الأحد، 29 مارس 2015

28

جبل حَرمون

بعد أن نُظِّف المجمَع استعدادًا للسبت، جَلَسَ بنيامين وحيدًا في الظلام مستندًا إلى أحد أعمدة المجمع، ودار حوار بينه وبين نفسه...
... هل هكذا صارت حياتي؟ هل اختُزِلت في هدفٍ واحدٍ صغير وأسود كهذا؟ أن أقتل إستير وأغسِلَ عَارَها بدَمِها؟ وماذا بعد قتلِها؟
... لا شيء. أسترِدُّ كرامتي وأستر عِرضي بين الناس.
... هل هذا هَدَفي؟ إرضاء كرامتي؟
... وأُرضي شرع الله أيضًا.
... إن كان لا يُرضي الله ما فعلته إستير، فهل يُرضيه ما قد حَدَثَ لها؟ هل شَرع الله أن تُطَلَّق وتُلقَى في الشارع بطفلتيها؟
... وهل هذا ذنب الله؟
... بل هو ذَنبي أنا.
... كيف ذَنبي؟ ماذا فَعلتُ؟ هل أنا الذي أرغَمتَها على البَغاء؟
... هَرَبتُ وترَكتَها.
... لا لم أهرُب. لقد لَبَّيتُ نِدَاءَ الله.


... تُرى ماذا يكون رأي رجلٍ مثل يسوع الناصريّ في أمر إستير؟
... هل أسأله؟
... لا، لا يُمكِن. سيقول لي كلامًا يهزُّ إيماني ويفتِنني في عقيدتي وديني. هذا كافر مُهرطق.
... وهذه المعجزات التي يَعْمَلها؟
... ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين ويصنع المعجزات ليُضِلَّ الشعبَ.
... الشيطان يشفي الأمراض، ويطرد الشياطين الأخرى؟ أتُرى الشيطانُ ينقَسِمُ على نفسه؟ الشيطان يعظ بمملكة الله؟ كيف؟
... لا أدري. لا يُمكِن أن أُصَدِّق إنسانًا يَكسِرَ السبتَ. السبتُ هو لُبُّ الناموس. السبتُ هُوَ الذي حَافَظ على شعب الله مُمَيَّزًا بين الشعوب وقت السبي في بابل وآشور. وَقتَ أن هُدَمَ الهيكل وتُعطَّلت الذبائح، ظل السبت هو هيكَلَنا ومذبحنا.
... السبت هو الراحة. السبت هو خلاص الله للإنسان. هو تحرير العبيد.
.. بل السبت هو الشريعة.

... تُرى كيف حالهم في وادي قُمران الآن، لكَم أتمنى أن أعود إلى هناك.
... كيف سأُرِيَهُم وَجهي بعد أن غادَرتُ دون إذن وتَبَعتَ المَعمَدان ثم انتهى بي المطاف هنا؟
... بعد أن كُنتُ أحد أَفضَل الكُتَّاب في المستعمرة، ينتهي بي الأمر خادمًا لمجمع كفر ناحوم يعولني الفريسيون بعشورِهِم؟
... هذه مشيئة القدير، ماذا أفعل؟

*  *  *  *

بعد إعلان سمعان بُطرس بأن يسوع هو المسيح، َشعَرَ يسوعُ بأن الوقت قد آن لكي يَكشِفَ المزيدَ لتلامِيذِهِ عَن الأيام القادمة...
-        لقد آن الأوان لكي أقول لكم كيف سَيَحُلُّ مُلكُ الله. لن يَحُلَّ بحربٍ أو بثورةٍ، ولا بدماءٍ تسيلُ على أرض اليهودية. سَيَحُلُّ مُلكُ الله على قلوب البشر بدمِ شخصٍ واحدٍ فقط؛ دَمُ ابن الإنسان. لا بُدَّ لابن الإنسان أن يتألَّم كثيرًا ويرفضه الشيوخُ ورؤساءُ الكهنةِ والكَتَبَةِ ويُقتَل وبعد ثلاثة أيام يقوم.
-        يا مُعَلِّم أُريدُ أن أتكلم معك على انفراد قليلًا.
-        ماذا يا بُطرس؟
ذهب يسوع وبطرس على بُعد رمية حجرٍ من مجموعة التلاميذ الكبيرة التي كانت حول يسوع من رجال ونساء.
-        يا مُعَلِّم أنت دائمًا ما تَبُثُّ فينا التفاؤل والروح الإيجابية. لماذا هذا الكلام عن الموت؟ أنت قد قُلت لنا إنك المسيح، والمسيح لا يموت بل يَملُكُ إلى الأبد، حاشا لك يا سيد أن يقتلوك، كيف يَدَع الله تَقِيَّهُ يموت؟  أرجوك أن تُبعِد هذه الأفكار عن ذهنك، أو على الأقل لا تقُلها هكذا على جمع التلاميذ الكبير، فتثبط من هِمَّتِهم. أرجوك راجع نفسك فيما تقول.
-        منذ لحظات كان الآب يتكلم على لسانك يا سمعان، والآن الشيطان هو الذي يتكلم. نفسُ الشيطانِ الذي أغراني في البرِّيَّةِ أن أقفز من على جناح الهيكل فيؤمن بي الجميع، هو الذي يتكلم الآن، وسوف يظل يتكلَّم فيك وفي غيرك لقرونٍ ليُضِلَّ كثيرين.
 صمت يسوعُ ثم تكلم كمن لا يُكلِّم سمعان فقط، بل يُخاطِب شخصًا آخر غير منظور: «اغرب عني يا شيطان، لأنك تُفكِّر بعقل الجسد، لا بالروح، وتهتم بما للناس لا بما لله
لم يُجب سمعان بكلمة ومضى حزينًا وذهب ليجلس في آخر الصفوف.
-        إن أرَادَ أحدٌ أن يسيرَ ورائي، فليُنكِرَ نفسَهُ ويَحمِل صَليبَه مُستَعِدًّا للموت كُلَّ يوم ويتبعني. فأيُّ من أراد أن يُخَلِّص نفسه، يخسرها، ولكن من يخسر نفسه في هذا العالم من أجلي، ومن أجل بشارة مملكة الله، فهو يُخَلِّصُها للحياة الأبدية. لا تُفَكِّروا بعقول أجسادكم بل بعقل الروح، فماذا ينتفع الإنسان لو رَبِح مُلكَ العالم، وخسر سُلطانَ الله على قلبه؟
-        نحن مستعدُّون أن نموت من أجل مُلك الله وشرع الله.
-        من يستحي بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ، به يستحي ابنُ الإنسان عندما يعود في اليوم الأخير. الحقّ أقول لكم إن بعضًا من الواقفين هنا، لن يذوقوا الموت أبدًا حتى يروا ملكوت الله وقد أتى بقدرةٍ وقوةٍ، وامتَدَّ من هُنا إلى العالم أجمع.
كان ذلك الإعلان الذي أعلنه يسوع لتلاميذه في قيصرية فيلُبُّس بمثابة «نَقلةً نوعِيَّةً» في تعليم يسوع. هذه النَقلَة جعلت التلاميذ يدخلون في مرحلةٍ جديدةٍ من تَبَعِيَّتهم له. مرحلة بها كثير من الحيرة والخوف والتَرَقُّب، فكانوا لا ينامون إلا قليلًا وتدور بينهم حوارات كثيرة، وكثيرًا ما كانت هذه الحوارات تَتَّسِم بالجدل المُحتَدِم الذي كان يصل إلى حدِّ الشجار في بعض المَرَّات. وكان يسوع يعلمُ ذلك ويترُكهُم دون أن يتدخل، لكنه كان يُصلِّي من أجلهم ويصوم أيامًا كثيرة.

-        هلُمَّ نواصل مسيرنا شمالًا يا رفاق.  
-        إلى أين يا مُعَلِّم؟
لم يرُد يسوع لكن كان مسيرُهم باتِّجاه جبل حرمون، الذي وصلوا إليه بعد يومين، حيث قضوا هناكَ عِدَّة أيامٍ دعاهُم يسوع فيها إلى أن يختلي كلُّ واحدٍ بنفسه تحت سفح الجبل طول اليوم في خُلوةٍ وصلاةٍ وتأمُّلٍ، ثم كانوا يلتقون فيها معًا في آخر اليوم للصلاة الجماعية وترنيم بعض المزامير، وتناوُل الطعام معًا.
وفي فجر السبت، قام يسوعُ والظلام لا يزال باقيًا وذهب إلى حيث كان ينامَ بطرس ويعقوب ويوحنا.
-        سمعان، قُم وأيقظ يعقوب ويوحنا وتعالوا معي سنصعَدُ إلى الجبل.  
-        سمعًا وطاعة يا مُعَلِّمي.
أثناء صعودهم إلى الجبل، بدأ يوحنا، متأثرًا بجبل «حرمون»، يُرنِّم أحد المزامير التي كانوا يردِّدونها الليلة الماضية وتدريجيًّا انضمَّ إليه سمعانُ بطرس ويعقوب ويسوع.
... يَا إِلهِي، نَفْسِي مُنْحَنِيَةٌ فِيَّ،
... لِذلِكَ أَذْكُرُكَ
... مِنْ أَرْضِ الأُرْدُنِّ... وَجِبَالِ حَرْمُونَ... مِنْ جَبَلِ مِصْعَرَ
... غَمْرٌ يُنَادِي غَمْرًا عِنْدَ صَوْتِ مَيَازِيبِكَ
... كُلُّ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ طَمَتْ عَلَيَّ
... بِالنَّهَارِ يُوصِي الرَّبُّ رَحْمَتَهُ،
... وَبِاللَّيْلِ تَسْبِيحُهُ عِنْدِي،
... صَلاَةٌ لإِلهِ حَيَاتِي.
حاول بطرسُ أن يخفي دموعَه، فهو لم يُحِب أبدًا أن يراه أحدٌ وهو يبكي، لكن يوحنا شَعَرَ بِهِ فرَبَتَ عَلى كَتِفِه وهم صاعدون.

-        أنتم تلاحِظون كيف أنني بدأت أن أكشف لكم حقائق كُنتُ أتجنَّب الحديثَ فيها من قبل.
-        نعم يا مُعَلِّم.
-        لقد اقتربت مملكة الله من لحظاتها الحاسمة.
-        نحن نشعر يا سيد.
-        لقد قُلتُ لكم حقيقة أنني سوف أتألم وأموت، وهذه حقيقة كان الآب يُكلِّمني بها مرارًا، وأصبحت الآن مؤكدةً أمامي، وشعُرتُ بالروح أن عليَّ أن أكشفها لكم لكي تستعدُّوا للأيام الصعبة القادمة.
-        نحن معك يا سيدي ولن نتركك.
-        آلامي وموتي حقيقة، لكن ليست هي الحقيقة الوحيدة.

جَثَا يسوعُ ليُصَلِّي وجَثَا خَلفَه الرجال الثلاثة على بُعد رمية حجر. وعندما بدأوا في الصلاة بدأ وجه يسوع يُنير كالشمس وصارت ثيابُه بيضاءَ كالنور ثم ظهر معه موسى وإيليا في هيئةٍ مضيئةٍ يتَحَدَّثان.
-        يا إلهي، انظر يا يوحنا، من هذان؟ يا سيد، يا سيد، ما أحسن أن نبقى هُنا، فإذا شئت أنصُبُ هنا ثلاث مظال، لك واحدة ولموسى واحدة وواحدة لإيليا.
وبينما كان بطرس يتكلم وقبل أن يُنهي كلامه، جاءت سحابةٌ مُنيرةٌ ظلَّلَتهُم وجاء صوتٌ من السحابة:

... هذا هو ابني الحبيب الذي سُرِرتُ به. له اسمعوا

ارتعَب التلاميذُ وبدأوا يرتجفون ولم يستطيعوا الكلام، فاقترب منهم يسوع.
-        انهضوا ولا ترتعبوا.
فرفعوا أنظارهم ولم يروا إلا يسوع وحده في هيئته العاديَّة.
-        هلمَّ نَنزِل ولا تقولوا لأحدٍ ما رأيتم. لقد أردتُ أن أكشف لكم أنتُم قادَة التلاميذ المزيدَ عن حقيقتي لكي تَتَثَبَّت قلوبُكُم أكثر؛ فالأيام القادمة سوف تكون أيام اختبار شديدةً.
في الطريق، بدأ بُطرُس يُرنِّمُ مزمورًا آخر ورَنَّمَ الجميع معًا بنغمةٍ أكثر فرحًا وقوةً من التي رَنَّموا بها في صعودهم.
... هُوَذَا مَا أَحْسَنَ،
... وَمَا أَجْمَلَ،
... أَنْ يَسْكُنَ الإِخْوَةُ مَعًا.
... مِثْلُ الدُّهْنِ الطَّيِّبِ عَلَى الرَّأْسِ،
... النَّازِلِ عَلَى اللِّحْيَةِ،
... لِحْيَةِ هَارُونَ، النَّازِلِ إِلَى طَرَفِ ثِيَابِهِ.
... مِثْلُ نَدَى حَرْمُونَ النَّازِلِ عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ.
  ... لأَنَّهُ هُنَاكَ أَمَرَ الرَّبُّ بِالْبَرَكَةِ،
   ... حَيَاةٍ إِلَى الأَبَدِ.

عندما نزل يسوع وبطرس ويعقوب ويوحنا من الجبل، كان باقي التلاميذ قد استيقظوا وكان جمعٌ كبيرٌ حولهم، وبعض الكتبة يجادِلونَهُم. وعندما رأى الجمعُ يسوعَ أسرعوا إليه يُسَلِّمونَ عليه.
-        فيمَ الجدل؟
-        يا مُعَلِّم، أحضَرتُ اليك ابني وبه روحٌ أخرَس كلما تَمَلَّكَهُ يصرَعَهُ، فَيَكزُّ بأسنانه ويُزبِدُ ويتيَبَّس، وقد طَلَبتُ من تلاميذِك أن يطردوه فلم يقدروا.
-        أيها الجيل غير المؤمن، إلى متى أبقى معكم؟ إلى متى أحتملكم؟ أحضروه إليَّ.
فأحضروه إلى يسوع. فما أن رآه الروحُ، حتى صَرَعَ الصبيَّ، فوقَعَ على الأرض وبدأت نوبة التَشَنُّج.
-        منذُ متى يصيبه هذا؟
-        منذ طفولته، وكثيرًا ما ألقاه في النار والماء ليُهلِكَهُ. ولكن إن كُنتَ تقدر أن تفعل شيئًا، فأشفِق علينا وأعِنَّا
-        هذه إذًا هي المشكلة؛ إن كنت تقدر أنت أن تؤمن، فكُلُّ شيءٍ مُستطاعٌ للمؤمن.
فصرَخ أبو الولد وكشف عن المرض الروحي الحقيقي الذي يُصيبه هو.
-        أؤمن يا سيد فأعِن عدمَ إيماني.
-        أيها الروحُ الأخرسُ الأصمّ، إنِّي آمُرُكَ، فاخرج منه ولا تَعُد تدخله بعد.
فَصَرَخَ الصَبيُّ وتشنَّجَ بشدة، ثم صار ساكنًا كالميت.
صاح أحد الحاضرين: لقد مات الولد.
 لكن يسوع أمسك الولد بيده وأقامه.

*  *  *  *






-        أخيرًا عُدنا لكفر ناحوم.
-        كانت رحلة طويلة ومليئة بالأحداث.
-        نعم، وكان ختامُها مِسْكًا.
دَارَ هذا الحوارُ بين يسوعَ وتَلامِيذِهِ، بينما وضعت النسوةُ أطباقَ العشاء على المنضدة المنخفضة التي اعتاد يسوع وتلاميذه أن يتكئوا حولها. بارك يسوعُ الطعامَ، وبدأوا في الأكل والمسامرة والضحك. وبعد العشاء، قاموا للجلوس في الفناء الكبير يَحتَسونَ المشروباتِ الساخنة.

كان منزل بطرس كبيرًا نسبيًّا لكنه بيتٌ متواضع مثل أغلب بيوت كفرناحوم. كان البيتُ مُكَوَّنًا من عدة غُرفٍ مفتوحة على فنائين صغيرين، وفيه عاش يسوعُ مع تلاميذه حياةً شبه جماعية وكأنهم في دير صغير.
دارَت أكوابُ المشروبات الساخنة على الجميع، وبدأ يسوع الكلام...
-        فيم كُنتُم تتجادلون في طريقنا من جبل حرمون إلى هنا؟
عندما قال يسوع هذه العبارة، صَمَتَ التلاميذُ وبدا الوجوم على وجوههم.
ابتَسَمَ يسوعُ ليُخَفِّف عليهم الموقف وقال: « تعالو جميعًا حولي هنا سوف أقول لكم شيئًا مهمًّا.» فاجتمع التلاميذُ الاثنا عشر كلهم حول يسوع الذي قال: «إن أراد أحدٌ أن يكونَ الأوَّلَ فيكُم، فليجعل نفسه آخِرَ الجميع وخادمًا للجميع ثم أخذ يسوعُ ابنَ أخت بطرس الصغير وأوقفه في وسطهم واحتضنه بذراعيه قائلًا: «من قَبِلَ واحدًا من هؤلاء الأطفال باسمي ولأجلي، فقد قَبلِنَي. ومن يَقبَلَني فلا يَقبَلَني أَنا بل ذاك الذي أرسلني. ومَن كَانَ عَثرةً لأحدِ هؤلاء الصغار المؤمنين بي فخير له لو عُلِّقَ في عُنُقِهِ حجر الرَّحى وطُرِحَ في البحر. الحقَّ الحقَّ أقول لكم إن لم تتوقفوا عن تنافُسِكُم واهتمامِكم بقيمتكم ومكانتكم، وترجعوا وتصيروا مثل هؤلاء الأطفال في بساطَتِهِم ونَقَائِهِم وسُهولَةِ إيمانهم، لن تدخلوا مملكة الله.»
29

أورشليم

نَزَلَ الخريفُ على الجليل، فَتَطَايَرَت زنابقُ الحقل التي كانت زاهية الألوان، تاركة المروج التي كانت في الربيع مَكْسُوَّةً مَزهُوَّةً، تعاني الصُّفرة والجفاف الذي بدأ يَدُبُّ فيها تدريجيًّا. بدأت الأشجارُ تَستَعرِضُ «كَرنفال» ألوانها المُتَدَرِّجة من الصُفرة إلى الحُمرة، مرورًا بدرجات اللون البُنِّي والطوبي، وأخذت الرياحُ تشتدُّ فتنتزع الأوراق المحتضرة من أشجارها وتُلقي بها في قلب السماء، تاركة الأغصان العارية تَبكي بقطرات المطر الخريفي، أورَاقَها المَفقُودةُ إلى المَجهول.
بدأت القوارض تُعِدُ نفسها للبيات الشتوي، والعصافير تبحثُ عن أعشاش في البيوت حيث لم تَعُد الأشجار تستطيع أن تأويها بعد أن أصبحت تفقد أوراقها كل يوم، كنسوةٍ محزوناتٍ يتساقطُ شَعرُهُنَّ على وِسادَةِ الخريفِ البَارِدة.

إنَّه تشرين، حيثُ يبدأ حصادُ الخريف وفي العاشر منه يوم الكَفَّارة العظيم. في هذا اليوم يَدخُلُ رئيسُ الكهنة إلى قُدس الأقداس في هذه المرة الوحيدة في السنة ليرشَّ دَمَ الذَبيحةِ عَلى تابوتِ العَهد، كَفَّارَةًّ عن نفسه وعن الشعب. ثم في اليوم الخامس عشر من نفس الشهر، يبدأ عيدُ المَظَال. عيدُ المظالِّ هُوَ ثالثُ الأعيادِ السَنَوِيَّةِ الكُبرى التي كان يجب فيها على كل ذَكَرٍ في إسرائيل أن يتراءى أمام الرب في الموضع الذي يختاره. هذا العيد يُعرَف بالعبرانية باسم «سُكُّوت»، واشتُق الاسم من عادَتِهِمِ في أَن يَسكُنوا مَظَالًا أثناء مدة العبادة. وبعد تشييد الهيكل صارت هذه المظال تُنصَب في أورشليم، في ساحات المدينة وعلى سطوح البيوت وأفنيتها، وعلى الجبال المجاورة لأورشليم. وهي مصنوعة من الأشجار الخضراء الكثيفة الأوراق.
-        لقد اقترب عِيدُ المظال يا يسوع، فلتنتقل من هُنا وتذهب لليهودية لكي يرى تلاميذُك هناك أيضًا أعمالك التي تعملها هنا في الجليل. ليس أحد يعمل شيئًا في الخفاء وهو يريده أن يكون علانيةً. إن كُنتَ تُريدُ أَن يعرِفَكَ الناسُ ويَسمَعوا رسالتك، فلتُظهِرَ نَفسَكَ لَهُم  في أورشليم ـــــ عاصِمةُ الدِين.
قال يوسي أخو يسوع هذه الكلمات وهو لا يبذلُ أَدنى مَجهودٍ ليَكونَ لَطيفًا في الكلام؛ فهم لم يؤمن بيسوع ولا بما يفعله يسوع.
-        لم يأتِ بعد وقتُ ذهابي لأورشليم. اذهبوا أنتم. أنتم تستطيعون أن تذهبوا في أي وقت. أنتم لا يُبغِضُكُم أحدٌ، أما أنا فالعالم البعيد عن الله يُبغِضني لأنني أشهد عليه أن أعماله شريرة. اصعَدوا أَنتُم إلى هذا العيد لست أصعد بعد.
-        كما تشاء.
مَكَث يسوع هو وتلاميذه في الجليل بضعة أيام، لأن اليهود كانوا مُتَوَقَّعين نزوله منذ أول يوم، فهذا هو العيد الأول بعد ذياع صيت يسوع في كل فلسطين> فانتظر يسوع حتى ينشغلوا بالعيد، ثم نَزَلَ هُوَ وُيوحَنّا لا ظاهرًا بل في الخفاء. وعندما انتصف العيد، صعد إلى الهيكل ليُعَلِّم.

-        كيف يَعرِفُ هَذا الكُتُبَ وهو نجَّار؟
-        تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني. كثيرًا ما يَمنَعُ الناسَ عَن الفَهم أَنّهُم لا يريدون أن يأتوا إلى الله ولا يبحثون عنه، بل يبحثون عمَّا يُثبت عقائدهم ويدافع عن أسلوب حياتهم. أما من يريدون أن يعلموا مشيئة الله، فالله يفتح بصائرهم ليعرفوا التعليم.
-        وكيف نعرف الصادِقَ مِنَ الكاذب؟
-        من يَتَكَلَّمَ مِن نَفسِهِ يطلُبُ مَجدَ نَفسِهِ، ويفعل ما يُزيدُ من مجدِهِ. وأما من يطلب مجد الذي أرسله، ويبذل نفسه من أجل رسالته، فهو صادق وليس فيه ظُلم.
-        ماذا تقصد؟
-        من يَطلُبُونَ مَجدَ أَنفُسِهِم يَجمَعونَ المَالَ ويَتَزَوَّجون الِنساء، وينجبون الأولاد والبنات. يُجَيِّشون الجيوش ويَفتَحونَ المَمَالِك. أما أنا فأنتم قد رأيتُم أنَّ كَلَّ مَن عَثَروا فيَّ وارتدوا عني، قد تَرَكتَهُم يَمضُونَ ولم أُسَيطِر عليهم. لم أحاربهُم لأعيدهم، ولَم أؤلِّفَ قُلوبَهُم بغَنَائِمَ أو أتمَلَّقهم بمناصب.
-        كيف تبذل نفسك إذًا؟
-        أنتم تطلبون أن تقتلوني.
-        مَن يطلب أن يقتلك؟ أنت مجنونَ وبِكَ شَيطان.
-        تطلبون أن تقتلوني لأنِّي شَفَيتُ في السبت. إن كان الإنسان يَقبَلَ الخِتانَ في السبت، أفتسخطون عليَّ لأني شفيت إنسانًا كله في السبت؟ لا تحكموا حسب الظاهر بل احكموا حكمًا عادلًا.

-        أليس هذا هو الذي يطلب الكتبة والفريسيون أن يقتلوه؟ انظروا كيف لا يخاف الموت ويتكلم علانية مُعلِنًا أنه قد شَفَى في السبت بالفعل، وهم لا يفعلون شيئًا. ألعلهم عرفوا يقينًا أنه هو المسيح حقًّا؟
-        كيف يكون المسيح؟ المسيح يأتي من السماء، من حيث لا نَعلَمُ. أَمَّا هَذا فنحنُ نَعلَمُ مِن أينَ هُوَ، ومِن أينَ قد أتى.
تَهَامَسَ بعضُ الجموعُ بهذِهِ الكَلِمات التي وصلت إلى مسامع يوحنا الذي كان مُرافقًا ليسوع.


فنادى يسوع بصوتٍ عالٍ وهو يُعلِّم في الهيكل...
-        تَعرِفُونَني وتَعرِفونَ مِن أَين أنا. ومن نَفسي لَم آتِ، بل الذي أرسلني هو حق، الذي لستم تعرفونه. أنا أعرِفَهُ لأنِّي مِنهُ وهوَ أرسلني.

-        ترُاهُ يَقرَأُ أفكَارَنا؟ يبدو وكأنه سمِع ما نقوله.
-        هيا بنا نُمسِك به ونُسلِّمه لشرطة الهيكل.
-        انتظر قليلًا.
-        إن لم يكُن هُوَ المسيحُ، فمَن يكون؟ ألعل المسيح متى جاء يعمل آياتٍ أكثر من هذه التي عمل. إنه لم يشفِ فقط، بل أسكت البحر ومشى عليه. مِن أينَ لإنسانٍ عادِيٍّ سلطانٌ على الطبيعة؟ ولم يفعل هذا بصلاةٍ أو توسل إلى الله، بل قد أمَرَ البحرَ بكلمةٍ.
-        ثُمَّ لماذا يقول: «أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد، ثم أمضي إلى الذي أرسلني. ستطلبونني ولا تجدوني؟» أين هو مُزمِعٌ أن يذهب؟ ألعله سيذهب إلى شتات اليونانيين ليُعَلِّمَهُم؟ ولماذا لا نقدر أن نأتي إلى حيث سيذهب؟
-        كلامه عجيب، لا يُمكِن تصديقه.
-        لكن أعماله تُجبِرُنا على تصديقه.
-        ولماذا تُجبِرُنا؟
-        لأنه لا يُمكن أن يعمل هذه الأعمال إلَّا مَن كان الله معه. ثم أنه يصنع نفس المُعجزات التي يقول الكتاب إن المسيح متى جاء يعملها.
-        كيف ذلك؟
-        ألم تقرأ نبوة إشعياء التي تقول إن المسيح متى يأتي يُبَشِّر المساكين ويعصب منكسري القلوب ويعتق المسبيين. لَكَم أعتَقَ الناصريُّ أسرَ المَسبيِّين بالشياطين والمأسورين بالمَرَض والبُرَّص.  
-        ولماذا لَم يَعتِقَ المعمدانَ من سجنه؟
-        صراحةً لا أدري. هذا ما يُحيِّرني. لكن تَذَكَّر النبوات. ألا تقول أنه متى جاء المسيح «يقفز الأعرج كالإيل ويترنم لسان الأخرس»؟
-        نعم، وهذا ما حدث وقد رأيته بعينيّ، كما سمعت أيضًا أنَّهُ شَفَى في جِدرَةَ فتىً أَصَمَّ أَعقَد لا يَسمعُ ولا يَتَكَلَّم.  
-        شَفى في كورة الجدريين الكُفّار. هذا أيضًا مِمَّا يُحيِّرني أَشَدَّ الحيرةَ بشأنِهِ.
-        ماذا تقصد؟
-        أقصِدُ عَدَمَ تَمييزِهِ بَين اليهودِ وغَير اليهود. وكأن اليهود وغير اليهود سواءٌ عِندَهُ.
-        يقول إنه جاء من أجل العالم كله، ومن أجل الخطاة بالذات، فلا يحتاج الأصِحَّاءُ إلى طبيبٍ بل المرضى. يبدو أنني سوف أؤمنُ به.
-        أما أنا فلا.
سَرَت هذه الحوارات بين جماهير المُصلِّين كردِّ فعلٍ على تعليم يسوع في الهيكل، ويوحنا كان جالسًا بينهم ويُسَجِّل في قلبه كل ما يقولون.
 في اليوم التالي، وَصَلَ كلامُ الناسِ إلى الفَرِّيسيِّينَ في أورشليم، فأرسلوا خُدَّامًا ليمسكوه، لكنهم لم يستطيعوا بسبب الجمع الذين كان ملتفًّا حوله منبهرًا بتعليمه.


****

وصل بنيامين إلى أورشليم بعد أن جاءَتهُ رسالةٌ من جماعةِ الفَريسيين في أورشليم عن طريق اسحق  وسمعان الفريسيان في كفر ناحوم أن يحضر لأنهم استطاعوا تحديد مكان إستير، فأسرع ووصل قبل العيد إلى هناك.

-        أهلًا يا أخ بنيامين جَيِّدٌ أن تقضي العيد معنا هنا في أورشليم.
-        هل عرفتُم أين هي؟
-        يا أخي، ألا ترُد التحيةَ أولًا.
-        أعذرني يا سيدي، فأنا لا أكادُ أنامُ هذه الأيام من فرط التفكير والتوتُّر. كل عامَ وأنت بخير.
-        لا عليك يا بنيامين، فأنا أُقَدِّرُ ما أنت فيه. نعم، لقد جاءت مع قافلة أحد التُّجّار واستقرَّت في بيتٍ صغيرٍ خارج سور المدينة.
-        مع هذا التاجر؟
-        لا. لقد تَرَكَها وسافر، أما هي فتقيم الآن مع طفلتيها في هذا البيت الصغير.
-        وأين هذا البيت؟
-        انتظر. هناك أمرٌ نريد أن نقوله لك.
-        ما هو؟
-        تذكُر أننا قُلنا لك في كفر ناحوم إن لدينا فِكرة؟
-        نعم.
-        لقد تَحَوَّلَت هذه الفِكرة إلى خِطَّةٍ كاملةٍ.
-        أي خطة؟
-        أنت تريد أن تُطَبِّقَ الشَريعةَ على أختِك ونحنُ نريدُ أن نساعِدَكَ في ذلك، لكننا نريد أن نضربَ بنفسِ الحجَرِ عصفورًا آخر.
-        عصفورٌ آخر؟
-        نعم، يسوعُ الناصرِيّ.
اتَّسَعَت عينا بنيامين وصمت بضعة ثوانٍ من فرط الصَّدمة، ولم يدرِ كيف يشعر. هل هذِهِ سعادةٌ؟ أم حُزنٌ؟ أم خوف؟ شيء ما لا يعرفه جعله يخاف على يسوع، ثم ما لَبِثَ أن أخرج هذا الخوف من قلبه، فهو كان قد اتَّخذ قرارَه من قبل، أنَّ يسوع هذا مُهَرطِق يزيغ الناس عن الدين الحقِّ، وينبغي القضاء عليه. وتدريجيًّا عادت ملامح بنيامين إلى طبيعتها.

-        وكيف يكون هذا؟
-        سَمِعنا أنه جاء إلى أورشليم لحضور العيد، وسمِعه بعض الإخوة يُعلِّم في الهيكل بكل مجاهرةٍ ولا يخاف. والمصيبة الأكبر هي أن كثيرين بدأوا يؤمنون أنه هو المسيح، وينبغي وضع حَدٍّ لذلك بسُرعةٍ.
-        وما لهذا وموضوعي أنا؟
-        لقد أرسلنا خَدَمَنا ليقبضوا عليه ويقدموه للمحاكمة أمام السنهدرين، فلم يقدروا. الجمع حوله كبير، وكثيرون كما قلت لك، يؤمنون به. لقد خُفنا أن يتحول الأمرُ إلى اشتباكاتٍ عنيفةٍ في الهيكل وفي العيد، وهو على أي حال رجل دين. ونخشى، كما تعرف، من الرومان الذين بمجرد أن تحدث أي اضطرابات، يُرسلون الفرق الرومانية ويفرضون حظر التجوال، ولا يُهِمُّهم عيدٌ أو غيرُ عيد.
-        مازلت لا أفهم ما الذي تنوون فعله؟
-        لقد كُنَّا نبني خطَّتنا لتقديمه للمحاكمة على كَسرِه وصية السبت، لكنه أفلت من ذلك عندما قدم تفسيره للسبت بطريقةٍ أقنعت الكثيرين، لذلك فَكَّرنا في طريقةٍ أخرى.
-        وما هي؟
-        أن نأتي له بامرأةٍ أُمسِكَت في الزِنى وعليها شهود، ونقوله له إن الشريعة تأمرنا أن مثل هذه تُرجَم، ونسأله رأيه، فإن لم يُقِر برجمِها، ويغفر لها كما غفر لامرأةٍ خاطئة في كفرناحوم...
-        وهل غفر لامرأةٍ خاطئة في كفرناحوم؟
-        نعم، قال لنا سمعان إن امرأةً جاءت إليه وهو مدعو لوليمةٍ عند سمعان ودهنت قدميه بالطيب، فسَمَحَ لها وقال لها: «مغفورة لكِ خطاياكِ».
قال بنيامين في دهشة: « قال لها ذلك؟»
-         نعم، ولم نستطِع أن نفعل شيئًا وقتها لأننا لم نستطِع أن نضبطها مُتَلَبِّسةً بالزنا، ومنذ ذلك الوقت ونحن نُفَكِّر في ذلك الأمر.

-        سامحني لقد قاطعتك. كنت تقول إِن لَم يُقر برجمها، ماذا بعد؟  
-        آه، نعم، إن لم يُقِر برجمها، يكون مخالفًا لأمرٍ معلومِ من الشرعِ بالضَرور، وعلى رؤوس الأشهاد، وبالتالي نستطيع محاكمته أمام السنهدرين.
-        وإن أقرَّ برجمها.
-        إذًا ستتولى أمره السُّلطات الرومانية وتقبض عليه باعتباره مناهضًا للحُكم الروماني.
-        كيف؟
-        أنت تعلم أننا لا نستطيع أن نُطبِّق الشريعة في أمر القتل بالذات، بسبب القانون المدني الروماني
-        نعم نعم.
-        ولا تَقلَق، إذا أطلَقَ سراحها ولم يُقِر برجمها، سوف نساعدك أن تقتلها ونُهَرِّبك تحت جنح الظلام. لقد اتفقنا مع بعض الإخوة الغيورين وجهزنا كل شيء.

صَمَتَ بنيامينُ ولَم يَرُدُّ بل ظَلَّ وَاجِمًا وعادَت إليِهِ المشاعرُ المُتَضارِبَة، وإن كان الغالب عليها هو الخوف الشديد. فالأمر بدأ يتحول إلى الجَدِّ، وقريبًا سيكون عليه أن يقتل أخته الكُبرى.