الأحد، 22 مارس 2015

19

بنيامين

تَرَكَ بنيامين وادي قُمران مع الفجر ليذهب ليزور مُعَلِّمَهُ المُفَضَّلَ يوحنا المعمدان في السجن. ركب دابَّته والظلام لا يزال حالكًا وهو يُمسكُ بمشعلٍ صغير يكاد بصعوبة أن ينير فقط الخطوة القادمة للدابة. الليل حوله كتلة من سواد بهيم، لكن بنيامين لم يعد يعبأ بسواد الليل ولا يخافه، بل على العكس كان يشعر معه بالأُلفة. فمنذ أن تَرَكَ قريته، والأفكار السوداء تحاصره في الليل والنهار حتى أنه متى جاء الليل يشعر بالأمان إذا يحتويه الليل بسواده ويخاطب الظلام حَولَهُ ظلامَ قَلبَهُ ويَشعُرُ في هذه الأوقات القليلة بالانتماء للعالم من حوله. 

عندما وصل إلى قلعة ميكاريوس (مكاور)، كان النهار قد انتصف وتَثَقَّلَت عيناه بالنوم بعد أن ظَلَّ الليل كله لم يَنَم. عَرَّج إلى خانٍ صغيرٍ رخيص في مدينة مكاور المجاورة للقلعة المسجون فيها المعمدان، حيث استأجر غرفةً وترك دابته لخادم الخان ليعتني بها بينما يحاول أن يحصل هو على بعض ساعات النوم. بالرغم من أنه يعلم أن نوم النهار لا يريح العقل إلا قليلًا، لكن على الأقل فليقنع ببعضٍ من راحة البَدَن.
-        هل تريد رفيقةً تُدفئُ فراشك يا سيدي؟ نَستَطيعُ تدبيرَ ذلك بأسعارٍ مُنافسة سيدي.
نظر بنيامين إلى موظف الاستقبال نظرة احتقار ولم يرد عليه ومضى يصعد الدَرَجَ إلى غرفته.

تقع القلعة على بعد نحو ثلاثين كيلومترًا جنوب غرب مدينة مَادَبا بالقُرب من مدينة مكاور التي بناها هيرودس الكبير في السنة السادسة قبل الميلاد على تَلَّةِ متوسطةٍ ترتفع أكثر من سبعمائة متر عن سطح البحر وتشرف على البحر المَيِّت من الجهة الشرقية ويربطها بمدينة مكاور جسر صغير.

عندما استيقظ بنيامين كان الليل قد حَلَّ، وللحظات لم يدرِ بأي مكان هو وفي أي وقتٍ من أوقاتِ اليوم. حاول أن يعود للنوم حتى يجيء الصباح ويستطيع أن يذهب إلى السجن ويقابل المعمدان، لكنه لم يستطع النوم. فقرر أن يقرأ قليلًا، وعندما بزغ الفجر نزل إلى شوارع المدينة. شعر بنيامين بمزيدٍ من الانقباض في هذه المدينة التي تصطف منازلها وكأنها فرقةٌ أُخرى من الفِرَق الرومانية. كانت البنايات كالحة الصَّفَار من تأثير رياح الصحراء ورمالها الجافة مثل جفاف أهل المدينة، الذين كانت تعتمد حياتهم على القلعة المجاورة من تجارة وخدمات. لقد كان جنود القلعة عندما لا يكونون في أوقات خدمتهم، يعبرون الجسر وينزلون للمدينة لشراء حاجياتهم من طعام ومؤن ويرتادون مقاهيها ومواخيرها. 

قال بنيامين في نفسه: «ما الذي أتى بي إلى هنا؟ أشعر أنني في عُقرِ دارِ الشيطان. كيف ينتهي الأمر بنبيِّ الله في هذا المكان الكئيب الذي تحوم حوله خفافيش الظلام وغربان الموت؟ يا له من وجهٍ قبيح للاحتلال الروماني البغيض! لقد هَتَكَ الرومانُ عُذرِيَّة الأرض وحصدوا شرف النساء وخَصَوا ذكورة الرجال الذين خَاصَمَتهُم النَخوة وتَبَرَّأت منهُم الشَهامة. لقد أصبحنا لا نفتح أفواهنا إلا لنأكل خبزًا ملوثًا بالقهر والصبر الذي لا يبدو له فرج».
هَفَا قلبُ بنيامين إلى مستعمرته في قُمران والتي كان يعتبرها واحةً للتقوى والطهارة في عالم شريرٍ نَجِسٍ. وها هو الآن في قلب هذا العالم النجس- مَدينةٌ تَخدُمُ قَلعةَ السِجن المليء بالمساجين السياسيين، وأغلبهم من الغيورين والآسينيين من رِفاقه. مدينة تُطعِمُ من يُعَذّبون إخوته في الدين وفي الكفاح، الذين لا يريدون في الدُنيا إلّا تطبيق شرع الله. يوحنا المعمدان ــــــ الصوت الصارخ في البرية: « أَعِدّوا طريقَ الرب»، هُوَ الآنَ يَصرُخُ من أَلَمِ التعذيب في قلعةٍ نائيةٍ في الصحراء تخدمها مدينة داعرة.

ترك بنيامين قلعة ميكاريوس حيث سجن المعمدان قاصدًا  كفرناحوم مُحمَّلًا برسالةٍ ليسوع من المعمدان. وكان معه أيضًا في هذه الرحلة يوناثان، وهو تلميذ آخر من تلاميذ يوحنا المعمدان كان يزوره في السجن في نفس وقت زيارة بنيامين. لم يكن بنيامين في ذلك يُفَكِّرُ كثيرًا في يوحنا وفي يسوع بقدر ما كان يفكر في أخته إستير، فلديه معلومات غير مؤكدة أنها تقيم الآن في كفرناحوم وتعمل بالدعارة بعض الوقت.
كان بنيامينُ يريدُ أن يصل إليها ويقتلها ويغسل عاره، وفي الوقت نفسه لا يتصور أن يقتل وهو القمراني التقي، خاصَّةً أنه يعرف الظروف التي دَفَعَت استير إلى هذا الطريق. فقد قام زوجها بتطليقها غدرًا، ولم يُعطِها حتى كتاب طلاق، وبعد أن عادت لتعيش مع بنيامين في منزل الأسرة، تَرَكَهَا هو لينخرط في الخدمة في مستعمرة قمران.

عندما كانت كلمة «القتل» تتردد في ذهنه، كانت قشعريرة مريرة تسري في جسده؛ فهو لا يتصور أن يقتل إنسانٌ إنسانًا آخر لأي سبب من الأسباب، فكم بالحري أخته الكبرى التي طالما أطعمته وهو صغير وخاطت ملابسه وأَوصَلَتْهُ للكُتَّاب الذي تعلم فيه أحكام الشريعة. لم يَدُر بخلده يومًا أنه سيفكر في تطبيق حَدِّ الشريعة على أخته الكبرى إستير.
آه يا رَبِّي، متى سوف يتوحَّد قلبي المُشتَّت لشظايا، بين الشَفَقَة والرغبة في الانتقام، بين الرحمة والشريعة، والآن يسوع الذي يُحَيِّرنا جميعًا، وكأنما تنقصنا الحيرة.

عندما وصل الشَابَّان إلى كفر ناحوم، كان بنيامين يتأمل ويردد في قلبه...
هل تواسِني يا كفر ناحوم فيما أنا فيه من ألمٍ وحيرةٍ؟
أم تَشهَدين مَوتَ شَقيقتي الكُبرى وغَسلَ عاري؟
أم ما الذي سوف تشهدين؟

لاحَت بُحَيرة طَبَرية من بعيد، وبها مراكب الصيد الكبيرة والصغيرة، وحولها الأشجار الوارفة كواحةٍ للأمل وسط صحراء الحيرة والألم. وعندما اقتربا شهدا مشهدًا غريبًا لم يرياه من قبل، جموعٌ كثيرةٌ على ضفاف البحيرة وكأن الأرض تنبت بشرًا وكُلُّهم جالسون في صمت. لم يَرَ أحدٌ من قبل جمعاً بهذا العَدَد تجلِسُ في صمتٍ. في العادة لم يكن شيء يجمع كل هذه الأعداد من الناس سوى الحرب أو الشغب أو الأعياد، ودائمًا ما يكون الجمع عنيفًا أو صاخبًا أو لاهيًا، أما أن تُرَى هذه الجماهير الغفيرة جالسةً وصامتةً هكذا، فهذا ما لم يحدث من قبل. وعندما اقتربا أكثر استطاعا أن يُمَيِّزا سفينة واحدة راسية بالقرب من الشاطئ وبها بعض الصيادين الجالسين وواحدٌ فقط واقفٌ في مُنتَصَفِ السَفينة. وبعد عدة أمتار استطاعا أن يميزا صوتًا واحدًا يخترق كل هذا الصمت:
أما الوصية التالية فأنتم تعلمونها جيدًا: «لا تزنِ». لكن لا تظنوا أنكم بمجرد عدم الزنى قد صرتم أبرارًا. إن قلوبكم يمكن أن تُفسِدها الشهوة قبل أن يُمَارِسَ الجسدُ الزِنا. هذه النظرات الشهوانية التي تظنون أن أحدًا لا يلاحظها، تُفسِدُ قلوبَكم. إن أردتم أن تعيشوا حياةً نقيةً من الشهوة الجنسية، دعوني أقول لكم ماذا تفعلون. عندما تضبط عينك تنظر مثل هذه النظرات فلتَقتُل هَذِهِ النَظَرات في مَهدِهَا. لتُعمِ عينيك عَن الشهوة حتى وإن فقدتَ البَصَرَ تمامًا؛ ففقدان البصر أَهوَنُ من فُقدان القَلب والروح في براثِن الشهوة.
التفت بنيامين إلى رفيقه وقال مُندَهِشًا: «ما هذا يا يوناثان؟» «لم يجرؤ أحد من الكتبة أن يعلم عن الزنى والشهوة الجنسية بهذه الطريقة. إنه يسمِّي الأشياء بأسمائها بطريقة فجَّة».
أجابه يوناثان وعيناه تلمَعان بفهمٍ خاص: «أوَليست هذه الحقيقة يا بنيامين؟ أليس هذا ما نفعله نحن معشر الرجال كل يوم؟ كل يوم ننتهك عشرات النساء بعيوننا ثم نذهب لنغسل بعض التراب والعَرَق من أجسادنا قبل الصلاة وقبل الأكل وقبل الطواف بالمذبح، بينما قلوبُنا مليئة بالشهوة والنجاسة؟»
لم يُبادِل بنيامين يوناثان إعجابًا بتعليم يسوع، فقال وهو يحاول أن يَعود به إلى المُهِمّة التي جاءوا من أجلها: «تعالَ نقترب منه. لقد فرغ من التعليم وها هي الناس تقترب منه. تعال نقف في الطابور».
-        هذا طابور طويل جدًّا سوف نصل إليه ربما قبيل المغرب.
-         ماذا عسانا أن نفعل؟

-        رَبَّاه. إنها هي.
-        يا إلهي. إنه هو.

التقت عينا بنيامين وإستير وسط الجموع، فهَرَعَت إستير راكضةً وبنيامين وراءَها وَسط التِلال المَكسوَّة بشرًا فكانا يصطدمان بالناس ويوقعانهما دون أن يستطيع أيٌّ منهما أن يتوقف ليعتذر. وفي المُؤَخِّرة كان يوناثان يحاول أن يلحق ببنيامين وهو ينادي عليه: « ماذا دهاك؟ لماذا تجري هكذا؟ عُد يا بنيامين ماذا حدث؟». لم يُجِبه بنيامين وواصل ركضه ويوناثان يلهث وراءه، ولم تمر سوى دقائق حتى أدرك بنيامين أنه لن يستطيع أن يلحق بإستير التي اختفت وسط الجموع.
قال يوناثان وهو يلهث: «ماذا دَهاك فجأة؟ من رأيت؟».
أجابَ بِنيامين وهو يحاول أن يجعل هذا المشهد يُحذَف تمامًا من ذهن يوناثان، ورُبَّما من اليوم كله: « لا تهتم. لقد. لقد رأيت شخصًا كان مَدينًا لي ببعض المال، وكان يتهرَّب مني. لا عليكَ لنُعِد إلى المُعَلِّم الناصري، فنحن لدينا مُهِمَّة يجب أن نُتِمَّها».   

عندما وصل بنيامين ويوناثان إلى يسوع، كانت الشمس بالفعل قد مالت إلى المغيب وتحول لونُها إلى الحُمرة واقتربت من سطح مياه طبرية وكأنها جُنديٌّ في معركةٍ بحريةٍ استمر طوال النهار، وها هو وقد أُضرِجَ بالدماء، يميل إلى البحر ليسلم الروح.

-        نحن من تلاميذ يوحنا المعمدان يا مُعَلِّم.

اتسعت عينا يسوع وظهرت بهما كل أنواع المشاعر من فرحٍ وقلقٍ وشجن، وقال بصوت مُتَهَدِّجٍ لا يكاد يجد الكلمات المناسبة: «أهلًا بكما. أهلًا بكما. كيف حال الحبيب؟ لَكَم تَمَنَّيتُ أَن أَذهَبَ لأزوره! لَكِنَّني أشعر به معي هنا، كما إني متأكد أنه هناك أيضًا يشعر باقتراب ملكوت الله؛ فهو يملأ الأرض والسماء».
-        إنه ليس في حالٍ جيدة يا معلمي وقد حَمَّلَنا لك سؤالًا.
-        ما هو؟
-        يسألك: «هل أنت هو الآتي أم ننتظَر آخر؟».
سادَت لحظاتُ صمتٍ واجمٍ، وبَدَا يسوعُ وَكَأنَّهُ لا توجد أي فكرةٍ في عقلِهِ، ووَجَمَ كُلُّ المحيطين بهذا الحوار، ثم تدريجيًّا ظهرت علامات الضيق على وجه تلاميذ المسيح. وساد صمتٌ.
ثم ثارت حيرة مشوبة ببعض الغَضَبَ في قلب يسوع وصَرَخَ في أعماقِهِ دون أن تَخرُجَ من فَمِهِ كلمة...
كيف يسأل يوحنا مثل هذا السؤال؟
لقد عَمَّدَني بنفسه.
لعلَّه لم يسمع الصوت القادم من السماء.
لعلِّي وحدي الذي سمعتُ هذا الصوت.
ثم أنَّهُ قال عني لتلاميذه إنني حمل الله الذي يرفع خطية العالم.
كيف هذا؟
من الطبيعي أن يضعُف ويَتَشَكَّك وهو فيما هو فيه من سجنٍ وتعذيب.

عندما طالت فترة الصمت قال بنيامين: « يا معلم... ماذا تقول؟»

عادت عينا يسوع من الإطراق في اللانهائي، وقال بصوته الهادئ الواثق: «اذهبا وأخبِرا يوحنا بما تسمعان وتنظران. العُمي يبصرون والعُرج يمشون، والصمُّ يسمعون والموتى يقومون والمساكين يُبشَّرون وطوبى لمن لا يعثر فيَّ
وأضاف بطرس غاضبًا: « وويل لمن يعثر فيك يا معلمي
بعد أن غادرَ تلميذا يوحنا، وقف يسوع على تَلَّةٍ عالية ورفع صوته قائلًا: «منذ أيامٍ ليست بكثيرةٍ خرجتم كلكم لتنظروا يوحنا المعمدان وتعتمدوا منه. ماذا توقعتم أن تَرَوا؟ هل توقعتم أن تروا أحد عجائب الطبيعة؟ هل توقعتم أن تسمعوا أحد المتحدثين الرسميين الذين يلبسون الملابس الحريرية المستوردة؟ ماذا خرجتم عن بكرة أبيكم لتنظروا وقتها؟ لقد خرجتم لتنظروا نبيًّا. وقد كان أعظم من نبي. إنه الذي كتب عنه الوحي: «ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك». لقد جاء المعمدان بروح إيليا الذي مكتوبٌ أنه يأتي قبل مجيء يوم الرب العظيم. الحق أقول لكم إنه لم يَقُم من بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان».

ثم أخفض يسوع صوتَهُ قليلًا، ومَدَّ يديه إلى مجموعةٍ من الرجال والنساء حوله وقال: «لكنه، مع عَظَمَتِهِ، ينتمي إلى عهدٍ آخر. أما الآن فعهدٌ جديدٌ يُكتَبُ أمام ناظرَيكُم، وطريقٌ جديدٌ ينفتحُ أمامكم، نهايته هي الأبدية اللانهائية. لقد جاء بالفعل يوم الرب العظيم كما يقول العهد القديم. لقد قرر الله أن يتَّحدَ بالبشر إلى الأبد، هذه هي مملكة الله والأصغر فيها أعظم من العظيم في مملكة الناس»

ثم أضاف يسوع وأساريره مُبتسِمة ودموعه بدأت تسيل على خَدَّيه: «هذه الحياة الجديدة مُتاحة للجميع يهودًا وسامريين، فريسيينَ وعَشّارين، مُتَزَوِّجات ومُطَلَّقات، بُرَّصًا وأطهار الجسد، عذارى وزواني. الكُل مقبولون مهما كانت خطاياهم وضعفاتهم. هذه الحياة ربما تُخطِئها أَبصارُ العُظَمَاء والفُهَماء ولا يَراها إلا البُسطاء والأطفال الذين يُدرِكُونَ ضَعْفَهُم وعَجزَهُم، ويُصَدِّقونَ عطية الله.»

«كثيرون لهم عيون ولا يبصرون ولهم آذان ولا يسمعون ما يقوله الله. إن من يُصَدِّق مَحَبة الله المجانية، فإنه يتغيَّر، وينمو، ويبدأ حياةً جديدةً تندمجُ مع حياةِ الله نفسه إلى الأبد. من لا يُصَدِّقون الله لا يُعجَبون إلا بأَنفُسِهِم. يَرفُضونَ يوحنا المعمدان لأنه «مُتطرِّف» أكثر من اللازم لا يأكل ولا يشرب، ويرفضون ابن الإنسان لأنه «طبيعيٌّ» أكثر من اللازم، يأكل ويشرب ويُدعَى إلى ولائم ويجالس العشارين والخطاة. لكن حكمة الله تثبت بالأفعال لا بالأقوال. فها هم أيضًا عُمي البصيرة يشرقُ عليهم نور الإيمان، وُصمُّ القلب يسمعون صوتَ الحق. ومن ساروا الحياة كخيالاتٍ مَيِّتة، ها هم يَدُبُّونَ بأرجهلم بقوةٍ على أرض الأيام. وهاهُم مُوتى الروح تَدُبُّ فِيهُم من جديد نارُ الحياة بعد رماد الحزن والكآبة، ومن ظنوا أنهم قد نُسوا من رحمة الله، يستبشرون بقبوله لهم من جديد»

ورَفَعَ يسوعُ صَوتَهُ وهو يغالب الدمع وقد صار صوته عميقًا عريضًا وكأنه قادم من ماضٍ سحيق، ذاهب إلى آفاق الأبد:
«ويل لك يا كورزين، ويل لك يا بيت صيدا، لأنكما رأيتُما كل هذا ولم يتب منكما إلا أقل القليل، وأنتِ يا كفرناحوم المرتفعة إلى السماء، ستهبطين إلى الهاوية. لأنَّه لو صُنِعت في سدومَ القوات التي صنعت فيك لبَقِيَت إلى اليَوم. نعم، سَدوم التي عَاشَ أهلُها كُلَّ أَنواع الإِباحية الجِنسية والشرِّ الأخلاقي، لو كانت رأت محبة الله وقوته كما رأيتِ، لكانت قد تابت قديمًا في المسوح والرماد ولم تُحرَق بنار وكبريت».

وزاد انفعال يسوع وارتفع صوتُه مرةً أخرى: «الذين يعيشون في اللِّواط والسِحاق، لو كانوا قد رأوا نعمة الله كما رأيتم أيها المُتَدِّينون المُكتَفون بِقُشور الشريعة وكبرياءِ البِرّ الظاهري، لكانوا قد تغيروا. الحق أقول لكم أن لواطيين وسحاقيات كثيرون وكثيرات سوف يرون نعمة الله وسوف يَتَغَيَّرون، وسيكونون عبر الأجيال شهادةً عليكم وعلى غيركم من الذين اختاروا التديُّنَ الظاهري الذي يفهمونه ولا يُغَيِّرَهم، على نعمة الله المجانية التي قد لا يفهمونها ولكنها قادرةٌ على منحهم الحياة.»
«نعم.عشارون وزناة ومأبونون وسكِّيرون، سوف يأتون من المشارق والمغارب ويتوبون ويَتَطَهَّرون ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في مملكة الله، أما أنتم يا من تظنون أنكم أبناء الملكوت وشعب الله المختار، سوف تُطرَحُونَ إلى خارج رحمة الله؛ لأنكم لم ترحموا البشر، ولا حتى أنفسكم.»

ثم رفع يسوع عينيه إلى السماء والدموع لا تزال تسيل منهما: «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أَخفيتَ هذه عن الحُكماء والفُهماء وأعلَنتَها للأطفال. نعم أيها الآب لأنهُ هكذا قد صارت المسرة أمامك. كل شيء قد دُفِع لي منك، وليس أحد يعرف حقيقتي سواك، ولا أحد يعرف حقيقتك مثلي، ومن أردتني أن أُعلِنَ لهم، ومن فتحت قلوبهم ليعرفونك ويعرفونني.»

ثم رفع صوته للجموع وقال: «تعالوا إليَّ يا جَميع المُتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أُريحكم. مهما كان حِملُكَ الذي تَظُنّ أَنَّ الله يكرُهك بسببه، سواء كنت ممن انتُهِكوا في طفولتهم، أو ممن انتَهَكوا هُم أنفسهم الأطفال. سَوَاء كُنتَ مِمن نُبِذُوا من أهلهم أو ممن نَبَذوا أَهلَهُم، سواء كنتَ ممَّن لم تُعطِهم الحياةُ شيئًا، أو مِمَّن قد سلبوا الآخرينَ حقوقهم، سواء كنت مِمَّن رَفَضَهُم الناس أو ممن رَفَضوا الناسَ والحياة، مهما كنت فأنت مواطن مقبول في مملكة الله.»
«ضعوا حِملَكُم عِندِي، واحمِلوا حِملي بدلًا منه، إن كنتم تريدون وَضعَ حِملَ الخَطِيَّة وتَسَلُّطِها عليكم، فاحملوا حِملَ نَبذِ الشَهوة التي تُضعِفَكُم أمام الخطية. ربما تظنونه حملًا ثقيلًا لكنكم ستفاجأون أنه برغم ثقله الشديد، خفيف جدًّا عليكم إذا أحمله معكم. إن قوة المحبة والقبول، تحرقُ نارَ الشهوة، فتستطيعون عندئذٍ أن تفعلوا ما لم تكونوا تقدرون أن تفعلوه من قبل. لقد رأيتم المفلوجين يمشون ويحملون أسِرَّتَهم، أيضًا مفلوجو الروح سوف يتحررون من قيودهم إن صَدَّقوا في حقيقة مملكة الله التي أُنادي بها، ودخلوها وعاشوها. فقط كونوا معي، واثبتوا في محبتي، ومحبة بعضكم البعض، وأنتم تحيون وتَنمُون.»

















20

مريم

نَجَحَ السيِّد شَمعي بن برخي في الانتخابات وأَصبَحَ نائبَ كَفر ناحوم في المجلس النيابي للجليل، ذلك المجلس الذي لا حول له ولا قوة أمام سطوة هيرودس أنتيباس. وبالرغم من صوريَّة هذا المجلس فإن التُّجَّار والإقطاعيين في كل أنحاء الجليل يُنفِقُونَ الغالي والثمين لكي يحصلوا على عضويته التي تَضمَنُ لهم نفوذًا سياسيًّا يُسَهِّل من تجارتهم ويتيح لهم فُرَص التهَرُّب الضريبي، بل والأهم من كل ذلك، يوفِّرَ لهم حصانةً ضد المُساءَلَة القانونية، لذلك فهم يدفعون الكثير ليحصلوا على ترشيح الحزب الحاكم الذي يضمن النجاح في الانتخابات التي تُشرِف كل الأجهزة الحكومية على تزويرها مُعتَقِدةً أنها تفعل ذلك من أجل المصلحة العامة، حتى لا تصل جماعات الغيورين للسُّلطة وتدمر البلاد.

سَمَح هيرودس أنتيباس وأرخيلاوس، بل وشجعوا ظهور الفريسيين، ومُعلِّمي الناموس الجُدُد، الذين أشاعوا في البلاد تَدَيُّنًا شكليًّا جعل الناس تُفَكِّر في الطعام الحَلَال والحَرام، وما يَكسِرُ السبتَ، وما يَنقُضُ الوضوء، أكثر من البرِّ والعدل والحق، لأنه إن فَكَّروا في العدل والحق، سوف يكونوا هم أول ضحايا مثل هذا التفكير. لذلك عندما ظهَرَت ثورة يوحنا المعمدان مناديةً بالحق والعدالة الاجتماعية، وكاشفةً لكل الممارسات الفاسدة للشعب من القمة للقاع، ألقوا القبض عليه بسُرعَة وسجنوه بالرغم من حُب الشعب له. ومنذ القبض على المعمدان، والشارع يَغلي في كل اليهودية، والجليل، وبالذات في الجليل بسبب فُحش هيرودس انتيابس وحفلاته الماجنة المخالفة للشريعة وعلاقته غير الشرعية بهيروديا، لذلك زادت الاحتجاجات والتظاهرات والحركات المطالبة بخلع هيرودس أنتيباس، والتي كان الغيورون يشتركون فيها ولكن على استحياء ومن تحت غطاء، وذلك لخوفهم الشديد من البطش الحكومي، فهم الفئة التي يخشاها الحُكم أكثر من غيرها بسبب ماضيها التآمري الدموي القريب والبعيد. وعندما اجتاحت الجليل واليهودية موجةٌ شديدة من الاحتجاجات، استَغَلَّها الغيورون ونزلوا في تظاهراتٍ حاشدةٍ منادين بتطبيق حدود الشريعة التي كانت مُعَطَّلةً بسبب الحُكم الروماني الذي لم يكن يسمح بتطبيق أي عقوبة بدون إقرار الوالي الروماني.
                                  
عندما قام سمعانُ، وهو أحد كبار الفريسيين في كفر ناحوم بدعوة يسوع على العشاء، قَبِلَ يسوعُ الدعوةَ رغم أنه كان يعرف أن سمعان لا يُحِبُّه كثيرًا، ويعلم أيضًا أن كثيرين من الفريسيين قد أوغِرت قلوبهم من يسوع بسبب شفائه المرضى في السبت، وبسبب تعليمه، وبدأوا يَحنِقون عَليه ويَخَطِّطون لقتلِهِ، أو على الأقل لإيذائه. وبالرغم من كل هذه الكراهية التي نَشَبَت في قلوب هؤلاء الفريسيين، فقد استجاب يسوعُ لدعوة سمعان.

-        دعني أدخُل.
-        لا لن تدخلي.
-        لا بل سوف أدخل، أعلم أن يسوع هنا وأنا أريد أن أراه.
-        اغربي عن وجهي وإلا ضَرَبتُك.
-        فَقَط سوفَ أُعطيه شَيئًا وأمضي إلى سبيلي

سمع سمعان الجَلَبة عند الباب فجاء:
-        ما هذا؟ من هذه؟
-        كما ترى يا سيدي، هذه المرأة تريدُ أن تدخلَ. وبالطبع أنت تعرف من تكون هذه المرأة.
صمت سمعان وكان يُفكَّر
-        دعها تدخل.   ماذا تريدين؟
-        فقط أريد أن أُعطي المُعَلِّمَ يسوع الناصري شيئًا وأمضي.
-        ادخلي لكن لا تُطيلي.
عاد سمعان إلى المائدة وهو يترَقَّب ماذا سيحدث.

وقفت مريم من بعيد وهي خائفةٌ ومُمسِكَةٌ في يدها بقارورةٍ صغيرة ثم بدأت تقترب إلى حيث كان الرجال مُتَّكِئين وبدأت تسمع حوارهم.

-        سمعنا يا مُعلِّم أنك تقول إن مملكة الله مفتوحة للجميع حتى الخطاة، فما معنى هذا؟
-        بالطبع أنت تعرف يا إسحاق يا صديقي قَولَ الربِّ على لِسان إشعياء النبيِّ إن الله يسكُن في أقدس وأعلى مكان، وأيضًا في نفس الوقت، يسكُنُ مع المنسحقين والمتواضعين في أرواحهم  ليعطي حياةً جديدةً لروح المتواضعين ولقلب المنسحقين.
-        نعم أعرف بالطبع.
-        ومن تظن هم المتواضعون في أرواحهم؟
-        المتواضعون... غير المُتَكبِّرين.
-        نعم هذا صحيح، لكن هذه العبارة تعني أيضًا كل من رُوحهم مكسورة بسبب الخطية.
-        ولماذا لا يتوبون إذًا؟
-        من فرط عارِ الخطية رُبَما يَظنُّون أن الله لا يقبَلُهُم ولا يَقبَل تَوبَتَهُم.
-        إنهم إذًا لا يؤمنون بما يكفي.
-        إنهم يحتاجون لمن يُعلِن لهم، كما يقول إشعياء أيضًا، إن وقت القبول قد جاء، وإن الحياة في مملكة الله قد أصبحت مُتاحةً للجميع. هذا هو لُبُّ البشارة للمساكين، والضمادة لمنكسري القلوب، والحرية للمأسورين، التي يتكلم عنها إشعياء النبيُّ.
بدأت الدموع تنهمر من عيني مريم دون أن تستطيع إيقافها، ثم انهمرت في نُوَاحٍ مسموعٍ لم تستطِع إخفاءَه، حتى بدأ الرجال المتكئون يدركون وجودها، فشعر بعضُهُم بالحَرَج، والقَلق خاصةً أنها امرأة معروفةٌ بسُمعَتِها السيئة في كفرناحوم.
ثم اقتربت المرأة من خلف يسوع حتى انهمرت دموعها على قدميه حيث كان متكئًا وقدميه خلفه. ثم جثت خلفه وهي لا تريد أن تأتي وتواجهه وجهًا لوجه، وبدأت تفعل شيئًا غريبًا جدًّا، بدأت تمسح بشعرها قدمي يسوع من الدموع التي بللتها ثم أخرجت من ثوبها قارورة طيب ناردين، وبدأت تسكُب منها على قدميِّ يسوع، ولأن فتحة القارورة كانت ضيقة، لم تُسعِفها النقاط القليلة التي كانت تنسكب من هذا العطر باهظ الثمن، فكَسَرت مريم القارورة على الأرض فانسكب الطيب كُلُّه على الأرض، وفاحت رائحته في المكان كله، فراحت مريم تأخذ بيديها من الطيب المسكوب على الأرض وتمسح قدمي يسوع وتُقَبِّلهما.

أخذت الدهشةُ الجَميع، مما تفعله المرأة، ولم ينطق أحدٌ. أمّا سَمعان فكان يُفَكِّرُ في نفسه...

لا يُمكِنُ أن يكونَ يسوعُ هذا نبيًّا كما يقول الناس عنه. لو كان كذلك لكان قد عرف أنها عاهرة، ولما قَبِلَ أن يُسكَبَ عليه عطرٌ من مالٍ حرام مثلِ هذا. وكيف يقبل أن تقبل قدميه امرأةٌ ثم تمسحهما بشعرها؟ ما هذا التَهَتُّك؟
نظر يسوع بحُبٍّ لمريم، ثم حَوَّل عينيه بنفس نظرة الحُبِّ إلى سمعان قائلًا: «سمعان أريد أن أقول لك شيئًا».  
-        قل يا مُعلم.
-        كان هناك رجلان مديونان لمرابٍ؛ أحدهما بخمسمائة دينار، والآخر بخمسين، وكان كلاهُما عاجزين عن السداد، فَتَكرَّم الرجلُ وشَطَبَ دينهما هما الاثنين، فمن منهما يكون أكثر حُبًّا له واعترافًا بجمِيلِهِ؟
-        أظن أنه الذي شطب له الدين الأكبر.
-        أصبتَ في حُكمِكَ يا سمعان. هل ترى هذه المرأة؟ أنت لم تعطِني ماء لأغسل رجلي قبل الطعام كما هي العادة، ولم تقبِّلني قبلة ترحيب، ولم تدهن رأسي بزيت أما هذه المرأة فأنت ترى كيف عاملتَني، فأرادت أن تغسلَ قدميَّ بدموعها وتُقبِّلهما، وتدهِنَني بالطيب بدلًا من الزيت، أتعرف لماذا؟
قال سمعان وهو يتحاشى أن ينظر في عينيِّ يسوع خجلًا، بسبب عدم قيامه بواجبات الضيافة المُتعارَف عليها: « لماذا يا مُعَلِّم؟»
-        هذه المرأة كانت واقفةٌ تستمع لنا ونحن نَتَكَلَّم عن التوبة، وهي قد تَابَت عن خَطاياها الكثيرة. لِهذا فهي قد أحَبَّت كثيرًا مَن فتح أمامها باب التوبة، وأرادَت أن تُكرِمَهُ. أتَظُنَّني لا أعلم ماضي هذه المرأة؟ بلى،أَعلَمهُ. لكن ليس هذا هو المهم الآن. المُهم الآن هو أن خطاياها قد غُفِرَت وأنَّ حاضرًا جديدًا ومُستقبلًا أفضل صارا مفتوحين أمامها لكي تأخذهما وتقبلهما كعطيةٍ من يديِّ الله.

تَهامَسَ اثنان من الجالسين حول المائدة...
-        إذًا صحيحٌ ما قالُوه عَنهُ أَنَّهُ قال لمفلوج «مغفورةٌ لك خطاياك» ها هو يفعلها ثانيةً.
-        من هو هذا  ليَغفِرَ الخطايا؟ نَحنُ نحن نقول عن المُتَوَفَّى مثلًا: المغفور له «بإذن الله» أما هو فيُصرِح بغفران الله بهذه الطريقة؟ كيف؟
عاد يسوع ليُكَلِّمَ مريم: «واضحة توبتكِ يا ابنتي، لقد آمنتِ بغفران الله وهذا قد خَلَّصكِ من العار، فاذهبي بسلام.»
بعد ذلك، ظَلَّ يسوعُ يَمُرُّ من مدينةٍ إلى مدينةٍ ومن قريةٍ لأخرى، يعِظُ ويُعلِنُ بِشارةَ مَملكةِ الله، وكان الرُّسُل الاثنا عشر معه، كما رافقته أيضًا بعض النساء اللواتي شفاهن من أرواحٍ شريرة وأمراض وهُنَّ: مَريَم التي تُدعى المجدلية التي أخرج منها سعبة أرواح شريرة، ويُوَنَّا زوجة خوزي، الذي كان مسؤولًا عن بيت هيرودس، وسُوسَنَّة، ونساءٌ كثيرات غيرها. وكُنَّ ينفقن على يسوع وتلاميذه من أموالهن الخاصة.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق