الاثنين، 19 أغسطس 2013

الحق والرحمة


كعادة الأزمات الطاحنة، التي تُدمي القلب، فهي أيضاً تَكشِف وتُعَلِّم. وأتصوَّر أن أهم ما أتعلَّمه الآن وأريد أن أُشارِك به، هو ذلك الاتزان والتوتّر الجدلي القائم دائماً بين العدل والرحمة.
(وبالمناسبة التوتر الجدلي بين شبه نقيضين يجتمعان؛Paradox هو مصدر الحياة فتيار الكهرباء ينشئ من السالب والموجب، والحياة تنشئ من الذكورة والأنوثة)

أما بالنسبة للحياة الروحية التي قد بثّها الله في الإنسان ويدعوه إليه دائماً فهي تنشأ من توترٍ جدليٍ دائمٍ  بين الحق والعدل من ناحية والرحمة والغفران من ناحية أخرى.
 فإن كنا نقول أن العلامة المائية للإيمان الحقيقي بالإله الحقيقي هي المحبة وليست التوحيد، فالشيطان يعرف ويؤمن أن الله واحد، بل ويقشعِّر من ذلك الإيمان، إلا أن ليس لديه محبة.
وما هي المحبة التي نقصدها؟
المحبة التي أعلن الله أنها صميم طبيعته: "الله محبة" ،تحوي داخلها اتزاناً دقيقاً  وتوتراً جدلياً دائماً dialectic بين العدل والرحمة.

العدل محبة... والرحمة محبة....

الله يبدأ بالرحمة في التعامُل معنا، لأننا نحتاجها، فنحن خُطاة. لذلك فإن الرحمة والأمانة (النعمة، أو القبول غير المشروط) تتقدمانه، وبهما يصبر ويتأنى ويعطي فرصةً تلو الأخرى. لكن هذا لا ينفي أبداً أن العدل والحق قاعدتيّ كرسيه.

أما نحن البشر الفاسدون، فيظهر اضطرابنا بوضوح عندما نُغلب الرحمة على العدل أو العدل على الرحمة. وإذا فتحنا الصورة قليلاً سوف نجد أن:

* العدل بدون رحمة ينتقص من المحبة، لأن المحبة دائماً تصبر وترجو وتعطي فرص (وهذه هي الرحمة)

*  والرحمة بدون عدل تنتقص من المحبة أيضاً، لأن غياب العدل، وإن كان يبدو حُباً لمن لا تمارس العدل معه، فهو كراهية لمن سوف يتأثر بغياب العدل وإن كنت لا تراه الآن أمامك.

العدل رحمة والرحمة عدل، والاثنان معاً في توازن جدلي دقيق هما المحبة الحقيقية.

ولعل الأحداث التي تمر بها مصر تكشفنا أمام أنفسنا وتكشف ميلنا للعدل على حساب الرحمة أو الرحمة على حساب العدل، وهذا يعني أن محبتنا ناقصة، وهذه هي الحقيقة البشرية الأكثر مأساوية. لكننا نكتشف أيضاً أننا كلما اقتربنا من الله وزاد انطباع صورته فينا، كنا أقرب شيئاً فشيئاً للاتزان بين العدل والرحمة.

وبالنسبة لي شخصياً، توجد قضية لا تتوقف عن أن تُعَلِّمني دائماً توازن العدل والرحمة، وهي قضية المثلية (الشذوذ الجنسي)، وهي من القضايا الكاشفة بشدة لأزمتنا مع المحبة، وأزمتنا مع غياب الاتزان الدقيق بين العدل والرحمة داخلها.

* أوربا في العصور الوسطى، والشرق العربي الآن يمارس "غياب الرحمة" مع المثليين ويتّهم من يرى أنهم "مرضى" أنه يُدَلَّلهم ويرى أنهم ينبغي أن يعاقبوا، إلى درجة القتل، ويرى أن هذا هو "العدل" وهذا غياب صارِخ للمحبة. وعدم فهم لحقيقة الأمر وهو أنه ليس تماماً باختيارهم، فهناك عوامل وراثية وعوامل تنشئة حدثت في سنوات العمر الأولى، أدّت إلى هذه الميول، وإن كانت الممارسات خاضعة (نسبياً) للإرادة.

* أوربا الحالية، وبعض من تأثروا بالفكر السائد فيها حالياً، يمارسون غياب الحق، فتحت شعار قبول المثليين وحقوق الإنسان تم التصالح مع "المثلية" نفسها كمرض وهذا في ظاهره "رحمة" لكن في باطنه عذاب، وكلام حق يراد به باطل. فعندما يغيب الحق (العلمي) تتحول الرحمة إلى كراهية وليس إلى حُب.
فتحت هذا الشعار، يتم دفع المراهقين (الذين ربما يعانون من بعض الاضطراب في الهوية الجنسية في فترة المراهقة) نحو المثلية، التي ثبت بالدليل القاطع (الذين يحاولون التغطية عليه من جانب نفس الإعلام الذي يدافع الآن عن الإرهابيين بدعوى حقوق الإنسان)، ثبت بالدليل القاطع أن المثلية تؤدي إلى أغلب الاضطرابات النفسية وبالتحديد الاكتئاب الذي يؤدي للانتحار، هذا فضلاً عن الإيدز بالطبع. فهذه الرحمة (الظاهرية  تجاه إنسان بعينه، هي عنفاً وقسوة ضد أجيال أخرى.

* قبول المثليين غير المشروط والرحمة معهم ومراعاة حقوقهم وعدم حبسهم بسبب ميلهم (أو حتى ممارستهم المثلية) رحمة ومحبة، لكنها لا ينبغي أبداً أن تتحول إلى موافقة على المثلية لأن مثل هذه الموافقة تُعَدُّ "كراهيةً" لأجيال قادمة.

* الشفقة والترحُّم على الذين ماتوا بسبب أفكارهم المشوشة، وحتى بسبب أفعالهم الإرهابية، وعدم الشماتة فيهم، رحمة ومحبة، لكن لا ينبغي أن تتحول أبداً إلى التصالح مع الإرهاب والتهاون معه، أو مع هيبة الدولة وسيادة القانون، فهذا التهاون هو ظلمٌ  وكراهية وعدم رحمة لآخرين تسيل وسوف تسيل دماءهم بسبب الإرهاب والإجرام وغياب هيبة الدولة.


أستطيع أن أرى كثيراً في قلبي أنا شخصياً ميلاً للرحمة على حساب الحق، وميلاً للانتقام على حساب الرحمة والمحبة. لكن هذا هو "فسادي" الإنساني الذي عليّ أن أقاومه وأميته كل يوم،
هي ذاتي المزيفة الميتة التي  ينبغي أن أميتها كل يوم لكي أحيا. وأنمو. أنمو نحو صورة الله المطبوعة في أعماق كل إنسان والتي يدعوه الله إليها كل يوم. صورة  المحبة التي تحوي بداخلها اتزاناً عجيباً ورائعاً وصانعاً للحياة ،بين الحق والرحمة. البر والسلام.



السبت، 10 أغسطس 2013


4

معمودية يسوع

بالرغم من أن يسوع كان قد وصل إلى سن الثلاثين، إلا أن القصص القديمة عن نسبه، لا تزال تُروى  بين الحين والآخر. فالجميع يعلم أن مريم وُجِدت حبلى قبل زواجها من يوسف، وأن يوسف هو الرجل الطيب الذي ستَرَ عِرضَهَا، وصدق روايتها عن الحلم الذي رأت فيه ملاكاً يُبَشِّرُها بأنها سوف تحبل بعمل إلهيّ مُعجِزي، وأن وليدها لن يكون ابناً لبشر بل سيُدعى "ابن الله"، وكيف أن بعد هذا الحلم الغريب مباشرة توقفت الدورة الشهرية بالفعل، وبدأت تشعر بالحمل. ومن القصص المنتشرة أيضاً أن يوسف هو الآخر رأى رؤيا تطمئنه لرواية زوجته. لم يكن صعباً على يوسف أن يُصدق مريم التي كان مشهوداً لها بالتقوى والصلاح في قريتها الناصرة بالجليل. إلا أن هناك قصص أخرى انتشرت تتهمها بالزنى مع جندي رومانيّ.
 شّبَّ يسوع وسط هذه الشائعات وعندما كان طفلاً، كان كثيراً ما يعود لأمه من كُتّاب الهيكل باكياً بعد أن اتهمه أحد الأطفال أنه ابن زنا. وفي كل مرة كان يحدث أمراً كهذا، كانت مريم تُصّلِّي وكان إيمانها يساعدها على الاستمرار. ويسوع نفسه كان طفلاً غريباً فقد كان يحلُم أحلاماً غريبة في يرى فيها نوراً شديداً وصوتاً يقول له: "انت ابني الوحيد" وكان يقص هذه الرؤى على أمه التي كانت تحفظها في قلبها. نفس هذه الصوت سَمِعَهُ يسوع عندما خرج من الماء عندما ذهب ليعتمد من يوحنا المعمدان في بيت عَنْيا على نهر الأردن. ولكن هذه المرة سمع الصوت وسط النهار وهو في كامل اليقظة مما جعله يشعر بحيرة ممزوجة بفرح غريب. بعد هذه الحادثة بالتحديد، شعر يسوع أنّ الأوان قد آن لكي يترك عمله في النجارة ويتفرغ للخدمة الروحية، لكنه قرر أن يقضي في صحراء الأردن فترة صوم وصلاة طويلة قبل بدء الخدمة.
بعد المعمودية وبعدما عاد يسوع من صحراء الأردن إلى بيت عنيا بدء يفكر في تكوين فريق من التلاميذ والعودة للجليل. وذات مرة كان يوحنا المعمدان واقفاً مع أول تلاميذه أندراوس ومعهما بنيامين القُمرانيّ الذي بعد أن اعتمد من يوحنا، كان يجيء بين الوقت والآخر ليقضي معه ومع تلاميذه بضعة أيام يعود بعدها إلى جماعته في المستعمرة.  قال يوحنا بعد أن نظر إلى يسوع ثم أطرق معلقاً عينيه على الأفق وبدا مستغرقاً في تأمل يفصله عن العالم كله....
-        هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم
-         ما الذي يجعلك تقول هذا أيها المُعَلِّم، ومن تقصد؟ هل تقصد يسوع؟ أنت لم تره إلا من مدة قصيرة.
-         لا أعلم.. ولكنني عندما كنت أعمده رأيت شيئاً غريباً. جاءت حمامة بيضاء ووقفت على كتفه بعد أن خرج من الماء وشعرت كما لو كانت هذه الحمامة رمزاً لروح الله، ثم، باعتباري من العائلة، فأنا أعرف قصة ميلاده.
-         قصة ميلاده؟
-         نعم. لم يولد يسوع بطريقة عادية مثلنا. لقد ولد مباشرة من الله
-         مباشرة من الله. ما معنى هذا؟ أنا أعلم أن أباه نجّار من الناصرة
-         هذا زوج أمه وهو قد ربّاه كأبيه تماماً، لكنه مولود ولادة روحية من الله مباشرة. تستطيع أن تقول أنه "ابن الله"
-         ابن الله؟ أستغفر الله العظيم. وهل اللهُ إنسان مثلنا فيلِدَ ويُولَد؟
-         يَلِدَ ويولَد؟ بالطبع لا. لك معي كل هذا الزمان يا أندراوس ومازلت تفكر بهذه الطريقة الجسدية التي يفكر بها الكهنة في أورشليم؟
بالرغم من عدم قبول أندراوس لما يقوله يوحنا إلا أنه شعر بفضولٍ شديد أن يتعرف على يسوع فمشى هو وبنيامين وراءه، وعندما لاحظهما يسوع التفت وقال: ماذا تطلبان؟
-         أين تمكث يا مُعَلِّم؟
-         تعاليا وانظرا
فذهبا معه إلى الخيمة التي كان يسكن فيها وكانت الساعة الرابعة بعد الظهر. وظلَّ الثلاثة يسوع وأندراوس وبنيامين معاً وسهروا لوقت متأخر من الليل حيث كان يسوع يتحدث إليهما ويعلِّمهُما عن مملكة الله ويجيب كل تساؤلاتهما. حتى أن أندراوس قال في نفسه. أن لم يكن يسوع هذا هو المسيا فمن عساه يكون المسيا؟ و في الصباح هرع أندراوس إلى الخان حيث كان يبيت مع سمعان أخاه و بمجرد أن رأه صرخ سمعان في وجهه: أين كنت أيها الفتى الأخرق تتركني وتبات في مكان آخر دون أن تخبرني. لقد كدت أموت بالأمس من القلق وبحثت عنك في كل مكان، وهم بأن يمسك بتلابيبه ويضربه.
-        مهلاً يا سمعان ..اسمع.. عندما أقول لك السبب سوف تعذرني. أترك رقبتي سوف أختنق.
-         ماذا عندك؟
-         وجدت شخصاً غريباً جداً اسمه يسوع قضينا معه أغلب النهار ومكثنا معه لوقت متأخر من ليل البارحة. صدقني يا سمعان إذا استمعت إلى هذا الإنسان لن تستطيع أن تمنع نفسك من أن تظن أنه..
-         أنّهُ ماذا؟
-         أنه المسيّا
-        لم يكفك ما فعلت وجئت لي سكراناً أيضاً، ومن فرط فسقك، تتكلم مثل هذا الكلام أيُّها الفاجر، وهم بأن يُمسِكَه مرة أخرى.
-        تعال معي وانظر.
-        إلى أين؟
-         سوف آخذك إلى المسيا
-         مرة أخرى يقول لي المسيا!
-         في الطريق، حكى أندراوس لسمعان كل ما كان مع يسوع ويوحنا المعمدان وعن المعمودية والحمامة وقصة "ابن الله" وعندما وصلا إلى خيمة يسوع رآهما يسوع من بعيد فصاح:  أنت سمعان بن يونا
-         ربّاه. كيف عرف اسمي. أقلت له عني؟
-         أبداً لم أقل له شيئاً
-         أنت سمعان بن يونا، وسوف أُسَمِّيكَ "صخر"، نحن جيران من الجليل. أنا يسوع من الناصرة، أندراوس قال لي أنكما من كفر ناحوم. تعاليا امكثا معي هذه الليلة لنواصل حديثنا نحن الثلاثة عن مملكة الله. تعال معنا أنت أيضاً يا بنيامين.
لم يكن حديث يسوع بالأمس قد راق لبنيامن فوجد نفسه يعتذر: للأسف أنا مضطر للعودة إلى وادي قُمران. رحلتي طويلة. الرب معكم
في اليوم التالي بدأ يسوع يعُدُّ للعودة من بيت عنيا إلى بلده ناصرة الجليل، لكنه كان لا يزال يشعر أن هناك تلاميذ هنا يجب أن يدعوهم ليكونوا معه فمنذ عاد من فترة الصلاة والصوم بعد المعمودية، وقلبه يبحث عن هؤلاء. وبينما كان يتمشى على نهر الأردن صادف شاباً يمشي متأملاً وكأنه يصلّي. فاقترب يسوع منه.
-        صباح الخير
-          صباح النور. لا يبدو عليك أنك من هنا. أهلاً بك في محافظة الأردن
-          نعم. أنا من محافظة الجليل
-         واضح. ملابسك ولغتك. شرفت بلادنا
-         حقا؟ هل من الممكن أن يكون شخصاً مثلي من ناصرة الجليل مصدر شرف؟ قال يسوع مبتسماً
-         ليس الإنسان بالمكان الذي يسكنه، المهم ما يسكن قلب الإنسان. 
-         نعم يا فِيلُبُّس يا صديقي
لمعت عينا الشاب واتّسعت
-        كيف عرفت اسمي؟
-        ليس الإنسان بما يعرفه، المهم أنَّهُ معروفٌ من الله.   قال يسوع هذا وهو يبتسم ابتسامة ماكرة مشيراً إلى عبارة فيلبس السابقة.
-         واضح أنك لست شخصاً عادياً في الجليل
-         أنا مُعَلِّم
-         مُعَلِّم؟ في الجليل؟ هل يوجد مُعَلِّمون في الجليل؟ وهل؟ أعذرني. هل تؤمن بالتوراة؟
فتح يسوع عيناه واسعاً وهو يبتسم وقال: نعم كيف أكون معلماً ولا أؤمن بالتوارة؟
-         اعذرني. ولكن ما أعرفه أنكم في الجليل مُتحَرِّرونَ قليلاً وتؤمنون ببعض العقائد الوثنية بسبب سُكنى الأمم بينكم.
-        ليس الإنسان بمن يسكن معه، بل بما يسكن قلبه.
ضحك الشابين ضحكاً عالياً وبدا وكأنهما أصبحا أصدقاء منذ ذلك الوقت..وبعد أن خفتت الضحكات تدريجياً نظر يسوع إلى فِيلُبُّس في عينيه وقال: ألم تقرأ المكتوب في نبوة إشعياء أنه إن كان الزمان الأول قد أهان أرض زبولون ونفتالي، أرض الجليل، فإن الزمان الأخير سوف يكرِمَها.  
-        كيف يُكرِمُها يا مُعلم؟
-        ستعرف في حينه يا فيلبس، اتبعني
صَمَتَ فيلبس وكأن السماء أطبقت على صدره. حاول فيلبس أن يتكلم، فلم يستطع ومشى الاثنان معاً دون كلمة، لكن كان قلباهُما مُمْتَلِئان بالكلام الذي لا يقال. بعد عدّة دقائق حاول فيلبس أن يخرج بعض الكلمات من صدره فخرجت كلمات قليلة متعثرة: هل تستطيع أن تنتظرني دقائق. سأذهب في مشوار قصير وأعود إليك. أرجوك انتظرني.
حاول فيلبس أن يمشي، ثم تدريجياً بدأ يُسَرِّع من خُطاه. ثم في النهاية استسلم لرغبته في الجري، فأطلق ساقيه للريح كما كان يفعل وهو طفل. وبينا كان يجري كان يعود تدريجياً للطفولة. في دقائق أصبح فيلبس صاحب الثمانية والعشرين عاماً، طفلاً صغيراً وجد شيئاً مثيراً، فهرع إلى نثنائيل أخيه ليخبره. وعندما وصل إلى نثنائيل وجده جالساً تحت شجرة تين يقرأ ويدرس التوراة والكتب.
-        لقد وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء، يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة.
-         ما هذا الذي تقوله؟ أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟
-         تعال وانظر
مشى الأَخَوَان، وطوال الطريق كان فيلُبُّس يحث نثنائيل على الاسراع بينما نثنائيل يمشي محاولاً الحفاظ على وقار الأخ الأكبر، بينما نبضات قلبه تتسارع فهو يعرف، كيف أن فيلبس لا يمكن أن يقول هذا الكلام إلا كان كان واثقاً مما يقول فهو مثله يبحث عن الحقيقة، ويدرس التوراة والأنبياء بكل تدقيق.
وعندما  أقبلا إلى يسوع قال يسوع: "هوذا اسرائيلي حق لا غش فيه"
-         من أين تعرفني؟
-         قبل أن دعاك فيلبس وأنت تحت التينة تقرأ في نبوة إشعياء، رأيتك
-         يا معلم. أنت ابن الله، انت ملك إسرائيل
-        هل آمنت لأني قلت لك: إني رأيتك تحت التينة؟ سوف ترى أعظم من هذا
منذ أن عاد من بيت عنيا حيث كان تعمد على يد المعمدان، ظل يسوع هو يقضي أوقاتاً  طويلة في الصلاة لله وكان كل صباح يستيقظ والظلام باقٍ ويذهب إلى بحر الجليل ويصلي هناك. لقد أصبح يسوع يتواصل مع الله بوضوح كابن مع أبيه. و تلك الوَمَضات التي كانت تأتيه في الطفولة، تَحَوَّلَت منذ المعمودية إلى حالة مُستمِرَّة، لذلك تعود أن يتكلم عن الله كأبيه ببساطة من يتكلم عن أبٍ من لحم ودم.  وقد كان هذا كان يسبب له انتقادات كثيرة. فاليهود يتكلمون عن أبوة الله ولكن ليس بهذه الصورة الحميمة، يؤمنون أنهم يتكلمون مع الله في الصلاة، ولكن ليس بهذه البساطة التي كان يتكلم بها يسوع ويدعوه "آبا" ـكما يتكلم الأطفال عن آباءهم  باللغة الآرامية الدارجة، التي لم يكن اليهود يستخدمونها أبداً للصلاة أو الكلام عن الله. الله بالنسبة لليهود متعال جداً لا يمكن التباسط معه أو الكلام ببساطة عن محبته وأبوته،  فهو ليس كمثله شيء وحرامٌ تشبيهه بالأب.

وذات يوم كان يتمشى على بحر الجليل فأبصر عن بُعد بعض الصيادين الذين كانوا عائدين من رحلة صيدهم الليلية في عمق البحر. وضع يسوع حافة  يده اليمنى فوق حاجبيه وهو يحاول أن يرى في مواجهة الشمس التي لم تزل منخفضة تواجه من ينظر إلى الأفق.  دَقَّقَ يسوع النظر لكي يتحقق من هُوِيَّتهِما فأدرك أنهما سمعان وأندراوس. لم يكن يسوع  قد رآهما منذ رحلة بيت عنيا، ولكنه لم يكن يكفَّ عن الصلاة والدعاء من أجلهما ومن أجل فيلبس ونثنائيل أيضاً، فمنذ لقاءهم وهو يدرك أن لله خطة عظيمة في حياتهم لكنه كان يعلم أنهم لم يكونوا بعد مستعدين لاستقبال هذه الأمور وفهمها
صاح يسوع:  يا رفاق.. أنا يسوع كيف حالكم؟
-         المعلم؟
هرع سمعان وأندراوس يُجَدِّفان بكل قوتهما حتى وصلا إلى الشاطئ حيث كان يقف يسوع ثم نزلا واحتضن الثلاثة بعضهم البعض.
-        لقد افتقدتكما يا رفاق منذ وقت بيت عنيا، كيف حالك يا .. "بطرس"
أجاب سمعان وقد بدأ كلامه باسماً، بسبب تذكير يسوع له باسم "بطرس"  ثم تحول كلامه تدريجيا إلى الجِد.
-    ونحن أيضاً أيها المعلم، لم نتوقف عن التفكير فيك وفيما قلته عن مملكة الله.  كنا دائماً نظن أن مملكة الله هي إقامة شرع الله وإصلاح الدنيا بالدين وما يستلزمه ذلك من تغيير للحكومات والممالك، لم نسمع من قبل ما قلته عن أن مملكة الله هي مُلك الله على القلوب.

قال أندراوس: نعم يا سمعان هذا منطقي، فبدون حكم الله على القلوب لن يكون هناك تغيير. التغيير يبدأ دائماً من الداخل وليس من الخارج. لكن ما معنى أن يحكم الله القلب؟ كل من حولنا يفعلون ما يفعلون ويقولون أنهم يفعلون هذا لوجه الله، وأن الله يحبهم ويسكن في قلوبهم. أين الحقيقة؟
أجابه يسوع مُبتَسِماً:  من ثمارهم تعرفونهم يا أندراوس. الثمار هي ما يخرج من الشجرة دون أن تقصد. لا تستطيع شجرة التين أن تثمر شوكاً ولا تستطيع الأعشاب الشائكة أن تثمر تيناً مهما حاوَلَت. لا يجتنِ الفلاحون من الشوك عنباً ولا من الحسك تيناً.  تابِع الإنسان. تابع أقواله التي يقولها في لحظات الغضب حين يقع عنه قناعه، تابع الإنسان في حياته الشخصية وليس فقط في كلامه.، تابعه في علاقته بالمال والنساء. من يقول أن يحقق إرادة الله ولا يستطيع ضبط محبته للمال أو شهواته الجنسية فأغلب الظن كاذب أو مُضَلِّل و مُضَلَّل أيضاً. 
-    لكننا يا معلم نصارع مع رغباتنا الجنسية ونقاومها ونسقط فيها أحياناً، ونحن بأمانة أيضاً نحب الله ونريد أن نرى ممكلته تتحقق في قلوبنا وفي العالم من حولنا. هل ترانا كاذبون أو مُضلِّلون؟
-    بالطبع لا، أنت يا سمعان تصارع رغبتك الجنسية ولا تستسلم لها. تقع فيها أحياناً،  لكنك تقوم وتواصل. لكن من أقصدهم هم الذين يستسلمون لشهواتهم معطين لها شرعية باستخدام تشريعات دينية ينسبونها إلى الله، أو حركات سياسية كلها في النهاية تَصُبُّ في تحقيق شهواتهم التي لا تنتهي. احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان، ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة.
-         مثل هيرودس الذي أحل لنفسه الزواج  من زوجة أخيه فيلبس و هو حيّ  مستخدماً السلطة والدين؟
-    ليس هيرودس فقط ولكن الكثيرين في الماضي، والحاضر، و سيكونون في المستقبل.  لكن كما قال المعمدان، سوف يأتي وقت حين يوضع الفأس على أصل الشجر وكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً ستقطع وتلقى في النار.
-    وقال المعمدان أيضاً أنه يُعَمِّد بماء للتوبة لكن سيأتي بعده من سيعمد بالروح القدس ونار. وهذا الشخص هو أنت يا يسوع. لقد قال عنك أنك أنت حمل الله الذي سيرفع خطية العالم.
-         هيا يا أندراوس وأنت يا سمعان. دعونا نحتسي شيئاً ونواصل حديثنا فأنا قد اشتقت كثيراً للحديث معكما.
وصل يسوع وسمعان وأندراوس إلى قهوة صغيرة على ضفاف بحيرة الجليل، كان الصيادون يجلسون فيها للراحة واحتساء بعض المشروبات الساخنة التي يُعِدّونها من غلي أوراق نبات المريمية والنعناع وغيرها وبعضهم يقوم بغسيل الشباك وإصلاحها. و بعدما جلسا وطلبا بعض المشروبات، قال يسوع لهما:
-        هلما ورائي ننادى بمملكة الله
قال أندراوس
-        ننادي بمملكة الله؟  ماذا تقصد؟
-        أقصد أن تتركا صيد السمك وتتفرغا معي للدعوة.
-    أنا موافق. قال سمعان بطرس بحسم. أنا أفكر في هذا منذ أن تقابلنا في بيت عنيا وبصراحة منذ أن عمّدني يوحنا وأنا أشعر بشيء غريب. بالرغم من أنني أصطاد السمك مع أبي منذ الطفولة، إلا أنني منذ وقت المعمودية وأنا أشعر كلما خرجت للصيد أنني أضيع وقتي فيما هو ليس عملي الحقيقي. ما تقوله الآن يا يسوع هو كلمة الله التي كنت أنتظرها.
-         هي بالفعل كلمة الله يا بطرس
-         وأنا أيضاً معكما
بعد دقائق قليل اقترب منهما شابان يافعان فحياهما سمعان وأندراوس
-        أيها المعلم، هذا يوحنا ابن السيد زبدي صاحب أسطول الصيد الشهير في الجليل، وهذا أخوه يعقوب، وهم شركاؤنا.
-         أعرفهما. أهلا أيها الاخوة أنتما أيضاً ستتركان الصيد وتصبحان من تلاميذي.
انهدش بُطرس وأندراوس حين سمعا ما قاله يسوع بهذه الطريقة المباشرة، بل وازدادت دهشتهما عندما فوجئا بالصيادين الثريين المُتَعلِّمَين، يوحنا ويعقوب وهما يقبلان دعوته. وهكذا أصبح ليسوع ستة تلاميذ، الأخوان بطرس وأندراوس، وفيلبس ونثنائيل، وابنَيّ زَبَدي؛ يوحنا ويعقوب.