوى مما كانوا عليه وبشروا بقيامته في العالم المعروف كله في ذلك الوقت ومات أغلبهم شهيداً دون هذا الإيمان.
كانت هناك ردود أفعال متباينة لمن عاصروا هذا الحدث ومن وصلت إليهم أخباره. أغلب الشعب افتتن بتعليمه وأعماله وظنوه المحرر السياسي الذي سوف يعتقهم من بطش الرومان وسيطرة الفريسيين وفساد الملك وحاشيته، لكن عندما قُبض عليه واستسلم بهدوء احتقروه وطالبوا بصلبه وعادوا إلى معتقداتهم الدينية التي كانوا يؤمنون بها. وعندما قام وشهد تلاميذه بقيامته، آمنت به جماعة كبيرة من كل طوائف الشعب، الكهنة والفريسيين والخطاة والعشارين والغيورين والآسينيين وغيرهم. حتى الرومان والسامريون آمنوا به.

ثم يخبرنا العهد الجديد في سفر أعمال الرسل أن صراعاً نشأ في الكنيسة الأولى على مستويات عدة منها المستوى الطقسي حيث صارع المسيحيون الأوائل مع قضايا طقسية مثل الختان وما يجب أن يتبعوه من ناموس موسى وكانت هناك طائفة ممن كانوا يسمّون التهوديين الذين كانوا يشترطون أن المؤمنين بالمسيح من الأمم يجب أن يتهوَّدوا أولاً ويختتنوا قبل أن يصيروا مسيحيين. صحيح أن الإصحاح الخامس عشر من سفر الأعمال يخبرنا عن أول مجمع مسيحي حدث فيه نقاش محتدم بين الفرق المختلفة واستطاع الرسل أن يحسموه ويصلوا إلى حل وسط. لكن الصراع ظل متواصلاً بين التفسيرات الحرفية للعهد القديم والوعي الجديد الذي يقدمه حدث المسيح  وظل التهوديون وغيرهم كطوائف يمكن أن نسميها مسيحية يهودية أصولية لم تستوعب حدث المسيح كما هو بالحقيقة وحاولت أن تضعه في قالب يهودي أصولي قديم. ظل هذا الصراع حتى وصل إلى نقطة حاسمة في القرن الرابع الميلادي في صورة مجمع نيقية الذي أعتقد أنه كان أول محاولة لصياغة لاهوت بعد نقدي دياليكتي Dialectic فقد كانت الأطروحة الأولى Thesis التي يقدمها العهد القديم هي أن الله واحد والأطروحة الثانية Thesisهي أن المسيح هو أيضاً الله الظاهر في الجسد والروح القدس هو أيضاً الله الحال في الكنيسة ويصنع بها وفيها نفس ما صنعه المسيح وأكثر. وبعد صراع شديد، استطاع أثناسيوس الرسولي الأسقف السكندري أن يصيغ لاهوتاً توليفياً Synthesis بعد نقدياً  Post-critical  هو لاهوت الثالوث. أما الفريق  الثاني بقيادة آريوس ونسطور الذي لم يؤمن بهذا اللاهوت فقد شكل نوعاً من المسيحية اليهودية الأصولية التي لا تؤمن بالثالوث ولاهوت المسيح. وظل هذا النوع من المسيحية منفصلاً ن التيار الرسمي للكنيسة المسيحية ومضطهداً منها وتم نفي الكثيرين من أتباع هذا النوع من المسيحية في الصحاري والبوادي ومنها الصحراء العربية.

القوى الدافعة
في كل المجتمعات البشرية كانت دائماً توجد قوى دافعة للتحرك للأمام نحو الحداثة وبعد الحداثة. صحيح أن التحرك للأمام هو عمل الله في الجنس البشري الذي يدفعه نحو مستقبل من اكتمال المعنى والحياة، إلا أن هذه القوى البشرية هي التي لديها، بسبب تكوينها، قدرة أكبر من غيرها على التقاط إشارات التطور التي يرسلها روح الله بصفة مستمرة للعالم. هذه القوى البشرية لا تتمثل فقط في الأنبياء وإنما تتمثل أيضاً في المفكرين واللاهوتيين والفنانين والسياسيين والمصلحين الاجتماعيين. منذ الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب إلى وموسى وإيليا وإرميا، ثم  بولس ويوحنا، ثم إراسموس و مارتن لوثر وجون كالفن ثم رجال عصر النهضة والاستنارة والحداثة مثل هيجل وكانط وكيركجارد و داروين ونيتشة وفرويد واللاهوتيين مثل توما الأكويني وأنسلم و  بونهوفر وتيليك وايضاً المصلحون الاجتماعيون عبر العصور مثل ويليام ويلبرفورس(محرر العبيد) ومارتن لوثر كنج والأم تريزا وغيرهم كثيرون وكثيرات. كل هؤلاء قادهم الله  لتحرير الروح الإنسانية وقيادتها إلى أفاق أبعد من الوعي والحياة.
وانطلاقاً من خبرتي الخاصة في العلاج النفسي والخدمة الروحية، أريد أن أشير إلى مجموعتين من الأشخاص ليسوا دائماً من المشهورين أو أعلام الفكر وإنما هما  قوتان من البشر العاديين الذين أرى أنهم شديدوا التأثير في عالمنا داخل كل شعب وثقافة وفي كل عصر من العصور.  هاتان المجموعتان هما المجموعتان الأكثر توقاً للتغيير والأكثر استشعاراً بفشل الحاضر واحتياجنا لشيء جديد يستأهل أن نخاطر ونذهب إلى المستقبل من أجله معرضين أنفسنا للموت في الصحراء أو في عرض المحيط تماماً كما اضطر غير المتوافقين مع المجتمع الأوربي بصور مختلفة أن يغامروا بالإبحار غرباً حتى وجدوا العالم الجديد.
المجموعة الأولى هي الشباب الذي بسبب المرحلة التطورية التي يمرون بها يستطيعون أن يروا أكثر من غيرهم ما بعالمنا من ضعف وشيخوخة ويرصدون ما به من تناقضات قبلها الجيل الأكبر كحقيقة من حقائق الحياة التي لا يمكن تغييرها ثم أصابهم الوهن وخفتت فيهم جذوة التغيير ومالوا لأن يبقى الحال كما هو عليه. يأتي الشباب ويقولوا "لا" لهذا الموت والركود.  الشباب أيضاً بسبب المرحلة العمرية التي يجتازونها هم الأكثر ميلاً للحرية وتحت شعار التحرر من السلطة الوالدية لتحقيق ذواتهم يميلون للتحرر من كل السلطات،  وبسبب توقهم لعلاقات جديدة خارج الأسرة تساعدهم لتكوين شخصياتهم الفريدة،  يميلون لقبول الآخرين المختلفين عرقياً ودينياً وفكرياً ويميلون للنزعة الإنسانية المتحررة.  بالإضافة لذلك يعتبر الشباب أيضاً أكثر المجموعات البشرية تعرضاً للعلم الأحدث بسبب أنهم يمرون في مراحل التعليم،  وهكذا يتعرضون للاكتشفات العلمية التي تتحدى طرق التفكير الأقدم في كل مجالات الحياة.
الفئة الثانية التي تستشعر دائماً التغيير هي مجموعات البشر التي لا تشعر بالراحة في العالم الحالي سواء اجتماعياً كالعبيد والأقليات، أو اقتصادياً كالفقراء والعاطلين،  أو نفسياً كضحايا الإساءات النفسية والروحية بكل صورها. هؤلاء، كما يقول المسيح، هم الذين قبل غيرهم يستشعرون الملكوت الجديد ويقبلونه قبل غيرهم فيدخلونه. هم المساكين بالروح  أي الفقراء روحياً الذين لا يستطيعوا السيطرة على أرواحهم بسبب الإدمان والخطايا المزمنة. وهم الحزانى الذين فقدوا أرواحهم إما بفقدان الأب والأم في سن مبكرة أو فقدان الطفولة بسبب تعرضهم للجروح والانتهاكات العنيفة نفسياً وجنسياً. وهم الودعاء[21] أي الضعفاء الذين لا يستطيعون المطالبة بحقوقهم الشخصية أو السياسية فيظلمهم الناس دائماً.
هؤلاء هم أهلي و أصدقائي الذين أنتمي إليهم وأقضي معهم أغلب أوقاتي وقد اكتشفت أنهم (وأنا منهم) هم الأقدر على استشعار الاحتياج الروحي الحقيقي ورفض المادية والأصولية على حد سواء.  فإذا كان المصاب بالأزمة الصدرية هو أول من يستشعر تناقص الأكسجين في مكان ما، فهؤلاء هم الأقدر على استشعار تناقص مستوى القبول غير المشروط وغياب إنجيل النعمة في مكان ما. هم الأكثر احتياجاً لله الذي هو مصدر الحب الحقيقي في هذا العالم فلا يستطيعوا أن يعيشوا في عرض بحر الحداثة، وهم أيضاً الذين يموتون روحياً بسرعة إذا وجدوا أنفسهم على الجزيرة الصخرية الجافة للتدين الأصولي. هؤلاء هم الواقفون دائماً عند التخوم،  بين الموروث الذي لا يفي بالاحتياج والجديد الباعث على الخوف، بين ما يراه أغلب الناس ولا يرونه هم، وما يرونه هم ولا يراه أغلب الناس، بين التوق للحميمية والشوق للتمرد، بين العطش للانتماء والجوع للهوية. أنهم غير الراضين،  الساهرون على الحدود يتنظرون الفجر ويرصدون مجيء عصر جديد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق