الجمعة، 27 مارس 2015


الفصل السابع
معرفة المسيح والتعددية المسيحية


 «بِالْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ الْوُجُوهَ. بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ.»
بطرس، سفر أعمال الرسل 10: 34- 35

التعددية المسيحية هنا تعني تعددية مُشتَقَّة من صورة الله التي أتى بها يسوع المسيح إلى العالم. إنها التعددية المبنية على كرم الله وعدله والتي ظهرت في أجلى صورها في المسيح. مثل هذه التعددية تبدو مستحيلة بالنسبة لكثيرين. إذا كان للمسيحيين والمُعَلِّمين المسيحيين على حَق بالنقاط الأساسية عن الله، ويسوع المسيح، والحياة الروحية، فهذا لا يعني إلا أن هؤلاء الذين لا يتفقون معهم في هذه النقاط مخطئون. هذا لا يُمكن تجنبه، وهي مسألة منطقية. من يؤمن بصدق شيء بطبيعة الحال يؤمن أن المختلفين معه فيه على خطأ وهو على صواب، وإلا فما معنى أنه يؤمن بهذا الشيء؟ لكن النَقلَة غير المنطقية، والتي أصبحت معتادة هذه الأيام، هو أن يعتبر المسيحيون أنفسهم بشراً أفضل  من الآخرين الذين يختلفون معهم، وأن هؤلاء الآخرون فئة متدنية من البشر، وليسوا مساوين لهم.[1]
إن كان هذا هو الحال، فهذا لا معنى له إلا أن المسيحيين هم أشخاصٌ يتميزون بالتكبر والتصلف ضد كل من يختلفون معهم مثل الملحدين، واللاأدريين، وغير المؤمنين بكل الصُوَر، والمؤمنون بأديانٍ أخرى ـــــــ ربما أيضاً المسيحين الآخرين الذين يختلفون معهم في بعض النقاط في التعليم المسيحي.
ويتساءل البعض: "أليس من الكبرياء وعدم المحبة أساساً أن تعتقد أنك على صواب والآخرين على خطأ؟" هذا سؤال استنكاري بلاغي وليس سؤالاً استفهامياً. ومن يسأل هذا السؤال يعتقد أن من الكبرياء والتصلف أن يعتقد أحد أنه على صواب والآخر على خطأ. وهذا أيضاً شائع هذه الأيام.
لكنك تحتاج فقط تحتاج لإن تعيد وضع السؤال في عموميته وتحاول الإجابة عنه باعتباره سؤالاً استفهامياً وتجيب: لا. أنه ليس من الكبرياء وعدم المحبة فقط أن تعتقد أنك على صواب والآخرون على خطأ بشأن أمرٍ من الأمور. ففي بعض السياقات ربما يكون من الحيوي أيضاً بالنسبة لخير البشرية أن نشير إلى الأخطاء والسهوات التي تحدث. فهذا يُمكن أن يكون أكثر الأشياء صلاحاً ومحبة يمكن أن تفعلها لشخصٍ ما، أن تنبهه لخطأه. لكن هذه الإجابة كثيراً ما تكون مُشَوَّشة في أذهان بعض المتعمقين في التفكير، وذلك بسبب حقيقة أن كثيراً من الذين يعتقدون أنهم على صواب والآخرون على خطأ يتميزون بالسلوك البغيض الخالي من المحبة. طبعاً من الواضح أنهم لا ينبغي أن يكونوا هكذا وهذا ليس نابعٌ فقط من كونهم يظنون أنهم على صواب والآخرون على خطأ وإنما من عواملٍ أخرى بخلاف مجرد الاعتقاد بأنهم على صواب والآخرون على خطأ. بكلمات أخرى، ليس بالضرورة أن كل من يظن أنه على صواب والآخرون على الخطأ، يُصبح شخصاً متكبراً متصلفاً.
على أي حال، لقد كان هناك دائماً كثيرون شديدوا الاقتناع بصواب ما يعتقدونه، في الدين وفي أشياءٍ أخرى، دون أن يكون سلوكهم متكبراً وخالياً من المحبة. وبالنسبة لكثير منهم، فإن عمق تَأَكُّدِهم من قناعاتهم الدينية هو الذي يجعلهم متواضعين ومُحِبِّين للمختلفين معهم. بل لعله يكون من عدم المحبة ومن الكبرياء أن نفشل في أن نواجه بالطريقة المُناسبة، من نظنه على خطأ أو قد سَلَكَ الطريق الخطأ.
الحَصرية المنطقية
المعرفة في حد ذاتها تنطوي على ما يُمكن أن نُسَمِّية الحصرية المنطقية، وهذا ينبغي أن تُحتَرَم. وهذه تنسحب على كل ما هو موجود من المعرفة الدينية. وهذا بسبب حقيقة أن المعرفة (ليس فقط الإيمان، والإلتزام، والعاطفة، أو التقليد) تحتوي على ما نعتبره حقاً. والحق بطبيعته الجوهرية حَصريّ (بمعنى أن الحق لا يُمكن أن يكونَ باطلاً والباطل لا يُمكن أن يكون حقاً). إذا كان أي معتقد حق، فهذا بطبيعة الحال يجعل المعتقد المضاد له ليس حقاً. أي يجعل الحَقَّ حصرياً على هذا المعتقد، فلا يمكن لمعتقدين متناقضين أن يكونا كلاهما على صواب. هذه الحصرية ليس قضية ما يريد الإنسان أو يتمنى أن يكون صواباً أو خطأً. على سبيل المثال، إذا كان حقاً أن "فستان سوزان أحمر"، فمقولة أن "فستان سوزان أبيض" أو أن "فستان سوزان ليس أحمراً" مقولات خاطئة ولا يمكن أن تكون غير ذلك. لا يتعلق الأمر عندئذ بأفكارنا ومشاعرنا. فمهما كانت أفكارنا ومشاعرنا فهذا هو المنطق الذي يسود على أفكرنا ومشاعرنا.
لذلك فإن فكرة "التعددية" لكي تكون فكرة منطقية، لا يُمكن أن تكون إدّعاءًا أن كل المعتقدات الدينية صائبة، حيث أن الكثير من المعتقدات الدينية متعارضة. ولا يُمكن لهذه التعددية أن تفرض على من يؤمن بها أن يؤمن بأن كل الأديان على نفس الدرجة من الحق. فهذا ينطوي، كما أشرنا، على الإيمان بأمور خاطئة. لا يوجد فرض على أي إنسان أن يفعل ذلك، كما أن الإيمان بأن كل الأديان على نفس الدرجة من الصحة، لهو أمرٌ مستحيل من الوجهة النفسية أيضاً. لا يستطيع أحد أن يؤمن أن كل الأديان على صواب ـــ هذا إن كنا نتكلم عن إيمان حقيقي وليس مجرد كلام.
شيءٌ ما صواب في التعددية
إلا أنه هناك شيءٌ ما صواب فيما يتعلق بالتعددية بعد أن نتجاوز فهم هذه "المستحيلات" المنطقية. هذا الشيء الصواب في التعددية من الواضح أن يتعلق بالطريقة التي نتعامل بها مع الذين نختلف معهم في الأمور الدينية، وبالذات الطريقة التي نتعامل بها مع الأديان الأخرى ومُمارِسيها. التعددية هنا تتعلق بالتوجه السليم تجاههم، والتعامل الطيب معهم، والتواضع وعدم التصلف فيما يتعلق بمعتقداتنا ورؤانا. وهذا ينبع أساساً من اعتقادنا أن إيماننا بأمر ما أنه صواب لا تعني أننا أشخاصٌ كاملون بلا عيب، وأننا غير مخطئين تماماً فيما نعتقد (نحن نظن أننا غير مخطئين، لكن ربما نكون مخطئين). وبتعبيرات مسيحية واضحة، فإن التعددية تتعلق بقبول الآخرين الذين لا نتفق معهم ولا يتفقون معنا كأقرباء (جيران) لنا، ونحبهم كما نُحب أنفسنا ـــــــ أي نعاملهم كما نُحِب أن يعاملونا. هذا الواجب المسيحي مَبنيّ بشكل صارم على معرفة الله، التي حصلنا عليها في المسيح، والطريقة التي ينبغي على أتباع المسيح أن يتعاملوا بها مع الآخرين فيما يتعلق بالآراء والمعتقدات. هذه الطريقة تتميز بالاحترام لكل مجهود بشري مخلص لمعرفة الحقيقة، يقوم به أي إنسان اتفقنا أو اختلفنا معه.
والطريقة التي نتعامل بها مع هذه الفريضة المسيحية تعتمد على الكيفية التي بها نفهم "التعددية". ففي واقع الأمر فإن التعددية تُفهم هذه الأيام بطُرُقٍ كثيرة ومختلفة، ويوجد الكثير من الضبابية والارتباك حول معناها.

النوع الأضعف من التعددية
ربما يكون أضعف شكل من أشكال التعددية هو الإدعاء بأنه لا يوجد دينٌ واحد يحتوي وينقل كل الحق عن الله (أو "الماورائيات" الروحية)، وعن البشر، والعلاقات بينهم. هذا الموقف عادة ما يفترض أيضاً أن الكثير من الأديان ـــــ وليس بالضرورة الكُل ـــــ يُعَلِّم بعض من الحقائق الدينية الجوهرية، مثل وجود الله، وأن وجوده هذا له أهمية وتأثير في حياة البشر. وأن هناك نوع من الصلاة وبعض المفاهيم عن الصواب والخطأ، أو عدم النقاء الأخلاقي من ناحية، ومن ناحية أخرى يعلم شيئاً عن الفداء "الخلاص"  أو التطهير. كل هذا موجود في كل الأديان الرئيسية. وبلا شك هذا يتضمن أيضاً بعض النوع من "الخدمة" أو "الطاعة" لله (أو للآلهة) وشيء مثل القاعدة الذهبية (وهي أن تفعل للآخرين ما تحب أن يفعلوه لك). هذا كُلّه موجودٌ في كل الأديان.
هذا النوع من التعددية يفترض أن كل هذه السمات التي تشترك فيها أديان كثيرة تحتوي على نواحٍ هامة من الحق والخير ويبنغي أن تُحترم من الجميع كما هي. صحيح أن بعض الذين يتميزون بالعداء الشديد للتعددية يمكن أن يرفضوا حتى هذه الدرجة البسيطة من التعددية، لكن تلاميذ المسيح بالطبع لا ينبغي أن يفعلوا ذلك. وأقصد أن تلاميذ المسيح ينبغي أن يحترموا أن هذه الأمور الموجودة في الكثير من الأديان، صالحة وضرورية وينبغي أن تُحترم. وكما سنري فيما يلي كيف أن أهم المتحدثين باسم المسيح في الكتاب المقدس تميزوا بما هو أكثر سخاءً من ذلك تجاه الأديان الأخرى وقالوا أن إله الكتاب المقدس، إله المسيحيين يتعامل بحب وعدل مع الذين فشلوا في يصلوا للحق في فهمهم وممارساتهم. المسيحيون من المفترض أنهم يريدون أن يكون كل شيء كما ينبغي أن يكون. الحق حق، والخير خير إينما وُجِد، مهما كان من ينادون به، ومها اختلفوا معهم في أشياء أخرى. إنهم يؤمنون أن كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ (يعقوب 1: 17). إن هدفنا كأتباع ليسوع المسيح هو أن "نُكرِم الجميع"  وأيضاً أن نُحب الإخوة (1بطرس 2: 17).
                                                                            
النوع الأقوى من التعددية
لكن الأمور تختلف في نوع آخر أقوى من التعددية هي التي يعتنقها أغلب الناس اليوم، وبالذات الأكاديميون. هذه النسخة من التعددية هي الرؤية بأن كل الأديان متشابهة. أي أنه عملياً، مهما كان الدين الذي تمارسه، فلا فرق، على الأقل "في النهاية". في هذا التصوُّر سواء كنت مسلماً أو مسيحياً أو هندوسياً، فهذا لا يصنع أي فرق سواء في حياتك الحاضرة أو فيما بعد.
من الصعب تَخَيُّل أن أي منتمِ لأي من الأديان الرئيسية يُمكنه أن يتبنى التعددية بهذه الصورة القوية. يبدو أن هذا الموقف هو الموقف الذي يتبناه الذين ليست لديهم هوية دينية على الإطلاق، أو الذين لا يعرفون شيئاً عن الأديان وممارستها الفعلية. لكن لماذا علينا أن نأخذ هذه التصريحات مأخذ الجد؟ بصراحة، إن من ينادون بهذا النوع من التعددية يعرفون القليل، أو لا يعرفون شيئاً عما يتكلمون عنه. على جانبٍ آخر، بالرغم من أن بعض المنتمين لبعض الأديان ينادون بهذا النوع من التعددية، بل ويفخرون بذلك، لا يُمكننا إلا أن نلاحظ أنهم لا يزالون يتمسكون بأديانهم وممارساتهم، والتي تختلف بشدة عن معتقدات وممارسات الأديان الأخرى ويتصرفون باعتبار أن معتقداتهم وممارساتهم بشكل ما أكثر أهمية أو "أفضل" من معتقدات وممارسات الآخرين.
ويتمسك التعددي، بهذا المفهوم القوي للتعددية، بأنه لا فرق بالنسبة لله وبالنسبة للمصير النهائي للإنسان، أي عقيدة أو أي انتماء أو ممارسة دينية يمارسها ذلك الإنسان. ومن الواضح أن هؤلاء التعدديون اللادينيون يبنون وجهة نظرهم بشأن وحدة الأديان على فرضية عدم وجود الله، وعدم وجود الحياة الأخرى من الأساس. في هذه الحالة الأخيرة، يكون من المفهوم لماذا يتبنون هذه الفكرة. أما إذا كنا نحن على صواب، فسوف نرى في الفصول القادمة، كيف أنهم مخطئين فيما يتعلق بالله وبالحياة الأخرى. إن لدينا بالفعل معرفة بالله وبالحياة الأبدية، وهي بالفعل حقائق. على أي حال هذه التعددية الشديدة، سواء كانت إلحادية أم لا، فهي قفزة إيمان عمياء، وإلا فهي مبنية على فهم لاهوتي متكامل ــ إلا أنه سلبي ــ لكنهم على أي حال يحتاجون للدفاع عنه ـ وهذه نقطة سوف نعود إليها بعد قليل.

الفرق في الحياة الحاضرة
على العكس، فإن كان الدين الذي يعتنقه الإنسان يصنع فرقاً دالاً (ذو أهمية) في حياته الحاضرة فهذا أمر واضح ومباشر ويُمكن حسمه بفحص "حقائق كل حالة". الجادّون من المسيحيين واليهود، على سبيل المثال، لهم أشكال مختلفة من الحياة الدينية. فهم يؤمنون ويمارسون أموراً مختلفة عن بعضهم البعض، بالرغم من أن المسيحية واليهودية ربما أقرب لبعضهما البعض من ديانات رئيسية أخرى. عند مُقارنة الأديان فيما يتعلق بتأثيرها في الحياة الحاضرة، يُمكننا أن نتجاوز رؤية بعض الاختلافات في الأذواق وطبائع الأشياء التي لا تصنع فرقاً في حياة الإنسان مثل الملابس، أو الأكلات أو غيرها من الأمور التي تعتبر طقسية. يُمكننا أن نتجاوز هذه الأشياء، لكن بالطبع ليس كل الفروق بين الأديان تقع في هذه الأمور السطحية.
من الواضح عندما نتأمل قليلاً ، ومع معرفة بسيطة بالأديان الموجودة، يُمكننا أن نُدرك أن بعض هذه الأديان أفضل من غيرها بالنسبة بالنسبة لحياة البشر الحالية. أي دين يُعلِّم بكراهية من ينتمون لأديان أخرى، على سبيل المثال، سوف يكون له تأثيرات خطيرة على البشرية في هذه الحياة. وهذا يمنع ذلك الدين من أن يكون مساوياً لدينٍ آخر لا يُعلِّم بذلك. وبالمثل، فإن الدين الذي يُمارس تقديم ذبائح بشرية، بالطبع لن يكون مساوياً لدين آخر لا يُمارِس مثل هذه المُمارسات. هذا يعني أن الأديان ليست كلها متشابهة من حيث تأثيرها على خير البشرية، فهناك أديان مُضرّة للبشر. لكن هل الاختلافات والتشابهات المتعلقة "بهذه الحياة"  بين الأديان، هي الأمر الأكثر أهمية بالنسبة لموضوع التعددية؟  بالطبع لها أهمية، لكنها ليست بأهمية كبرى فيما يتعلق بالنقاش الخطير الذي ننقاشه هُنا.

الفرق بين الأديان فيما وراء الحياة الحاضرة
إن التعددية التي تؤمن بأن الدين الذي تعتنقه لا يصنع فرقاً في الأمور النهائية بالنسبة لله وللحياة بعد الموت ـــ ينبغي لها أن تقدم معرفة وأدلة أقوى، فينبغي أن يكون لدينا سبب مقنع لأن نؤمن بها، لأن الأمر هنا يتعلق بمصيرنا الأبدي. إننا عندئذ نُريد أن نعرف على أي أساس يتأكد هؤلاء التعدديون أن الأديان كلها لا تصنع فرقاً في الحياة الأخرى. هل يعتقدون فعلاً أن الاختلافات في الأديان أمرٌ لا يهم الله كثيراً، ولن يصنع فرقاً في المصير الأبدي للأشخاص؟ ما الذي يُمكن أن يجعل الإنسان يعتقد كذلك؟ يبدو، ومن الوهلة الأولى أن هذا الاعتقاد غير مُرَجَّح. خاصة أن كل الأديان تقريباً تقول أن عقائدها وممارساتها تصنع فرقاً حقيقياً في المصير النهائي للإنسان.
بالطبع إن كان الذي يؤمن بالتعددية القوية التي أشرنا إليها سابقاً يعرف أنه لا يوجد إله من الأساس، وبالتالي لا توجد حياة بعد الموت، فإن من السهل عليه جداً أن يؤمن أن الأديان لا تصنع فرقاً في الحياة الأخرى، لأنه بالنسبة له، لا توجد حياة أخرى أصلاً. لكن المعرفة التي لدى المسيحيين، إن كنا على صواب، تضع هذه الأمور "المتسامية" في ضوء جديد.
إن فكرة وجود الله، والمصدر غير الماديّ للعالم الماديّ، كما أشرنا في الفصول السابقة، وقيامة المسيح، وحقيقية الحياة الروحية في المسيح، كلها أمورٌ تقلل من إمكانية أو ترجيح تلك التعددية التي تقول أن دين الإنسان لا يصنع فرقاً في مصيره الأبدي. وبحسب التعليم المسيحي، فإن الله يرى أن  ما يعتقده الإنسان يؤثر بشكل عظيم في نوع الحياة التي يحياها ذلك الإنسان، وفي طبيعة وجوده. هذا بدوره، يعتمد كثيراً على علاقته بالله والمسيح. إذاً يبدو واضحاً، في ضوء التعليم والمعرفة المسيحية، أنه لا يمكن للمسيحي أن يكون تعددياً بهذا المفهوم الذي تقدمه التعددية القوية. إن الله، في المفهوم المسيحي، يهتم بكوننا نحب أو نكره أعداءنا. ويهتم إن كان نعيش حياة سطحية أم عميقة. ويهتم إن كنا نقبل أو لا نقبل القوة التي يمنحها الله لنا لنتعامل مع الخطية، وهكذا.

المزيد ينبغي أن يقال
لكن هذه بالطبع ليست نهاية القصة. إن طبيعة إله التقليد اليهودي ــ المسيحي وطبيعة الحياة الروحية في المسيح لها تداعيات إضافية هامة فيما يتعلق بالتعددية. الحقيقة الأولى تحديداً هي أن الله كيان طبيعته الأساسية هي المحبة غير المشروطة (آجابى) لكل البشر، مهما بكل البشر. هذا يقع في قلب المعرفة المسيحية. "هكذا أحب الله العالم" نحن نعرف ذلك. ونعرف أيضاً أنه "لا يريد أن يهلك أحد" (يوحنا 3: 16، 2بط 3: 9)، هذا ببساطة الوجه الآخر من الوحدانية الكتابية، عندما تُفهم بشكلٍ سليم، وقلب الأديان الإبراهيمية. أي أن الإيمان بالله في الكتاب المقدس هو عملة ذات وجهين. أحدهما الوحدانية والثاني المحبة. فإن كان الله هو إله الجميع، فهو يهتم بالجميع. إنه لا يجلس هناك في عزلة عن الجميع مُطالباً بالعبادة والطاعة، بل إنه يتنازل وينزل ويقترب ويتعامل. إن نعمته هي القاعدة الفاعلة في هذا الكون. والمسيح الذي ندعوه يسوع، هو أيضاً المسيح الكونيّ، الكائن قبل الخليقة وخلال الخليقة وخلال التاريخ كله، من الأزل إلى الأبد.
هذا المعنى للتوحيد الإلهي موجودٌ دائماً في الوعي النبوي لبني إسرائيل، أبناء إبراهيم. لأنه، أي الرب، فاعلٌ دائماً في حياة الجنس البشري كله وبصورة عامة. إنه إلههم، سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه. يكتب النبي حنانيا خلال انتهاره لأحد الملوك اليهود الضالين مؤكداً التالي: «لأَنَّ عَيْنَيِ الرَّبِّ تَجُولاَنِ فِي كُلِّ الأَرْضِ لِيَتَشَدَّدَ مَعَ الَّذِينَ قُلُوبُهُمْ كَامِلَةٌ نَحْوَهُ،». إن الله يعلن نفسه لكل الأرض من خلال تلك اللغة الكونية وهي الطبيعة (مزمور 19: 1- 4، راجع أيضاً رومية 10: 18). إن الله طالبٌ وباحثٌ بكل جِدّية عن هؤلاء الذين يسجدون له بالروح والحق (يوحنا 4: 23- 24). المسيح الكوني هو النور الذي "ينير كل إنسان" (يوحنا 1: 19). لذلك يُمكننا أن نتأكد أن الله يُحِبُّ كُلّ البشر وهو متداخل في حياة كل إنسان، سواء كان مُتَدَيِّناً أم لا، وسواء كان  له وعي بالله، أو اختار أن يرفض الله. إننا متأكدون من ذلك بسبب ما نعلمه عن الله وما قد تلامسنا معه، كتلاميذ للمسيح.
والآن بسبب طبيعة الله، بحسب التعليم المسيحي، فإننا نتأكد أن الله لن يظلم أحد. «أَدَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ لاَ يَصْنَعُ عَدْلاً؟» (تكوين 18: 25). كل ما هو صالحٌ وحقٌ وعادلٌ سوف يفعله الله. وسوف يَرضى الجميع بما يفعل. إن شخصية الله المُحب تَمنَعَهُ من أي قدر من الظُلم. إن لديه الرغبة والقدرة أن يجعل كل البشر، مسيحيون أو غير مسيحيين، يحصلون بالضبط على ما يستحقونه، وأفضل أيضاً مما يستحقون.
إن إلهنا هو إله النعمة، الذي ينظر إلى القلوب ويُدرك أيضاً كل ضعف الإنسان والمحدوديات التي يعيش ويشقى تحتها. في الكلمات الجميلة للمزمور 103: «لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا، وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثامِنَا. لأَنَّهُ مِثْلُ ارْتِفَاعِ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الأَرْضِ قَوِيَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ. كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا. كَمَا يَتَرَأَفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ يَتَرَأَفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ. لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا. يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ.» (الأعداد 10- 14).
إن علينا أن نتأكد أن مجهوداتنا الدينية العظيمة لا تُبهره. لكنه يقول: «إِلَى هذَا أَنْظُرُ: إِلَى الْمِسْكِينِ وَالْمُنْسَحِقِ الرُّوحِ وَالْمُرْتَعِدِ مِنْ كَلاَمِي.»، وأيضاً، « وَأَنْتَ فَارْجعْ إِلَى إِلهِكَ. اِحْفَظِ الرَّحْمَةَ وَالْحَقَّ، وَانْتَظِرْ إِلهَكَ دَائِمًا.» وأيضاً، «قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ، وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ، إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ، وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعًا مَعَ إِلهِكَ.»

القلب السليم أمام الله
إن الدرس الخاص بأولوية وكفاية القلب السليم أمام الله درس كثيرٌ ما نفقد رؤيته، ففي الدين الرسمي والمؤسسي كثيراً ما يقوم الجزء الإنساني من الدين  ( أي ما يقوم به الإنسان في إطار الدين) بابتلاع  الجزء الإلهي فيه (أي عطايا الله الذي أودعها في الخليقة من الأساس) وبالخليقة نعني كل شيء وكل البشر. هذا يحول الدين إلى مصنوعٍ ثقافي قام الإنسان بصُنعه ليُعَبِّر من خلاله عن تفوقه على أخيه الإنسان، كما يصنع أشكالاً وألواناً أخرى من الثقافة والفن والعمارة. كان ذلك هو الحال بشدة في الوقت الذي سار فيه يسوع على الأرض بيننا، ولم يكن هناك ما أولاه يسوع اهتمامه  أكثر من العودة للدين الحقيقي، وهو دين القلب في ملكوت الله، وليس دين المظاهر.
لقد فتح يسوع باب الحياة في ملكوت الله أمام كل أنواع الناس ـــ خاصة هؤلاء الذين لم يكن لديهم "المواصفات الدينية المطلوبة". وهذه الحقيقة في خدمة يسوع، أَتعَبَت أَقرَب أتباعه وَأَلَدَّ أعداءه على حد سواء،  وهي السبب الحقيقي في صراعهم معه، على أقل تقدير. الكلمات التي قالها بطرس الرسول والتي اقتبستها في مقدمة هذا الفصل تمثل تقدماً مُذهلاً يشبه الزلزال في تَفكير وفَهم بطرس وكذا الكنيسة الأولى. هنا بطرس يقف أمام شخصٍ روماني، أُمَمِيّ مرفوض قال له ملاكٌ: َياكَرْنِيلِيُوسُ، سُمِعَتْ صَلاَتُكَ وَذُكِرَتْ صَدَقَاتُكَ أَمَامَ اللهِ. (أعمال 10: 31).
مرة أخرى. هذا شخص روماني أُمَمي غير مُختتن في اليوم الثامن، لا يصلي في الهيكل ولا يقدم الذبائح ولا يقرأ التوراة. قال ملاكٌ لذلك الإنسان: َياكَرْنِيلِيُوسُ، سُمِعَتْ صَلاَتُكَ وَذُكِرَتْ صَدَقَاتُكَ أَمَامَ اللهِ. كان هذا قبل أن يعرف هذا الرومانيّ أي شيء عن يسوع. هنا بدأ بطرس يدرك ما كان ينبغي أن يدركه من قبل وهو أن «اللهَ لاَ يَقْبَلُ الْوُجُوهَ. بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ.»
وفي إطار الأتباع الأولون للمسيح، كان الأمر يتعلق بإمكانية أن يكون الإنسان مقبولٌ من الله دون أن يكون يهوديّ. أما ما نحن مهتمون به الآن فهو ما إذا كان يمكن ألا يكون الإنسان مسيحياً بالصورة المُتعارف عليها مجتمعياً ـــ وهذا الصورة تختلف من مجموعة مسيحية إلى غيرها ــ ويكون مقبولاً لدى الله. لكن في النهاية.  القضية واحدة وهي تعتمد بصورة أساسية على مفهومنا لأن يكون الإنسان مسيحياً أو يهودياً. في أيام يسوع، وبطرس، وبولس، أن يكون الإنسان "يهوياً صالحاً" ـــ "مقبولاً" ـــ فهذا يتضمن بصورة أساسية مراعاة الناموس الطقسي، وبالذات الختان للذكور، وحفظ السبت، القوانين المتعلقة بالطعام والشراب، وغيرها من الطقوس. كان السؤال هو: هل يُمكن أن يوجد إنسان لا يفعل هذه الأمور ويكون مقبولاً من الله؟
في أناجيل العهد الجديد وسفر أعمال الرسل نرى أن هذا كان أمراً كبيراً بالنسبة للمؤمنين الأوائل بالمسيح، والذين كان كلهم يهوداً. ويتعامل بولس مع هذا الأمر بوضوح وبطريقة مباشرة في الأصحاح الثاني من رسالته لأهل رومية. ففي هذا الأصحاح يتكلم عن الفشل الروحي والأخلاقي التام لكل البشر، سواء كانوا يهوداً أم أُمَماً وكيف أنهم يواجهون "دينونة الله العادلة"، الذي "سيحاسب كل واحد كحسب أعماله" (رومية 2: 5- 6). النقطة الرئيسية في هذا الأصحاح هو أنك سواء كنت يهودياً أو أممياً فهذا لا يصنع أي فرق في كونك مقبولٌ لدى الله. إنه يقول: «أمَّا الَّذِينَ بِصَبْرٍ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ يَطْلُبُونَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْبَقَاءَ، فَبِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ. 8وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ التَّحَزُّبِ، وَلاَ يُطَاوِعُونَ لِلْحَقِّ بَلْ يُطَاوِعُونَ لِلإِثْمِ، فَسَخَطٌ وَغَضَبٌ، 9شِدَّةٌ وَضِيقٌ، عَلَى كُلِّ نَفْسِ إِنْسَانٍ يَفْعَلُ الشَّرَّ: الْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ الْيُونَانِيِّ. 10وَمَجْدٌ وَكَرَامَةٌ وَسَلاَمٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْعَلُ الصَّلاَحَ: الْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ الْيُونَانِيِّ. 11لأَنْ لَيْسَ عِنْدَ اللهِ مُحَابَاةٌ.» (الأعدد 7- 10). وكأنه يسأل سؤالاً بلاغياً تقريرياً: «إذا كان غير المختنونين يطيعون الناموس، أفلا يستطيع الله أن يعتبر عدم ختانهم هذا ختاناً؟ (عدد 26).» والإجابة الواضحة هي: "بلى يستطيع".

ختان القلب
إننا ينبغي أن نلاحظ بدقة أن بولس لا يقول أن الجميع "على ما يرام" في نظر الله. إنه ليس تعددياً بهذا المفهوم. ما أبعده عن ذلك. إنه يريد أن يحذر الذين هم ليسوا "على ما يرام" مع الله. النقطة التي يريد أن يؤكد عليها هي أن هوية الإنسان كيهودي لن تضمن له أن يكون على مايرام مع الله. يُمكنك أن تكون يهودياً "من خلال العلامات الظاهرة" وتكون على ليس ما يرام مع الله. ويضيف. "اليهودي الحقيقي هو اليهودي في الداخل، والختان الحقيقي ليس الختان الذي في الجسد، وإنما ختان القلب ـــ إنه الختان الروحيّ لا الحرفي. مثل هذا الإنسان مَدحُهُ ليس من الناس، بل من الله." (عدد 29).
نفس الأمر كما ينطبق على اليهودي ينطبق على "المسيحي" اليوم. كثيرٌ من الناس اليوم مسيحيين من خلال المقاييس المنظورة بشرياً ، وليكن بالمعمودية، أو بالعضوية في الكنيسة، أو من خلال "الصلاة لقبول المسيح مخلصاً" أو الاشتراك المنتظم في الأسرار ـــ لكنهم لا يزالوا يفتقرون إلى ذلك "الختان" الروحي الداخلي الذي يتكلم عنه بولس الرسول هنا. وعلى الجانب الآخر يوجد آخرون ليست لديهم هذه العلامات الظاهرة، لكن لديهم القلب الداخلي الذي ينظر الله إليه ويجده مقبولاً لديه. هذه هي التعددية المسيحية التي نتكلم عنها هنا. كورنيليوس قائد المئة الروماني الذي يأتي ذكره في الأصحاح العاشر من سفر أعمال الرسل هو من الحالات التي توضح هذه النقطة. هو رجل" تَقِيٌّ وَخَائِفُ اللهِ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ، يَصْنَعُ حَسَنَاتٍ كَثِيرَةً لِلشَّعْبِ، وَيُصَلِّي إِلَى اللهِ فِي كُلِّ حِينٍ (عدد 2). والله قد وجده!
الرسول يوحنا الشيخ، وهو الأكثر من بين كل كتبة العهد الجديد الذي كان لديه أطول وقت للتأمل في شخصية يسوع والذي حصل على رؤيا من الله كتبها في نهاية العهد الجديد. هذا الرجل يُعَرِّفُ الأمر جيداً من منظور المحبة فيقول في رسالته الأولى: "كل من يُحب فقط وُلِدَ من الله ويعرف الله لأن الله محبة" (1يو 4: 7-8). لكن ينبغي على المرء أن يفهم أن هذه "المحبة" التي يتكلم عنها هي مستوى عالي جداً من المحبة لا يُمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه إن لم يولد من الله.
هل يعني هذا أن كل من يُحب فقد اشترى لنفسه الخلاص؟ أي أنه قد أصبح مستحقاً للقبول من الله؟ لا. على الإطلاق. الأمر هو ببساطة وصف لمدى اتساع محبة الله ورحمته. إن فكرة أن الله يتعامل مع البشر فقط من منطلق الاستحقاق هي فكرة خاطئة ــ خاصة عندما يكون هذا الاستحقاق قد تم قياسه بطرق بشرية، وهذا هو المعتاد دائماً. بالإضافة إلى ذلك فإن فكرة أن أي شيء وكل شيء هم مقبول لدى الله، هي أيضاً فكرة خاطئة. الله في صلاحه وحكمته يتجاوب مع محاولات البشر المعيبة الوصول ـــ بأن يصل هو إليهم. إنه ينظر إلى القلب. «لاَ تَنْظُرْ إِلَى مَنْظَرِهِ وَطُولِ قَامَتِهِ لأَنِّي قَدْ رَفَضْتُهُ. لأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَنْظُرُ الإِنْسَانُ. لأَنَّ الإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ» (1صموئيل 16: 7). هذه الحكمة النبوية العميقة تنطبق بشكل محدود جداً على بعض "الأشخاص الأبرار" في أيام يسوع. لقد قال يسوع للكتبة والفريسيين: «أَنْتُمُ الَّذِينَ تُبَرِّرُونَ أَنْفُسَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ! وَلكِنَّ اللهَ يَعْرِفُ قُلُوبَكُمْ. إِنَّ الْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ رِجْسٌ قُدَّامَ اللهِ. (لوقا 16: 15).


بكلمات الأخرى. عندما توجد في إنسان سمات المحبة غير المشروطة (القاسية جداً) والتي تظهر في محبة الله الشديدة والتعلق به ومحبة البشر التي قد تصل إلى محبة الأعداء فهذا لا يعني أن محبة هذا الإنسان تمنحه الخلاص. بل العكس، أن محبة هذا الإنسان (آجابى) التي هي من الله وليست من إنسان، لهي دليل على أن هذا الإنسان قد اجتذبه الله إليه بطريقة أو بأخرى حتى أننا يمكن أن نقول أنه قد وُلِد من الله، حتى وإن لم تكن الرسالة قد وصلته بالطريقة الواعية المُباشرة، وحتى إن لم يكن قد قبلها وصنع قراراً يُمكن التعرف عليه بشرياً باتباع المسيح مثل المعمودية أو صلاة تسليم الحياة أو ما إلى ذلك.


رُبما يتساءل سائل: "كيف يكون قد وُلِدَ من الله، من تقدم له رسالة المسيح ويرفضها؟"
مثل هذا أقول له: " ومن قال لك أنه رفضها؟"
يقول: بالطبع رفضها، فهو لم يُصلي صلاة تسليم الحياة ولم يعتمد، ومازال على دينه.
أقول: صحيح. لكن بعض الناس، وهُم قلة بالطبع، لكنني رأيتهم واختبرت حياتهم، وربما أنت لم تر بعد وربما سوف ترى فيما يلي من حياتك. هؤلاء الناس يظهر أنهم رفضوا لأنهم لم يفعلوا تلك الأمور التي تجعلنا مقتنعين ومتأكدين أنهم قبلوا. لكنهم في نفس الوقت يعيشون بطريقة تجعلنا نشك كثيراً أنهم رفضوا، وذلك لأنهم يعيشون "المحبة المسيحية" التي لا يعيشها كثيرون ممن يعترفون بالمسيح بعقولهم وكلامهم. وبالتأكيد لا يعيشها من ينتمي إلى ذلك الدين الآخر.
يقول: وكيف نعرف إذاً أنهم وُلِدوا من الله.
أقول: لا نعرف. الله وحده هو فاحص القلوب والكُلى. لكن الثمر يدل على الشجر. مثل هؤلاء تجعلنا حياتهم نشك في أمرين. أولاً، نشك أن الرسالة وصلتهم كما هي بالفعل، وألا تكون تشوهت بأشياء كثيرة ومعتقدات راسخة نابعة من سوء فهم المسيحية أو سوء حياة المسيحيين أو الخوف من اتخاذ القرار الواضح أو غير ذلك. وثانياً، نشك في أن العقل ربما لم يستطع بعد أن يصنع القرار الواعي، لكن القلب صنع قراراً غير واعياً لكنه حياً بدليل أنه يؤثر في طبيعة الحياة والاختيارات الروحية والأخلاقية.
يقول: ولماذا تقول هذا الكلام؟ ما فائدته؟ خطورته أنه ربما يعطي البعض الانطباع أننا ينبغي ألا نقدم للناس الرسالة بوضوح، ونتركهم لله يتعامل مع قلوبهم.
أقول: بالطبع لا. إن من يفهم هذا الفهم، يكون قد أساء الفهم جداً. خاصة وإن الذي يقول هذا لا يفعل ذلك. الهدف مما أقول هو أن هناك أشخاص من كل الأديان ينفرون من الله. عندما يرونه في صورة الشخص الذي ينتظر من الإنسان أن "يقول كلمات" معينة أو يؤدي طقوساً معينة فينجو. وكأن الإيمان "كلمة سر" إذل نطق بها الإنسان (ولو عن دون إيمان قلبي) فقد نجا. وفي نفس الوقت مهما عاش وفهم وأحب، لكنه لسبب أو لآخر لم "ينطق الشهادتين" فسيلقى في اللهيب إلى الأبد. كلامي موجه لهؤلاء الذين ينفرون من هذه الصورة. هذا الكلام موجه لمن ينفرون من الله لأنه يُمكن أن يلقي في النار الأبدية (ومفهوم النار هذا يحتاج إلى مقالات أخرى) شخصاً ما لمجرد أنه بالصدفة وُلِدَ في دين آخر منعه من استقبال الرسالة بحيادية.  أما أنت فإذا كنت لا تنفر من هذه الصورة، فانسى كل ما قلته أو كتبته.   (المترجم).

فيما وراء الدين
إذاً فهناك شكل من التعددية الأصيلة المبنية على ذلك الفهم لله وللحياة الروحية الذي حصلنا عليه من خلال شخص وتعليم وحياة يسوع المسيح. لكن هذه التعددية لا تقول أن كل الأديان سواء، أو أن تَدَيُّن الأشخاص هو الذي يجعل الله يقترب إليهم أو يجذبهم إلى نفسه. إننا نتذكر من الفصل السادس من هذا الكتاب مقولة بيتر بيرجر " أن إعلان الله في المسيح يسوع (الذي هو موضوع الإيمان المسيحي) هو أمر مختلف تماماً عن الدين"  وبصورة غريبة فربما يقود تركيز المرء على يسوع إلى أنه يدخل عالم الله بصورة تتجاوز الأديان. هذا هو المكان الذي يوجد فيه الشكل الوحيد المقبول من التعددية. فيما وراء الدين. إن الذي تقوله هذه التعددية المسيحية هو أنه، لأن الله هو ما قد أعلنه يسوع المسيح، فإن أي إنسان يرى الله قلبه أنه قلب مقبولٌ لديه، فهو بكل تأكيد سوف يقبل ذلك الإنسان. هذا القبول سوف يكون في كل مرة من المرات عملاً من أعمال الرحمة الإلهية. هذا هو الإيمانٌ بالله الذي يرحم ويُنعِم دون أن يكون للإنسان أي فخر من أي نوع  ـــــــ وبالذات الفخر الديني ــــ هذا الإيمان يضع كل الناس على أرضية واحدة أمام رحمة الله (رومية 3: 27- 31).
إذاً فإن التعددية المسيحية تقبل أن أشخاصاً من أديان "أخرى" أو ليست لهم أديان مطقاً من الجائز أن تكون قلوبهم "كاملة أمام الله". وهذه التعددية تُصِرّ على أنه إن كان هذا هو الحال بالنسبة لأي إنسان، فسوف لا يكون ذلك بسبب أنه مُجرد قال كلمة أو أعلن إيمان أو مارس ممارسة ما تنتمي لأي دين من الأديان، بما في ذلك الدين المسيحي. سوف لا يكون الأمر عندئذ بسبب دينه وإنما بسبب أن حياته كلها تتمحور حول ذلك النوع من المحبة التي يعبر عنها تعليم المسيح وتعبر عنها حياة أتباع المسيح في أفضل صورة لها. هذا لأن الله محبة.
هذا ليس معناه مطلقاً أن أي هندوسي تقي أو مسلم تقي أو مسيحي تقي سوف يكون مقبولاً لدى الله. وإنما معناه أن أي هندوسي أو مسلم أو ملحد إذا كانت حياته (وهذا نادرٌ جداً) تفي مطالب المحبة المسيحية التي علمها وعاشها المسيح والتي يعيشها أفضل تلاميذه (وأحياناً هذا يتعارض مع دين ذلك الشخص) فإنه من الجائز جداً أن يكون ذلك الإنسان قد وُلِد من الله. فكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله، وكل من لا يُحب لم يعرف الله لأن الله محبة.  (1يوحنا 4: 7-8). إذا كنت أنت ذلك الإنسان الذي بالفعل لديه هذا النوع من المحبة (آجابى)، فالله يحيا فيك وأنت تعرف الله، مهما كان أي شيء آخر في حياتك.
بولس الرسول خلال كل لقاءاته بالناس في العالم الوثني الروماني لم يقل أبداً أن الله بعيد عن الذين ليس لديهم علم صحيح به ولا فهم واضح لطرقه. على العكس. ففي مدينة لسترة (التي نسميها الآن تركيا) تجاوب الناس مع رسالة بولس ومظاهر القوة الروحية التي أظهرها بأن حاولوا أن يعبدوه هو وبرنابا. وبالطبع منعهم بولس معترضاً وقائلاً أنه هو وبرنابا مجرد بشر عاديون مثلهم، ودعاهم أن يتحولو من الآلهة اليونانية المعتادة إلى الإِلهِ الْحَيِّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا،" (أعمال 14: 15، لاحظ الإشارة إلى الله أنه الخالق).
ثم يضيف بولس أن هذا الإله الحي فِي الأَجْيَالِ الْمَاضِيَةِ تَرَكَ جَمِيعَ الأُمَمِ يَسْلُكُونَ فِي طُرُقِهِمْ 17مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ، هُوَ يَفْعَلُ خَيْرًا: يُعْطِينَا مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَارًا وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَامًا وَسُرُورًا». (أعمال 14: 16- 17، وانظر أيضاً متى 5: 45، ورومية 10: 18). لاحظ أنه يقول أن الله هو الذي فعل ذلك وهذا استمرار لما يقوله يسوع عن جود وإحسان الله الذي يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. (متى 5: 45) وفي أعمال 17 يشير إلى أن الله الذي يتكلم عنه هو الإله الذي كان الآثينيون يعبودونه وهم يجهلونه. هو "الإله المجهول"  فَالَّذِي تَتَّقُونَهُ وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ، هذَا أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ. (عدد 23). البشر يمكنهم أن يعبدوا الله بجهل، والله الذين يعبدونه وهم يجهلونه ليس غير مبالٍ بهم. إنه لا ينتظرهم لكي يصلوا إلى المفاهيم الصحيحة تماماً عنه وإنما يصل هو إليهم.

بعض التوضحيات الضرورية
لكن بصراحة ينبغي الاعتراف أنه ليس من السهل فهم أو قبول كل هذا، وبالذات من داخل الثقافة الدينية ـــ اليهودية أو المسيحية، أو أي ثقافة دينية أخرى تُعَلِّم أن الله يأتي إلى هذا العالم فقط من خلال ذلك الدين بالتحديد. إن البشر يُدمِنونَ "الاحتكار" وبالذات في الدين. يريدون دائماً السيطرة على وسائل الحصول على البركة الإلهية. لذلك ينبغي عمل بعض التوضيحات.
أولاً، بسبب ما نعرفه عن شخصية الله فإننا نعرف أن كل من يتوجهون إليه بالطريقة السليمة ـــ وهو وحده الذي يحدد ما هي هذه الطريقة ومن الذين قلوبهم كاملة من نحوه ــ سوف يكونون مقبولين منه، مهما كان. ونحن نعتبر هذا أمراً مُقَرَّراً بحسب ما نعرفه عن طبيعة الله، الآب القدير. كل من يفهم طبيعة الله التي أعلنها يسوع المسيح سوف لا يكون ممكناً بالنسبة له أن يقول أن فُلاناً كان ينبغي أن يخلص لكن الله لم يُخَلِّصَه. أو أن فلاناً قد "فقد الخلاص على شعرة" (أو على نصف درجة كما نقول في التعليم). وعلى الجانب الآخر، عندما ينال الناس القبول من الله فهذا لا يعني أنهم بالفعل كانوا مستحقين الخلاص بفضل أي عملٍ قد عملوه، به  قد أرغموا الله أن يُخَلِّصَهُم.  كل من "يَخلُص" سوف يكون قد خَلُصَ بالنعمة، أي من خلال الرحمة الغنية لإله المحبة الكاملة. إن الحقيقية المُرّة هي أن كل البشر قد أخطأوا وأعوزهم مجد الله (أي أنهم لم يصلوا إلى ما كان في قلب الله من أجلهم). الجميع!! هذه هي ببساطة الحالة البشرية، مهما اختار الإنسان أن يصفها أو يسميها بأي اسم أخرى. كل من لا يرى هذه الحقيقة أو فشل في أن يُطبقها على نفسه، فسوف لن يجد طريقه إلى القبول من الله. وكل من سوف يعتمد على صلاحه أو انتماءه لأي دين للحصول على القبول من الله (وهذا هو الشائع في كل الأديان) فهو شخصٌ يعاني من فقر شديد في معرفة النفس، ولا ينبغي عليه أبداً أن يطمئن أو يعتمد مطلقاً على هذه الطريقة لنوال القبول من الله. القبول من الله لا يكون إلا برحمة الله.

أنا هو الطريق والحق والحياة
توضيحُ ضروري آخر يتعلق بتصريح المسيح، "أنا هو الطريق، والحق، والحياة، لا أحد يأتي إلى الآب إلا بي." (يوحنا 14: 6). ينبغي علينا أن نفهم هذا التصريح بشكل صحيح، لأنه يُشكل العمود الفقري للاعتراض على التعددية المسيحية، ويمثل حجر الزاوية فيما يمكن أن نسميه "الحصرية المسيحية". بوضوح شديد فإن هذه العبارة تعني أن المسيح هو الطريق الحصري إلى الله. لكن هل هذا يعني أن المسيحية هي الطريق الحصري إلى الله؟
إذا كُنت تعتبر أن هذا التصريح الوارد في الأصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا يعني أن أحداً لا يُمكن أن "يأتي إلى الآب" إلا من خلال المعرفة المُحَدَّدة للشخصية التاريخية يسوع المسيح ـــ كما يعتبر الكثيرون ــــ فبالضرورة يكون المليارات من الناس، قبل، وأثناء، وبعد، الوقت الذي عاشت فيه هذه الشخصية التاريخية على الأرض مستثنون تماماً من إمكانية "المجيء إلى الآب" ببساطة من خلال مُصادفة الوقت والمكان التي لم يكن ممكناً التحكم فيها.
ولكي نوضح عدم التعارض الذي رُبما ينشأ بين هذه العبارة و إنجيل يوحنا 3: 16 التي تقول: "هكذا قد أحب الله العالم" ينبغي أن نعرف من الذي يتكلم في إنجيل يوحنا. إن الذي يتكلم في إنجيل يوحنا يُقدِّم نفسه في بداية الإنجيل (1: 1-5) ويصف نفسه أنه الكلمة الأزليّ (اللوجوس) ـــ إنه الذي استطاع أن يقول عن نفسه: "قبل إبراهيم أنا كائن" (8: 58) ـــ الذي من خلاله قد وُجِدَ العالّم، والذي في الزمان  والمكان جاء إلى العالم وصار جسداً وحل بيننا لكي يُقدم للبشر طريقاً واضحاً للعودة إلى الله. هذه الصورة الأكبر ليسوع المسيح، تبدأ في الظهور وتتزايد في الظهور كلما تقدمنا للأمام في معرفة واختبار يسوع المسيح من خلال أحداث وتعليم العهد الجديد، وخاصة بعد القيامة والصعود. هذا التقدم والتطوُّر في فهم يسوع  المسيح يصل إلى قممه في الأصحاحين الأول والثاني من رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي. وفي الأصحاح الأول من رسالة العبرانيين والأصحاح الأول من سفر الرؤيا، وغيرها من القمم.
وعندما يقترب الرسول يوحنا من نهاية إنجيله، يصف أنه قد كتب هذا الإنجيل لكي يفهم الناس الحقيقية الروحية الأعمق لتلك الشخصية التاريخية، يسوع المسيح.: 31وَأَمَّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ. (يوحنا 20: 31). يسوع نفسه كان، وبشكل عميق، مُحَيِّراً لكل من هم حوله، ولا يزال مُحيراً للناس اليوم. إن هذه الحقيقة اللاهوتية الأعمق عن يسوع، أنه هو ابن الله، والكلمة الأزليّ، هي النقطة المحورية التي تجعله يُصَرِّح ذلك التصريح، أنه هو الطريق الوحيد إلى الآب. حتى أقرب أقربائه لم يعرفوه. لذلك يقول يسوع: قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي. 7لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا. وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ». ليس يسوع المسيح الناصري، الشخصية التاريخية هي التي لم يعرفها فيلبس (الموجه الحديث إليه هنا)، بالطبع كان يعرفه. لكنها الحقيقة اللاهوتية الأعمق أنه هو اللوجوس، فهذا ما لم يعرفه فيلبس ولم يعرفه أحد في ذلك الوقت. وما لا يعرفه كثيرون ولا يستطيعون قبوله إلى الآن.
 لقد أثبت المسيح أنه أكبر وأعظم بكثير من مجرد ذلك النَجَّار الذي من الناصرة والذي تفرغ للخدمة وأصبح معلماً للناموس، ثم ازدادت شهرته جداً، ثم صُلِبَ، وبعد ذلك قام من بين الأموات. إنه أكبر من ذلك بكثير. لقد كان، وهو لا يزال الكلمة الأزلي، والذي لا يأتي أحد إلى الآب إلا من خلاله. فقط.
كلما كان هناك بالفعل طريقٌ إلى الله، وكلما كانت هناك حقيقة بشأن الله، وكلما كانت هناك حياة حقيقية لله. فالمسيح موجود. هذه الحقيقة المُذهلة وحدها تساعدنا أن نعرف بشكلٍ أفضل من هو يسوع وتسمح لنا أن نحصل على درجة من الفهم للشخصية التاريخية المعروفة لبعض الناس على الأرض باسم يسوع المسيح الناصري. حتى في فلسطين في القرن الأول الميلادي حيثما كان الجميع يعرف يسوع، كان يسوع يسأل: "من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟" (متى 16: 13- 16) من بين كل البشر، فإن أتباعه هم الذين ينبغي أن يعرفوا الإجابة عن هذا السؤال. وينبغي أن يعرفوا ويقدموا للبشرية يسوع، بحجمه الحقيقي وليس صورة مُصَغَّرة منه.

(هذا يعني أن الذين لم تصلهم هذه الرسالة بشكلٍ أو بآخر سواء لأنهم لم يسمعوها، أو سمعوها ولم يفهموها، لكنهم لا يعتمدون على دينهم أو استحقاقهم لنوال الخلاص من الله، والله يحكم بشكلٍ أو بآخر أن قلوبهم كاملة من نحوه، فلا شيء يمنع المسيح، اللوجس، الكلمة الأزلي، النور الذي ينير كل إنسان، الذي هو كائن قبل إبراهيم من التعامل مع قلوبهم ويلدهم بالروح القدس. فالريح، كما قال يسوع لنيقوديموس، تهب حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين أتت وإلى أين تذهب. فما هو صوتها هذا الذي نسمعه؟ إنه "المحبة" (آجابى). عندما ترى أناساً يُحبون الله ويحبون الآخرين، ليس فقط الذين من دينهم وثقافتهم، بل يُحبون حتى من يعاديهم. فإن هذه المحبة غير المشروطة التي تميز شخصية الله هي الدليل العملي أنهم قد وُلِدوا من الله ويعرفون الله كما يقول الرسول يوحنا في رسالته. المترجم)


"التعددية المسيحية" والإنجيل المسيحي
من المهم جداً أن نوضح أيضاً أن التعددية المسيحية التي نتكلم عنها ليست هي الإنجيل المسيحي. في واقع الأمر  التعددية المسيحية ليست "أخباراً سارة" مُطلقاً. إنها بمثابة "كُوّة" أو منفذ وليست طريقاً. لا يوجد فيها إلا القليل، هذا إن وُجدَ فيها شيءٌ على الإطلاق، من شأنه أن يعطي رجاءًا واضحاً للإنسان. أما الإنجيل المسيحي فهو يقول أنك إذا وضعت ثقتك الآن في يسوع باعتباره "الواحد"، فيُمكنك أن تحيا الآن مع الله  في ملكوته وتدخل إلى ذلك النوع الأبدي من الحياة الذي يستمر طوال الحياة هُنا وإلى الأبد. إننا لا نعظ بالتعددية المسيحية. إننا لا نقول للناس أن يراعوا المحبة آجابى أو أن " يَطْلُبُوا الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْبَقَاءَ" و الله سوف يعطيهم عندئذٍ "الحياة الأبدية" (رومية 2: 7). ربما من الجيد أن نعرف أن هناك احتمالية مفتوحة للحياة، لكن هذه ليس أبداً أخباراً سارة ، وبالتأكيد ليس هذا هو إنجيل يسوع المسيح.
من الأمور التي تُهَدِّئ قَليلاً من الحماس "لرسالة" التعددية المسيحية والتي تمنعنا من أن نحولها إلى "أخبار سارة" هو الصعوبة الشديدة في تطبيقها على أي حالة بعينها. إنها تترك باباً مفتوحاً لكنها لا تقول لنا بأي قدر من التأكد من الذي مر من هذا الباب ومن لم يمر. إن التعددية المسيحية تؤكد لنا أن الله لأنه صالح ورحيم وعادل، لذلك فإن أي إنسان "يستحق" الخلاص سوف يخلص (ومرة أخرى "يستحق" لا تعني الاستحقاق بالمجهود البشري أو الديني بأي شكل وإنما "القلب الكامل" من نحو الله). لكن من هو هذا الذي قلبه كامل من نحو الله وكيف نعرفه؟ هل أنا؟ هل أنت؟ هل سقراط؟ هل بوذا؟ هل مهاتما غاندي؟ هل كونفوشيوس؟ أنا متأكد أنني لا أعرف. لندع كل إنسان يتكلم عن نفسه. أما أنا فأقول إنني لا أعرف. بالنسبة لي فأنا أريد ألا "يُفقَد" أي إنسان. و"من كان بلا خطية منكم فليرمها بأول حجر"، كما قال يسوع في إحدى المناسبات (يوحنا 8: 7).
أما الطريق الوحيد الذي أنا متأكد منه هو طريق الإيمان بيسوع المسيح وتبعيته. لا يستطيع أحد أن يقول من الذي يخلص ومن الذي لا يخلص بناء على مقياس أنه "بصبر في العمل الصالح"، أو بأن يكون "مُحِباً" بشكل أو بآخر. بالتأكيد لا يوجد إي إنسان منا يستطيع أن يؤكد أي شيء من ذلك.
مؤخراً سُئِلَ المُبشر الشهير بيللي جراهام إن كان يؤمن إن كانت السماء سوف تكون مغلقة أمام الأتقياء من اليهود أو المسلمين أو البوذيين أو الهندوس، أو العلمانيين، رد بحكمةٍ شديدة قائلاً: " إن هذه قرارات لا يتخذها إلا الربّ نفسه. وإنه لمن الحماقة بالنسبة لي أن أقول أو أُخَمِّن من سيكون في السماء ومن سوف لا يكون...أنا لا أريد أن أقدم أي افتراضات هنا، لكنني فقط أؤمن أن محبة الله مُطلقة. لقد قال أنه قد قدَّم ابنه لكل العالم، وأنا أعتقد أنه يُحِبُّ كل إنسان مهما كان العنوان الموضوع عليه.
إن الموقف الذي يجد أتباع المسيح أنفسهم فيه هو أنهم يعرفون طريقاً إلى الله مؤكداً ومُخَتَبَراً يُمكن لكل إنسان أن يأتي من خلاله إلى الله اليوم: إنه طريق الاتكال الكامل على يسوع المسيح، والتلمذة له. إذا كان كل ما قلناه في الفصول السابقة من هذا الكتاب حقيقياً، فإن ذلك هو طريق يمكن لأي إنسان مُخلِص أن يعرف إن كان بالفعل فيه أم لا. إن من في هذا الطريق يستطيعون أن يتأكدوا أن فيه سوف يأتي الله إليهم ويقبلهم، وفيه يُمكنهم أن يأتوا إلى الله ويعرفوه. خارج هذا الطريق يوجد عدم التَأَكُّد بشكل خاص بالنسبة لكل واحد، لكن يوجد التأكد أن الله عادل وسيفعل كل ما هو صالح لكل إنسان. هذه هي منطقة التعددية المسيحية.
توجد إمكانيات كثيرة للحياة مع الله، وهذا مبني على طبيعة الله الذي عرفناه في يسوع المسيح، لكننا لسنا في مكان يسمح لنا بأن نعرف بالتحديد كيف تتحقق هذه الإمكانيات في حياة الأفراد المُحَدَّدين. نستطيع فقط أن نرجو الأفضل للجميع ونحبهم كجيراننا وأقربائنا بالمحبة التي أحبنا بها الله والتي أعلن لنا أنه بها يحب كل البشر. هذا لا يعني أبداً أننا نَهجُر ما قد عرفناه عن الله في المسيح أو نتظاهر بأننا لا نعرفه. هذا لا يعني مطلقاً تذويباً أو تخفيفاً للإنجيل. يظل الإيمان بيسوع المسيح التاريخي الذي وُلِد وعاش وصُلِب ودُفِن وقام وصعد وسوف يأتي ليدين الأحياء والأموات هو الطريق المعروف والمُمَهَّد لكي كل من يمشي فيه يعرف أنه في حياة الله الأبدية.




[1]  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق