الأربعاء، 11 مارس 2015

8

الجليل

خَرَجَ يسوعُ كعادته والظلام باقٍ ليُصلِّي قَبلَ الفجر في قرية «سوخار» حيث باتَ عِندَمَا أَلَحَّ عَليهِ أهلُها من السامريين أن يتوقف ويمكث عندهم يومين.  رَفَعَ يسوعُ طَرفَ رِدَائِهِ ليُغطي بِهِ صَدرَهُ مُحتَمِيًا من البرد القارص في تلك الساعة المبكرة قبل شروق الشمس وهو يصعد السَفحَ الشرقِيّ لجبل عيبال المتاخم للقرية.
جبل عيبال هو أعلى الجَبَلين المحيطين بشكيم وهُما عيبال وجزريم. أَمّا جبلَ عيبال فهو يرتفع إلى أكثر من أربعمائة متر فوق سطح الوادي وما يقترب من ألف متر فوق سطح البحر. اجتاز يسوع الحجارة الكبيرة المُغطَّاة بالكَلسِ والمنقوشُ عليها كل كلامُ الشريعة التي أوصى موسى والشيوخ شعبَ إسرائيل أن يقيموها على جبل عيبال عندما يدخلوا الأرض التي وَعَدَهُم الرَبُّ. صَعد يسوع الجبل وكان البردُ يَشتَدُّ، والريح تَقوَى كلما صَعَد، حتى وَصَلَ إلى مكانٍ  يَشعَرَ فيهِ بالانفصال الكامل عن هذا العالم.
كانت الشمس قد بدأت ترسلُ نورًا خافتاً يَكفي لِكَي يَرَى يسوعُ مَوضِعَ قدميه وهو يصعد. وعند بقعة مستوية مغطاة ببعض العُشب ركع يسوع إلى صخرة ورفع شاله الأبيض ليغطي به رأسه وبدأ يُصلي. صَلَّى يسوع  من أجل النفوس المشتاقة إلى مُلكِ الله على قلوبِهِم، ومن أجل القلوب المنتظرة المسيا الذي يأتي ويجعل كل أرض الله مقدسةً، وكل قلوب البشر هياكِلَ لحضوره. حين لا يكون الجدلُ؛ أَنَسجُدُ فَقط في أورشليم القدس، أم في جبال السامرة أيضًا؟ وحين لا يكون الصراع على أي الجبلين أمر الله موسى أن يقيم المذبح؛ عيبال أم جرزيم؟ وإلى أينَ نُوَلّي وجوهِنا؛ شَطر القُدسِ، أم نحوِ مكانٍ آخر. صَلّى يسوع أن يفتح الله العيون فيُبصروا أن الله روحٌ لا يَحُدُّهُ المكانُ والزَمّانِ الذان يُحِدّان البَشر.

صَلَّى يسوع أيضًا من أجل دينة، وهو يتأمل عَمَلَ اللهِ في قَلبِها وكيف حاوَلَت مُراوَغةَ عَطَشِها للحياةِ الحقيقة بشُرب مياهٍ مالحةٍ لم تزدها إلَّا عَطَشًا، صَلَّى يسوع من أجل الخليقة الجديدة التي أينعت في قلبها بالإيمان. كما صلى من أجل تلاميذه أن يفتح اللهُ عيونهم ليروا الحقول المُبيَضَّة والمستعدة للحَصاد، لكنهم لا يُدرِكون بسبب التَعَصب القَبَلي والصراع العِرقي المُمْتَد عبر التاريخ. وفي الختام، صَلَّى من أجل جَولَةٍ جَديدةٍ في الخدمة في الجليل بعد العودة من الرحلة إلى أورشليم.

بعد أن فرغ يسوعُ من الصلاة، نَزِلَ من فوق الجبل ليجد بعضًا من تلاميذه عند السفح.
-        لقد بحثنا عنك في كل مكانٍ ياسيد.
-        كان ينبغي أن تعرفوا أين أكون في ذلك الوقت المبكر من الصباح.
-        لقد فَكَّرنا في هذا بالطبع، لكننا ظَننا أنك ربما لن تذهب للصلاة على أيٍّ من هذين الجبلين اللذين يتنازع اليهود والسامريون بشأنهما.
-    بالأمس قبل أن تأتوا بالطعام كُنتُ أَتَكَلّمُ مع تلك المرأة السامرية. حينئذٍ كُنتُ أقول لها أنه قَد جاء الوقت حيثُ تكونُ العِبادة الروحية مرتبطةً بالقلب وليس بالمكان. ليس المُهم حالةَ الجَسَد أو اتّجاهه بقدر ما هي حالة القلب وتَوَجُّهَهُ.
-        هل معنى ذلك يا مُعَلِّم أنَّكَ توافِقُ على طُرُق العبادة السامرية المليئة بالوثنية؟
-   بالطبع لا. لَقَد أَكَّدتُ لهذه المرأة أن الخلاص هو من اليهود, الله يقبل الجميع، ويُحِبُّ الجميع. لكن الله له طَريقٌ واحدٌ، يدعو الجميع أن يأتوا إليه من كُل طُرُقِهم.
في الغد، بَكَّر يسوعُ وتلاميذُه مسافرين من السامرة إلى الجليل مَرَّةً أخرى، وخرجت سوخار كلها لتودِّعه وكانت تتقدَّمهُم دينة. وقبل أن يختفي عن أنظارهم، رفع يسوع يديه وبارَكَهم ومضى مع تلاميذه في الطريق.
 *  *  *
كان يسوع ورفاقه يتحركون في اليهودية والجليل سيرًا على الأقدام، وكانت تلك الرحلات الطويلة فُرصةً للحوار والتعليم الخاص الذي كان يكشف فيه يسوع لتلاميذه ما لم يكن يقوله للجموع. أما في هذه المرة، ففي الأغلب لم يقُل يسوع لتلاميذه أنه أفصَحَ لهذِهِ المرأة السامرية، أنه هو المسيا.

قال يسوع لهذه المرأة إنه المسيا بسبب بَساطَةِ قَلبها، ولم يقُل ذلك أبدًا لليهود، الذين منهم الخلاص كما قال. لقد خطَّط الله أن يستخدم بني إسرائيل لإيصال خَلَاصَهُ للبشر، لكن نفس الخلاص لم يُعَد سهل الوصول إلى قلوبهم المتحجِّرة الموصدة بالدين، حتى وإن كانت مبادئ ذلك الدين حقًّا. معجزةٌ واحدةٌ جَعَلت هذه المرأة، بل وكل هذه القرية ذات العقيدة المُشَوَّهة، تؤمن بأن يسوع هو المسيح، بينما لم تؤمن قُرَى الجليل واليهودية برغم التراث الديني الفرّيسي الصحيح، والقوَّات العظيمة التي صنعها يسوع أمام عيونهم. هذا هو ما قَصَدَهُ يسوعُ بالحقولِ التي ابيَضَّت للحصاد ولا يرونها لأن عيونهم مرتبطة بأحلامهم الدينية القومية.



-        هل تلاحظ يا لاوي أن أسلوب أهل الجليل تغيَّر تجاهنا منذ أن عُدنا من العيد في أورشليم؟
-        نعم يا فيلبُّس، إنهم يبتسمون لنا منذ أن دخلنا منطقة الجليل.
-        بالطبع فهم يفتخرون الآن بما فَعَلَهُ يسوع، ابن الجليل، في أورشليم.
-        ألم تلاحظوا أنني لم أشترك في أحاديثكم طوال الطريق؟
-        لاحظت يا نثنائيل. لماذا؟
-        لقد كنت أُفَكِّر فيما حدث طوال الأسبوع الماضي.
-        وفيم كنت تفكر؟
-   أحداث عظيمة: تطهيرُ الهَيكَل، وشهادة المعمدان عن يسوع، وتلك القرية السامرية التي أذهلتنا، لكنني كنت أفكر في الدلائل العميقة لكل هذا.
-        ماذا يا نثنائيل؟
-        هل لاحَظتُم أنَّ يسوعَ في بِدايةِ خِدمَتِهِ قد لَمَس كل أجزاء المَشهَد الذي نعيشه بقوةٍ غير عادية؟
-        كيف؟
-        من أورشليم حيث قادة اليهود، إلى صحراء اليهودية حيث يوجد الانعزاليون ومنهم يوحنا، إلى السامريين المهرطقين، ولم ينسَ الأُمَمَ في الطريق، ففتح أمامهم بيت الصلاة في الهيكل. ألا ترون المشهد كاملًا؟
-        ياه يا نثنائيل، لم نلاحظ هذا. فيسوع يُدهِشنا بأقواله وأفعاله حتى أننا لا نتوقف لنستوعب الصورة الكبيرة كما تفعل أنت.
-        ربما قد أفادَني شرودي يا سمعان.
ضَحِكَ التلاميذ كُلُّهُم فسمعهم يسوع الذي كان يمشي في المُقَدِّمة مع يوحنا ويعقوب.
-        ما بالكم تضحكون؟
-        لقد تلقينا دَرسًا من نثنائيل. لعله ينافِسُك يا مُعلم.
قال يسوع وهو ينظر إلى نثنائيل ويبتسم: «أنا أعلم ما في قلب نثنائيل».
قال سمعان بطرس وهو يحاول أن يُضفي على كَلاَمِهِ طابع الجِدّية المُبالَغُ فيها قليلاً: «نُلاحِظ يا مُعلم زيادة تَقَبُّل الجليليين لنا منذ أن عُدنا من العيد».
-        شعبُنا مُتَدَيِّن ينتظر دائمًا البركة من أورشليم، وحيث إن أورشليم قد شهدت لي، لذلك فهُم ينظرون إليَّ الآن بطريقةٍ مختلفةٍ.
-        هل ستدخُلُ الناصرةَ يا مُعَلِّم؟
-        ليس الآن، دعونا نذهب إلى قانا.
عند أبواب قانا وجد يسوع وتلاميذه تَجَمُّعًا غير عادي وخيول للشُرطة المَلكية. ومن وسط هذا التَجَمُّع نزل أحد رجال بلاط هيرودس أنتيباس.
-        يا مُعَلِّم أنا حنانيا أحد خُدَّام القصر المَلَكي في كفر ناحوم.
-        وما الذي جاء بك إلى قانا؟
-        سَمِعتُ أنك وصلت للجليل من أورشليم. كل الحجيج قد وصَلوا وتأخرتَ أنتَ وتلاميذُكَ طَويلًا وكنا طوال هذا الوقت بانتظارك.
-        لقد توقفنا في سوخار ليومين؛ استضافنا السُكَّان هناك.
-        سوخار؟ في السامرة؟
ظهرت علامات التَعَجُّب والاستياء على وجه حنانيا، ثم ما لبث أن عادت ملامح وجهه لِما كانت عليه من القلق وقال: «يا سيد، ابني مريضٌ. أرجوك انزل معي إلى كفرَ ناحومَ لتشفيه».
-        لا تؤمنون يا أهل كفر ناحوم إلا إذا رأيتُم آياتٍ وعجائب. ليتَكُم كُنتُم معنا في سوخار.
-        سامِحني يا سَيِّد. أرجوكَ انزل قبل أن يموت ابني.
-        لا تَخَف. اذهب. سيَحيا ابنُك.
تَهَلَّلَت أساريرُ الرجُل إذ كان يثِقُ في كَلِمة يسوع وقُدرَتَهُ الهائِلَةَ للشفاء.









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق