الخميس، 26 مارس 2015


24

خبزٌ للجميع

منذُ قتل يوحنا المعمدان، ومسحةٌ من الحُزنِ كانت تَبدو على يسوع بصورةٍ شبه مستديمةٍ. وكان في مراتٍ كثيرةٍ يستبِدُّ به الحزنُ والشجنُ فيقرر أن يأخذ سفينة ويذهب إلى الشطآن النائية لبحيرة طبرية والمغطاة بالحشائش البرية حيث لا يسكن إنسان، ليناجي الله ويسكب حزنه وشعوره بالوحدة في هذا العالم القاسي البعيد عن الله. العالمٌ الذي لا يعرف سوى لُغَةَ الجِنس والمال والمصالح والتَمَسُّح بقشور الدين الفارغ. في تلك المرات كان يُصِرُّ بعضٌ من تلاميذه أن يذهبوا معه على أن يتركوه يبتعد بعيدًا ويخلو بنفسه كما يريد.

-        أليس هذا هو يسوع؟
-        نعم إنه يسوع الناصري.
-        هُنا في منطقتنا النائية؟ هلم نذهب إليه.
-        سوف أذهب لأدعو أهل القرية كلهم.
هكذا تَصَايَحَ رجلان استطاعا أن يُمَيِّزا أن ذلك الرجل الذي يجلس على الصخرة البعيدة محملقًا في السماء، ليس سوى المعلم يسوع الناصري، رجل الله وصانع المعجزات.
لم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن يمتلئ الشاطئ المهجور بمئات من أهالي القرى والمدن المجاورة الذين جاءوا مشاةً يحملون مَرضاهُم. جموعٌ من عُمي قَضى على بَصَرِهِم الرمدُ الربيعيُّ المنتشر في ربوع الجليل، وبُرصٌ مصابين بأمراضٍ جلديةٍ مُزمِنة بسبب نقص المياه النظيفة وسوء التهوية في منازل الجليل الضيقة التي تسكنها أسرٌ مكونةٌ من أكثر من عَشرةِ أفراد في غرفة واحدة. وغيرهم من العُرج والعُسم المصابين بإصابات عمل في مشاريع البناء والتشييد التي يملكها رجال المال والأعمال في الجليل، والذين بعد أن أصيبوا تم طردهم من أعمالهم وتحولوا إلى شَحَّاذين يطوفون شوارع الجليل يستعطفون المارة ليُلقوا لهم بكِسرةِ خُبزٍ يُسِدُّونَ بِها رَمَقهم. كل هؤلاء هرعوا جريًا عندما سمعوا أن يسوع هنا، فهو لهم أملُ الشفاء والعودة مرة أخرى لتيار الحياة.

عندما أبصر يسوعُ الجموعَ قد تَقَاطَروا عَليهِ من كُلِّ جانبٍ، وجاءه تلاميذه الذين كانوا على بُعد رمية حجر منه، تَنَهَّدَ تنهيدة داخلية، وتحنَّن قلبه على الجموع، ومَدَّ يَديهِ إِليَهم، فجاءوا إليه وبدأ يلمسهم جميعًا. ومع كل لمسةٍ كانت الصِحَّةُ تدُبُّ في أجسادِهِم ويعود الرجاءُ ليَسكُنَ مرةً أُخرى قلوبهم الخاوية الباردة.

-        لقد اقتربت منكم مملكة الله. ليست هذه الأشفية إلا عُربون الملكوت. ليس الهدف النهائي هو أن تُشْفوا من مرض العين والجلد وإنما من مرض القلب.
-        وما هو مرض القلب يامعلم؟ أنا أشعر كثيرًا بعدم القدرة على التنفس عندما أنام على ظهري بعد يوم من العمل، ألعلي مريضٌ بالقلب؟
-        رُبما يا بني، ولكن ليست هذه هي أمراض القلب التي أتحدث عنها. أمراضُ القَلبِ التي أَقصِدها هي أمراض الطَمَع والشهوة التي لا تشبع. هي أن يرى الإنسان نفسه مركزًا للحياة ويريد أن يجتذب كل شيء لنفسه؛ الغنى، والقوة، والسلطة، والمال، وكل المَلَذَّات، وربُما أيضًا يُريد أن يحصُل على «رِضى الله» لكي يفوز في النهاية، بالجَنَّة، حيث يظُنُّ أنه سوف يواصِلُ نفس نوع الاستمتاع إلى الأبد.
-        مَلذَّات؟ أي مَلذَّات يا مُعلِّم؟ نحن لا نجد قوتنا اليومي. نحن قد يئسنا من الحياة نفسها.
-        واليأس أيضًا مرضٌ من أمراض القلب.
-        وكيف يُشفى مرض القلب؟
-        عندما تختار أن تنزل من على عرش قلبك، ويملُكُ اللهُ على حياتك. حينئذٍ تدخل ممكلة الله. عندما لا تعود تستَمِدّ أملك أو يأسك مما حولك في العالم، وتؤمن بأن حياتك هي من الله وبالله.
جاءت أصوات عديدة من الجمع قائلة:
... نحن نصلي ونصوم وقد تخلينا عن أعمال مع الرومان لكي لا نتنجس بالأمم، لكننا لا نشعر بتلك السعادة والراحة التي تتكلم عنها.
.. لم نأكل طعاماً حرمته التوراة ولم نخالِف أيّاً من تعاليم سُنَّةَ موسى والتلمود والأحاديث. نُقدم الذبائح والقرابين في مواسمها كما تقول الشريعة. ترى لماذا نفعل كل هذا؟ أليس لأننا قد مَلَّكْنا الله على حياتنا؟
أجاب يسوع: «الدليل الوحيد على مُلك الله على حياة الإنسان هو أن يصير الإنسان مثل الله، يُحِبُّ ويغفر ويخرُجُ من سجن نفسِهِ. سِجنُ الطَمَعِ، أو سِجنُ اليأسِ، ليرى الآخرين ويشعر بهم ويخدمهم.» كيف هذا يا مُعَلِّم؟
-        إنها «خليقة جديدة» سيصنعها الله أمامكم، وبالإيمان تَحدُثُ أيضًا فيكم.
-        ما معنى هذا؟
-        لن تستطيع أن تفهم الآن يا توما ولكن انتظر، ستفهم فيما بعد.
-        وكيف نعيشُ مملكة الله هنا على الأرض لكي نكملها في السماء؟

... أنتم مبارَكون إذا كُنتم بالرغم من فقدان كل شيء، لا تزالون تمتلكون علاقةً بالله.
... أنتم مباركون إذا شعرتم بالجوع لله فلم يقنعكم لا مالٌ ولا بَنون، ولا حتى دين، بل تتوقون إلى التواصل الحميم المباشر مع الله.
... أنتم مباركون إن استطعتم أن تَبكُوا خطاياكُم وضَعفَكُم، وخطايا الآخرين وضعفهم أيضًا.
... أنتم مباركون إن رَقَّت قلوبُكم للألم الذي يصيب كل الناس، من هُم على دينكم ومن هُم ليسوا على دينكم.
... أنتم مبارَكون إن أحبَبتُم الذين لا يحبونكم، واقتربتم من الذين لا يريدون أن يقتربوا منكم، ظنًّا منهم أنكم نجسون وكَفَرة.
... اعتبروا أنفسكم مباركين عندما يضطهدكم الناس من أجلي ويَصِمُونكم بالعار، ويعزلونكم ويلقونكم خارج المجامع وخارج القلوب. عندئذٍ تفرح بكم السماء ويقبلكم الله في مملكته.
... اعتبروا أنفسكم مباركين عندما يُلَوِّثُ الناسُ أسماءَكُم بسبب إيمانكم بي وبمملكة الله التي أدعو إليها حاسبين إياكم كفَّارًا وفاسقين. عندئذٍ سيكون لكم أجر عظيم في مملكة الله. لأن الاضطهاد كان دائمًا نصيب الصادقين من الأنبياء.
... تَوَقَّعوا الشرَّ إذا ظَنَنتُم أنكم خيرُ الناس، أو أنكم قد حصلتم على البرِّ بأعمالكم، وإذا سَعَيْتُم لطلبِ رضا الناس، عندئذٍ سيكون هذا هو كل ما ستحصلون عليه.
... تَوَقَّعُوا الشر إذا أصبحتم راضينَ عن أنفُسِكُم وتظنون أنكم لا تحتاجون لشيء. لن يستطيع رضا الإنسانُ عن نفسه أن يُشبِع جوعَه للمُطلق ولله. لن يُشبِعَكَم مالٌ أو حتى دين. لن يُشبِعُكُم إلا الله نفسه؛ فأنتم مخلوقون منه وبه وله.

-        يا مُعَلِّم أنت تقول إننا مدعوون للتشبه بالله، كيف يمكن للمخلوق أن يشبه الخالق؟
-        هَذِهِ هي عطية الله الفائقة. إن الله الآن يأخذ ما لَكُم ليعطيكم ما له.
-        يأخذ ما لنا ليُعطينا ما لَهُ. لست أفهم.
-        سوف ترى، وتفهم، وتؤمن، يا فيلبس.
مَالَت الشمسُ للمَغيب ولم تَزَل الجُموعُ مُلتفةً حولَ يسوع، وهو يعلِّمهم ويكلِّمهم بكلام مملكة الله. كان تلاميذ المسيح يعرفون أنهم إذا تركوا يسوع هكذا فربما يظل لأيامٍ يتكلم عن مملكة الله دون أن يحتاج أن يأكل أو ينام.
-        يا معلِّم، الموضع خلاء والوقت قد تأخَّر. اصرف الجموع لكي يمضوا إلى القرى ويبتاعوا لهم طعامًا.
-        لا حاجة لهم أن يمضوا، أعطوهم أنتم ليأكلوا.
-        ليس لدينا طعامٌ يكفي لكل هؤلاء.
نظر يسوع إلى فيلُبَّس وقال: «من أين نبتاعُ خُبزاً ليأكُل كُلُّ هؤلاءِ يا فيلُبُّس؟»
-        لا أدري يا مُعَلِّم هؤلاء لا يكفيهم خبزٌ بمئة دينار ليأكل كلٌ منهم شيئًا يسيرًا.
-        انظروا ما عِندكم أولًا.
قال فيلبس هذا ومضى ليسأل باقي التلاميذ
-        هُنا غُلامٌ معه خمسة أرغفة شعير وسَمَكَتان.
-        ما هذا يا أندراوس؟ هل ستذهب بهذه إلى يسوع؟ هل أنت ساذج؟ ترى كم فردًا سيُطعِم هذا؟ هذا بالكاد يكفيني أنا. إننا عمليًّا لا نملك أي شيء نعطيه لهؤلاء.
-        لقد قال يسوع أن نذهب وننظر ما عندنا.
-        عندنا؟ لا يوجد عندنا شيء.
-         بلى عندنا هذه الأرغفة الخمسة والسمكتين.
-        الأرغفة والسمكتين! يا رجل! هذا جمعٌ لا يَقلُّ عن الخمسةِ آلاف رجل، غير النساء والأطفال.
جاء يعقوب بالخبزات الخمسة والسمكتين إلى يسوع:
-        ها هي يا معلم.
شكرًا يا يعقوب. أشكرك لأنك أَطَعتَني. وأَشكُرُكَ أَكثَر لأنك رأيتَ هذا الطعام واحترمت القليل. اجعلوا الجموع يتكئون رفاقًا رفاقًا على العشب الآخضر.
-        يتكئون؟ هل سيأكلوا؟
-        نعم ويشبعوا.
رَفَعَ يسوعُ الطَبَقَ المصنوعَ من جَريدِ النِخيل وبه الخُبزات الخمس والسمكتان إلى السماء وبارك الله، ثم بدأ في تقطيع الخبز والسمك إلى قطعٍ صغيرةٍ وأَعطى التلاميذ الطَبَقَ ليوَزِّعوا على الجموع الذين أكلوا جميعًا وشبعوا، وفَضَلَ عنهم.

-        هذا هو بالحقيقة النبيُّ الآتي إلى العالم.
-        هذا هو ملك إسرائيل.
-        إنه يستطيع أن يحوِّل الحجارة إلى خبز.
-        اسمعوا. نحن الآن خمسة آلاف رجل، نستطيع الآن أن نُعلِنَه ملكًا ونبدأ الثورة.
-        نعم الوقت مناسبٌ تمامًا، الشعب كله في حالة غليان بعد قتل المعمدان وجاهزٌ للثورة.
-        هيا بنا نختطفه، ونُعلِنُه مَلِكًا.
أدرك يسوع الأفكار التي بدأت تسري في الجمع فنادى سمعان بطرس: «سمعان اركبوا أنتم السفينة لتعودوا إلى كفر ناحوم، وسوف أصرف أنا الجمع وألحق بكم
-        لكن يا مُعلِّم دعنا نَرَى ما يُفَكِّر فيه هؤلاء الناس، فيبدو أنهم ينتوون شيئًا.
-        نعم، ولهذا أقول لكم اذهبوا أنتم الآن.
-        لكن...
-        سمعان.
-        حسنًا يا مُعلِّم.
 وقف يسوع على تَلَّةٍ عالية ورفع يديه ونادى بأعلى صوته: أيها الناس، اسمعوني.
صَمَتَ الجَمعُ كُلَّهُ وانتظَرَ ما سيقول يسوع. صاح يسوع بأعلى صَوتَهُ: « إن المعجزة التي رأيتموها الآن، يصنعها الله كل يومٍ وبأيديكم أنتم.»
تَهامَس الناس: «كيف هذا؟»
-        حَبَّة الحنطة التي تلقونها في الأرض يُضاعِفُها اللهُ ثلاثينَ وسِتِّينَ ومَائَة كما ضاعف الأرغفة الخمسة أمام عيونكم. لقد صنعتُ هذا لكي تعرفوا أنَّ الله هو الذي يُخرِج الخبزَ من الأرض وليست الأرض هي التي تُخرِجُهُ من ذاتها، لذلك فهو قادرٌ أن يفعل ذلك بدون الأرض. نَعَم، الله  قادرٌ أن يُطعِمكم خبزَ الأرض في أ] وقت وبأيِّ طريقةٍ أيها الجوعى للخبز السماوي ولكنكم لا تُدرِكون. الحق الحق أقول لكم أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلمة الله تحيا أرواحكم.
قال هذا يسوع وانصرف مُسرعًا إلى الجبل، ليُصلِّي، ونحو الساعة الثالثة فجرًا، شعر يسوع بأن تلاميذه في خَطَرٍ فقامَ ونَزَلَ من على الجبل إلى البحر وذهب إليهم ماشيًا على الماء.
-        بطرس، انظر، لقد جاء ملاكُ المَوتِ ليأخذ أرواحنا. يبدو أننا سنموت.
-        ملاك الموت ماذا يا أندراوس؟
-        انظر هناك، ها هو يأتي ماشيًا على الماء.









25

خبز الحياة

-        إذًا هذا ما كُنتُ أحتاجُ إليه. أن أفعل شيئًا مُختلِفًا. أن أَخرُجَ من دائرة حياتي الضيقة: أبي، وراعوث، وأفكاري ورقائقي. المَجمعُ، والمَعصَرَة، وجلسات الشرود والتفكير والتفسير. عِندما وَقَف أمامي في المَعصرة في غروب ليلةِ السبتِ تلك، كانت لحظة  يُمكِنني أن أقول إنني قبلها كُنتُ شيئاً، وبعدها أصبحت شيئاً آخرَ.
-        نعم يا توما، وأنا أيضًا، أتَذكُر عندما أتيتُم إلى «كُشك» الضرائب حيث كُنت أجلس بين بيت صيدا وكفر ناحوم؟
-        طبعًا يا لاوي أذكُرُ جيِّدًا. كانت هذه لحظَتَك أنت، ولَعَلَّكَ تُلاحِظُ إنّنا تركناك تبكي طوال الطريق. لقد عِشنا من قبلك هذه اللحظة ونَعرِفُها جيدًا.
-        لحظةٌ يَتَوَقَّفُ فيها الزَمَنَ يا توما. لَحظَةٌ لا تَملِكُ فيها إلا أن تُطيع.
-        وعندما تفعل، فإنك تَكتَشِفُ أَنَّهُ لم يَكُن من المُمكن الإيمان بدون خطوة الطاعة هذه. لقد كُنتُ أُصارِع الإيمان وعدم الإيمان كل حياتي، أما الآن فقد اكتشَفْتُ أَنَّ الأَمرَ لَيسَ أمرًا عقليًّا فقط. عِندما أغلقت المَعصرة وسِرتُ خَلفَه تاركاً كل شيءٍ وراءَ ظهري، اكتشفتُ أَنَّ هذا هو الإيمان، وعندئذٍ بدأت أفهم ما لم أفهمه.
-        أنا أيضًا عندما تركتُ السفينة والشِّباك وتبعت المُعَلِّم، شَعُرتُ وكأنني أولَدُ من جديد. والعجيبُ أَنَّني عندما عُدتُ للسفينة لكي نأخذها في رحلاتنا، وجدتُها كما هي، والشِّباك فيها أيضًا. كُنتُ أظنُّ أن أحَدَهم قد أخذها بعد أن تُركَت في مكانها شهورًا.
-        وقد اصطدنا أيضًا بعدما دعانا يسوع، لكنه كان أمرًا مختلفًا.
-        أصبحتُ أَشعُرُ أَنَّني لأولِ مَرّةٍ أملُكُ السفينة بالفعل، وأملك الشباك والسمك، وكأنها سابقًا كانت هي التي تمتلكني.
-        فعلًا يا يوحنا. فعندما يصطاد صيادو الناس السمكَ، فهذا شيءٌ آخر.
جلس يهوذا الإسخريوطي، يستمع إلى كلام توما وسمعان وأندراوس وابنيّ زبدي، يعقوب ويوحنا، وهو يشعر بأن هناك شيئًا ما في كلامهم لا يَفهَمُه. لقد تَبَع يسوعَ مثلهم، لكن ثَمَّةَ شيءٌ ما فيهم ليس فيه، أو ربما ثمة شيءٌ فيه هو ليس فيهم. أما سمعان القانوي، فكان في مكانٍ ما، بين هؤلاء الصيَّادين، وبن الإسخريوطي. فتارةً كان ينجذب لحديثِهِم، وتارةً كان يدخل مع يهوذا في حواراتٍ سياسيةٍ طويلةٍ.


*  *  *  *

وَصل يسوعُ وتلاميذُهُ إلى كفر ناحوم نحو الضُّحى. كانت كفر ناحوم قد استقيقظت منذ ساعات، وأخذ الفلَّاحون يَعمَلون في حقولِهِم، والصيادون العائدون من رحلات الصيد الليلية قد باعوا أسماكهم للتُّجَّار الذين أخذوها بدَورِهِم إلى «حلقة السمك» الكبيرة في سوق كفر ناحوم. كان بعض الصيادين الصِغار يبيعون أسماكهم مُباشرةً  إلى عددٍ من تُجَّار التجزئة الذين يأتون إلى البحيرة في الصباح الباكر ليشتروا من هؤلاء الصيادين صيدهم. أيضًا كان بعض المستهلكين، وأصحاب المطاعم يأتون ويشترون من الصيادين مباشرةً لتقليل التكلفة.

-        كانت ليلةً ليلاء يا فيلُبُّس.
-        نعم، لم أُصَدِّق ما رَأَتهُ عَيناي.
-        رُبَّما لم يكن صعبًا جدًّا أن نُصَدِّق أن يسوع، بعد أن قد أسكت البحر بكلمة، يستطيعُ أيضاً أن  يمشي فوقه، لكن الأعجب هو أن يجعل سمعانَ أيضًا يمشي على الماء.
-        حقيقةً أنا مُنبَهر يا سمعان.
-        ما الذي يُبهِرك يا توما؟
-        أنَّكَ فَكَّرت أصلًا أن تطلب من يسوع أن يأمرك أن تأتي على الماء.
-        الحقيقة إنَّني لَم أُفَكِّر. لقد شعرت أنني مُنجَذِبٌ بقوة عجيبة لكي أذهب إلى يسوع.
-        لكنَّك شَكَكت فَكِدتَ تَغرِق.
-        رُبَّما لأنّي نَسيتُ يَسوعَ وفَكَّرتُ في البَحر.
لم يُخرِج التلاميذَ من حوارِهِم سوى رؤيتهم لقواربَ كثيرة غريبة رَسَت كُلُّها معًا في جانبٍ واحدٍ من البُحيرة، وبدأت جموعٌ تنزل من القوارب. فاقترب سمعان بطرس من أحد هؤلاء النازلين.
-        قوارب كثيرة، تلك التي أتيتم بها. أهلًا بكم في كفر ناحوم. من أين أتيتم سيدي؟
-        نحن من طَبَرية. سَمِعنا أن يسوعَ أشبع خمسة آلاف بخمس خبزاتٍ وسمكتين في ذلك المكان النائي من البحيرة، فذهبنا إلى هناك، وهَناكَ قالوا لنا إن المُعَلِّم وتلاميذه غادروا إلى كفر ناحوم، فأخذنا قواربنا وجئنا.
ترك الرجلُ سمعانَ بطرسَ وقال لأحد زملائه: «ها هو يسوع هناك هَلُمّ نذهب إليه.»
أسرع الرجال الذين كانوا يتحدثون إلى بطرس نحو يسوع، دون حتى أن يستأذنوا من بُطرس بل تركوه في وسط الحيث وهرعوا إلى يسوع.

-        متى وصلتَ إلى هُنا يا مُعَلِّم؟
-        الحقَّ أقول لكم: أنتم لا تبحثون عَنِّي لأنكم رأيتم المعجزات، بل لأنكم أكلتم من الخبز وشبِعتُم. لا تعمَلوا من أجل الطعام الذي يَفْسَد، بل من أجل الطعام الذي يدوم. الطعامُ الأَرضِيُّ يُعطيكم حَياةً أرضيةً مادِّيَّةً، أمَّا الطعامُ الأبَديُّ، فيعطيكم حياةً أبديةً. ابنُ الإنسان هو الذي يقدر أن يعطيكم هذا الطعام، لأن الله الآب قد وضع على ابن الإنسان خِتمَ موافقته.
-        لسنا نفهم هذا الكلام. إنه صعب. لكننا نريد أن نفهم. اشرح لنا.
-        تعالوا نذهب إلى المجمَع لنواصل كلامنا هناك.
سار يسوع وتلاميذه وحولهم الجموع الآتية من طَبَرِيَة حَتّى وصلوا إلى مجمع كفر ناحوم وجلسوا ليواصلوا الحديث الذي بدأوه عند البَحر.
-        يا مُعلِّم، قُلتَ لنا إن الله الآب قد وضع على ابن الإنسان خِتمَ موافقته. من هو ابن الإنسان؟ وما هو هذا الختم؟
-        أنا ابن الإنسان. وإن كان الله الآب يجعلني أعمل أعماله، فهذا خِتمٌ منه أَنني المُعَيَّن لأُقَدِّمَ الحياةَ الجديدةَ لكل إنسان.
-        وماذا نَفعَل لكي نَحصلَ على هذه الحياة الجديدة؟
-        تؤمنوا بالذي أرسله الله.
-        لقد عَلَّمتنا التوراة ألَّا نؤمن بكلام. نحن نؤمن بأفعال. موسى لكي يُثبِتَ للشعب أن الله قد أرسله لهم ليخرجهم من أرض مصر، أيَّده الله بآياتٍ وعجائب فصَدَّقه الشعب؛ صارت عَصاهُ حَيَّةً أكلت حَيَّات السَحَرة في مصر. وبعصاهِ شقَّ البحرَ الأحمرَ، وأَنزَل اللهُ بصلاتِهِ مَنًّا من السماء فأكل الشعب في البَرِّية،  لذلك عندما سمِعنا أنك أطعمت هؤلاء الآلاف، قُلنا إنك أنت النبيُّ.
-        الحق الحق أقول لكم: ليس موسى هو الذي أعطاكم الخبز من السماء، بل إنَّ أبي هو الذي يُعطيكم الخُبزَ الحقيقيَّ من السماء. والخبز الذي يُعطيه الله هو ذاك الذي نزل من السماء ليُعطي حياةً للعالم.
-        أعطِنا يا سَيِّد من ذلك الخُبز دائمًا.
-        لقد كان المَنُّ النازل من السماء رمزًا. وكذا كان خروف الفِصح، وخبز الوجوه، والمنارة التي تضيء القُدس، كل هذه كانت رموزًا لشخصٍ حقيقيٍّ واحدٍ، هو ماثلٌ الآن أمامكم. الذي يأتي إليَّ لن يجوع أبدًا، والذي يؤمن بي لن يعطش إلى الأبد.



-        هل هذا الرجل مجنون؟ كيف يقول إنه الخبز النازل من السماء؟
-        أليس هذا يسوع بن يوسف؟ ألا نعرف أباه وأمَّه؟ فكيف يقول إنه نزل من السماء؟
هكذا تهامَسَ رجُلان فيما بينهما لَكِنَّ أَحدَ التلاميذِ سمِعَهما.

-        لن يستطيع أحدٌ أن يقبل ما أقوله إن لم يكن روح الله قد عمل في قلبه. الروح هو الذي يلِدُ الإنسانَ لخليقةٍ جديدةٍ تستطيعُ أَن تُؤمنَ بهذا الكلام بالقلب، وإن لم تفهمه بالعقل. كُلُّ من يسمع للآب ويتعلَّم منه روحيًّا، يأتي إليّ ويؤمن بما أقول.
-        نحن لا نستطيع أن نُنكِر أنك فعلت في قُرانا ما لم يفعله إنسانٌ؛ شَفَيتَ الأبرصَ والمفلوج وحُرَّرت من أسر الشيطان وفتحت عيون العُمي، بل أقمت من الموت شابًّا في نايين، لكننا لا نستطيع أن نقبل ما تقوله عن الله.
-        إن كُنتُ فعلتُ أمامكم ما لا يفعله إلا الله، أفليس من المنطقي أن تصدقوني وإِن لَم تَفهَموا ما أقول؟ الحقّ أقول لكم: «من يؤمن بي فله حياة أبدية». لقد أكل آباؤكم المنَّ وماتوا في البريَّة، وهذا المنُّ لم يكن سوى رمزًا وإشارةً لخبز الحياة النازل من السماء والواهب حياة للعالم. أنا الخبز النازل من السماء من يأكل جسدي ويشرب دمي فسيحيا إلى الأبد.
-        سامِحنا، هذا كلامٌ لا يَصدُرُ من عُقلاء. كيف نأكُل جَسَدَكَ ونشربُ دَمَكَ فنحيا إلى الأبد؟ هذا كلام يُشبه ديانة «مثرا» الوثنية.
-        في هذه الديانة، وفي ديانات أخرى كثيرة، في كل مكان في العالم، إشاراتٌ أَرسَلَها اللهُ ليُعِدَّ قلوب البشر للشيء الحقيقي الماثِلُ أمامَكم. ومن قد عملَ الله في قلبه، سواء كان يهوديًّا أو أُمَمِيًّا وثنيًّا، يستطيع أن يأتي إليَّ ويفهم كلامي.
-        نحن لا نتبع إلا كُتُبَنا المقدسة وديانة آبائنا وأجدادنا.
-        آباؤكم وأجدادكم لم يفهموا ما هو ذلك المَنُّ النازل من السماء، لكنهم أكلوه دون أن يفهموا ما هو، فأبقاهم على قيد الحياة في البَرِّيَّة. أما جسدي الذي سوف أبذله عنكم، ودمي الذي سوف أسفكه عنكم فهو خبزٌ روحيٌ، من يأكله روحيًّا بالإيمان، حتى دون أن يفهمه تماماً، فهو سيحيا حياةً روحيةً إلى الأبد.
-        ما معنى الحياة الروحية إلى الأبد؟
-        إنها خليقةً جديدةً لا يقدرُ الموتُ الجسديُّ أن يقضي عليها.
-        وماذا تقصد بالإيمان دون أن نفهم تماماً؟ هل تطلب مِنّا أن نلغي عقولنا؟
-        بالعكس. أنا أطلب منكم أن تُعمِلوا عقولكم. أليس من المنطقي أن تصدق الإنسان الذي يعمل أعمال الله إذا قال أنه خارجٌ من عِندِ الله.
-        لكنك تقول عن نفسك أشياء غريبة جداً.
-        من المنطقي أن الذي يعمل أعمال الله خارجٌ من عند الله، أما كيف خرج من عند الله فهذا رُبما لا تستطيعون استيعابه الآن. هناك أشياءٌ لا يقدر العقل البشري استيعابها، ولا تقدر الخليقة القديمة أن تفهمها. لكنكم إذا آمنتم ونَبتَت بذرة الخليقة في قلوبكم، فعندئذٍ ستفهمون ما أقول.

تَذَمَّر أغلب الذين جاءوا من طبرية على كلام يسوع وخرجوا من المجمَع غاضبين، ليس فقط من الكلام، لكن من الإحباط الذي شعروا به عندما لم يُطعِمهم مجانًا، ولم يُرِهُم أيَّ معجزة من المعجزات التي كانوا يسمعون عنها ويتمنون لو رأوها بعيونهم. بل أن عددًا من التلاميذ الذين كانوا حول يسوع ويذهبون معه من مدينةٍ إلى مدينةٍ، توقفوا هم أيضًا عن اتِّباعِه، وعادوا إلى قُراهُم ولم يعودوا يخرجون مع يسوع في رحلاته في الجليل لأنهم قالوا إن هذا تعليم صعب، ولا يستطيع أحد احتماله.
-        هل يَصْدِمكُم هذا الكلام؟ فماذا لو أنكم رأيتم ابنَ الإنسانِ صاعِدًا إلى السماء من حيث قد أتى؟ هذا الكلام ليس كلامًا مادِّيًّا جسديًّا لذلك لا يمكنكم أن تقبلوه بعقولكم التي لا تزال مرتبطةً بالأرض. من المنطقي أن يختلفَ كلامُ السماءِ عن كلامِ الأرض. كلام السماء رُبَّما يكونُ صعبًا غير مفهوم، لكنه يُعطي روحًا وحياة. وعندما تأخذون الحياة، فحينئذٍ تفهمون. أما كلام الأرض فسهلٌ ومفهوم لكنه يقضي على الحياة.
تَدَخَّلَ يهوذا الاسخريوطي في الحديث قائلًا: «يا مُعَلِّم لقد تَرَكَنا كثيرٌ من التلاميذ، وهم كانوا يدفعونَ عُشورِ زَكَاتِهِم في الصندوق، سوف يتأثر إيرادُنا كثيرًا هكذا»
-        أنا لم آتِ لأصنع مملكةً ولا لأجمع خراجًا أو زَكَاةً يا يهوذا.
-        لكنك جئت لكي تُعَلِّم، فلماذا تُعَلِّمَ الناس كلامًا لا يستطيعون فَهْمَهُ؟ لماذا لا تأخذهم بالتدريج؟
-        أنا أعلم يا يهوذا الذين لا يستطيعون، وهؤلاء أَتَرَفَّقُ بِهِم. وأَعلَمُ أيضًا الذين لا يُريدون، هؤلاء مهما قُلت فلن يقبلوا. لا يُمكن لأحدٍ أن يأتي إليَّ إن لم يُعطِه الآبُ إمكانيةَ ذلك، وأنا قد عَلِمتُ أن أولئِكَ قُلوبُهُم مُوصَدَة.
لم يبدُ على يهوذا الإسخريوطيّ أنَّه اقتنع بما قاله يسوع، لكنه صَمَتَ وعلامات الإحباط والغضب بادية على وجهه.
توجَّه يسوع بكلامه للاثني عشر تلميذًا الذين سَمَّاهُم رُسُلًا:
-        أتريدون أنتم أيضًا أن تذهبوا مع الذاهبين؟
-        إلى مَن يمكننا أن نذهب يا سيد، ونحن نؤمن أنك قدوسُ الله؟ نحن مثلهم لا نفهم ما تقوله، لكننا نعرف أن كلامَكَ هو كلامُ الحياة الأبدية، ونؤمن أنك أنت قدوس الله. إننا نثق بك وإن لم نَفهَمك، فلَرُبَّما فَهِمنا فيما بعد
-        يا سمعان، انتم الاثنا عشر، ألم أختركم أنا؟ غير أن واحدًا منكم شيطانٌ.
ظَلَّت هذِهِ العِبارةُ تَشغَلُ بَالَ التَلاميذِ في كُلِّ رِحلاتهم، وفي كل المواقف التي مروا بها. تُرى من هو الذي يشير إليه يسوع أنه شيطان؟ وظلَّ كُلُّ واحِدٍ منهم يحاول أن يُثبِتُ أنه ليس المقصود بذلك الكلام.
انتَحى يهوذا الإسخريوطي بسمعان الغيور جانبًا ودار بينهم حوارٌ:
-        كيف يتعامَل هَكذا ببساطةٍ مع الارتداد؟ لو كُنتُ أنا القائد لأَعَدتُ هؤلاء المُرتَدِّينَ ولو بقوةِ السيف. نحن في معركةٍ ولسنا في نزهةٍ.
-        أفهم ما تقصده يا يهوذا. لكن ألم تستمع ليسوع وهو يقول إن مملكة الله التي جاء ليبشر بها هي مملكة روحية، أرضها القلب والوجدان وليس المُدُن والضِياع، وأنها تُكسَبُ بالإيمان لا بالحرب؟
-        الحقُّ يا قانَوي يحتاجُ إلى قوةٍ تصونه وتصون هُويَّة الأمَّةِ وتحافظ على ثوابتها. أنت تعلم الديانات الوثنية السرِّية المنتشرة في الجليل، بل وفي أورشليم نفسها، وكيف يدخل فيها شبابُ اليهود كل يوم. ينبغي تطبيق الشرع بكل قوة والقضاء على كل ارتداد في الشعب حتى يخلُصَ الدينُ لله.
-        جزءٌ مني مقتنع بما تقول يا يهوذا.







          أُنشُودَة

بُطونٌ تَلَوَّت. شِفاهٌ شُقِّقَت                                                                     
وأحلامُ الكفايةِ لا تِكفي للنَجَاة
                                                                  في أرضنا جوعٌ يا خُبزَ الحَياة
كنوزُنا القِمامة. نهارنا قتامة
وشعارُ الموتِ صارَ يعلو الجِبَاه                                        
                                                                في أرضنا جوعٌ يا خُبزَ الحَياة
نلَتَهِمُ أَجسَادَنا. نَذبَحُ الأحلام
نَشتَري حُقُوقَنَا بأغلى الأثمان                                    في أرضنا جوعٌ يا خُبزَ الحَياة

نطارد السراب. نُقَرِّبُ قَرابينَ لِلعَدَم
وسورُ المدينةِ إنهَدَم
وأبوابها.... جَرَفَتها الِمياه                                       في أرضنا جوعٌ يا خُبزَ الحَياة

نُزَيِّفُ أورَاقَ السَعَادة. نُقَبِّلُ صوراً على الجدار
نحرقُ البخورَ عادة
والندم على مائدة الإفطار                                      في أرضنا جوعٌ يا خُبزَ الحَياة

نهَاَرُنا كَذِب. والليلُ نِفاق

وجوع الأغنياءِ فاقَ جُوعَ الفُقَراء.                             في أرضنا جوعٌ يا خُبزَ الحَياة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق