الثلاثاء، 24 مارس 2015


23

مملكة الله

جاءَ بنيامين مع عَدَدٍ مِن تلاميذ يُوحَنَّا إلى قَلعة ميكاريوس ورفعوا جسد يوحنا المعمدان ودفنوه. وجاءَ مِنهُم نفرٌ لكفر ناحوم ليخبروا يسوع. ولما جاءوا إليه لم يحتاجوا أن يتكلموا. رآهم يسوع من بعيد وفَهِمَ ما كانوا يريدون قوله. لم يرُدَّ بكلمةٍ بل انصرف من حيث قابلهم وركب السفينة مع سمعان بطرس.
-        سمعان، أَنزِلني الآن في الناحية المهجورة من البحيرة، وعُد بالسفينة، وسوف أعود أنا عندما أستطيع. أريد أن أكون بمفردي. لا تُخبِرْ أحد إنني هُنا.
مَشَى يسوعُ بين الأحراش حتى وجد صخْرَةً كبيرةً، فجثا إليها وراح يسكُب صلواته مع دموعه أمام الله:
... أبتِ، أين كُنت عندما طارَت رأس المعمدان؟
... كيف تَدَع هذا يحدُثُ لملاكِكَ الّذي أرسلت؟
... كيف تترك نَبِيَّكَ يموت مثل هذه الميتة البشعة؟
... لكن لتكن مشيئتك.
رفع يسوع وجهه الغارق في الدموع، فوجد جمعاً من الناس قد عَلِموا أنه في هذا الموضع الخالي البعيد، فنادوا بعضهم بعضًا وجاءوا. قَامَ يسوعُ ومسح دموعَهُ بطرفِ ثَوبَه ومَدَّ يديه إلى الجموع، فاقترب منه العُرج والعُمي والصُمُّ والبُكْمُ، فَمَدَّ يديه ولمسهم واحدًا واحدًا فشفاهم وهو يقول:
ها قد اقتربت مملكة الله.
ها قد اقتربت مملكة الله.
خِلالِ الأيامِ التي تَلَت قتل يوحنا المعمدان، اعكتَفَ يسوعُ وتلاميذه يُصَلون ويصومون من أجل الشعب المطروح كغنم لا راعي لها تنهشه الذئاب من كل جانب. كانوا يُصَلُّون أحياناً، ويبكون أحياناً أُخرى، ويتساءلون كثيرًا.

فَجأةً قاَمَ سَمعانُ الغَيور، وقد توقف عن البكاء وتَمَلَّكَتهُ نَوبةٌ من الغضب وصاح: «أَهذا دَورُنا؟ نصلي ونَبكي على قمة جبلٍ مهجور؟ ما هو دورنا الحقيقي؟ وأين الله؟ لماذا يسمح بموت الأبرياء وقتل الأطفال؟ لماذا يسمح بالدولة الفاسدة والنفوس الفاسدة؟ كيف يتركَ الفقرَ والجُوعَ والتِجارةَ في الأطفال والنساء؟ كيف يَسمَحُ للكُفَّارِ أن يَقْوَوا وينتصروا، ونحنُ نموتُ وننهزم؟ إن كان الله معنا، فأين هو من كل هذا الذي يحدث؟ أين مملكته المزمعة أن تحل في أي وقت؟ أين مملكة الله هذه يا يسوع؟ أين هي؟ أجبني. أين هي؟»

أخذ يسوعُ سمعانَ الغَيورَ في حِضنِهِ واستَمَرَّ سَمعانُ يبَكي بحرقةٍ. ثم تحول بكاؤه إلى صراخ وهو يَنْتَحِبُ في صدرِ يسوع. ثم تَحَسَّسَ يسوع ثياب سمعان وهو في حضنه.
-        ما هذا يا سمعان؟ أتحملُ سيفًا؟
فجأة تَنبَّهَ سمعان وابتعد بسرعة عن يسوع وجرى وهو يصرخ: « نعم أنا ذاهب لقصر هيرودس، حتى ولو قَتَلتُ بضعة جنود فسوف أموت شهيدًا كالمعمدان
جرى يسوع خلفه حتى أدركه وأمسك به ووقع الاثنان على الأرض.
-        اتركني يا معلم.
-        لن أتركك يا سمعان، مملكة الله لن تأتي بهذه الطريقة يا أخي. لن تأتي مملكة الله كما تأتي مَمَالِكُ البَشَر بالسيف والدماء، ألا تظن أنني مثلك أريد أن أدمِّر كل هذا الظلم والفساد والقهر؟ ولكن ليست هذه هي الطريقة. لا يمكن للنار أن تطفئ النار يا سمعان.
-        وكيف سيتغير كل هذا؟ كيف يَحُلُّ العدلُ والسلامُ في الأرض؟
ثم صاح سمعان القانوي بأعلى صوته قائلًا: «ثم قل لنا، هل أنت المَسِيَّا أم لا ولا تُحَيِّرَنا، هل أنت المسيح الذي تنتظره كل الخليقة؟ هل أنت الذي يأتي في آخر زمان الظُلمِ ويؤَسِّسَ مَملَكَةَ العدلِ؟ إن كنت هو، فلماذا تقف هكذا لا تحرك ساكنًا؟ وإن لم تكن فقل لنا صراحةً.»
-        قبل أن أقول لك إن كنت أنا المسيح أم لا، دعني أقول لَكَ أولًا ما هي مملكةُ الله؟
-        أنا أعرف ما هي مملكة الله. هي أن يحكم الشرعُ والتوارةُ، وتكون كلمة اللهِ هي العُليا، وكلمة الذين كفروا السُفلى. أليست هذه هي مملكة الله؟
-        بلى هي. ولَكِن كل هذا ينبغي أن يَحدثَ في قلبك أولًا عندما تسوده المحبة. عندما تحب الله من كل قلبك وتحب قريبك كما تحب نفسك. أليس هذا هو الشَّرعُ كله؟
بدأ سمعان يهدأ.
-        أتعرفَ يا سَمعانُ كيف يَنتصِرُ الله ويقضي على كل أعدائه؟
-        كيف يا معلم؟
-        عندما يجعلهم أحِبّاءَهُ. عندما يُصَيِّرَهُم أصدقاءه. أسلحة الله ليست السيوف والحِراب. الله ينتصر بالحب، ويرفع راية مملكته على كُلِّ قلبٍ يختار ألّا يهزمه الشر، بل أن يهزم الشر بالخير.
-        كيف ينهَزِمَ الشرُّ بلا قوةٍ؟ الخيرُ يحتاجُ إلى قوةٍ لكي يهزم الشرَّ؟
- نعم يحتاج وهذه القوة هي قُوَّةُ الحب. قُوَّةُ الغُفران. قوَّة البرِّ. لا يأتي العدل على الأرض إلا إذا تمكن البِرُّ من القلوب يا سمعان. ومع البرِّ يأتي الحُبُّ ومع الحُبِّ يأتي مزيدٌ من البرِّ والعدل. ألا ترى يا سمعان أن الحروب لا تقف إلا بمبادرة سلام. عندما يذهب القائدُ إلى أعدائه حاملًا راية السلام فيهزم دُعاةِ الحَرب. وتعيشُ الشعوبُ على الأرض معًا في سلام؟ ألم تَرَ أنَّ الثار بين عائلاتنا لا يقف، إلا عندما يُقَرِّرُ من عليه ثأر، أن يذهب إلى أعدائه حاملًا كَفَنَهُ؟ الحق الحق أقول لك يا سمعان إن هذا هو ما جئت لأفعله لكنك لن تفهم الآن.
- لكن العالم لن يتغير هكذا.
- بل العالم يَتَغَيَّرُ بالفعل، لكن ليس بالسُّرعة التي تريد، ولا بالطريقة التي تتوقع. إن العالم يتغير قلبًا بعد الآخر، وليس مدينةً بعد الأخرى. وسيأتي وقتٌ فيه يصنع الله أمراً جديداً وحاسماً ويُجدِّد الخليقة كلها ويعتقها من عبودية الفساد، لكنه أولاً يصنع لنفسه نفوساً جديدة تستطيع أن تعيش وتَملُكَ على الأرض الجديدة والسماءَ الجديدة.  
- كل إنسانٍ يعرف أن الشر يزداد وليس الخير. لماذا لا يوقف اللهُ الشرَّ ويؤسس مملكته ـــــ مملكة الخير؟
-  بل الحقَّ الحَق أقول لك إن مملكة الله تنمو وتزداد، لكنك لا تراها كما ترَى مَمَالِكَ العالم، لأنها مملكة روحية في القلوب. إن مملكة الله تنمو كحقلِ حِنطةٍ وَسطَه زوانٌ. الزوان ينمو كما ترى، لكنَ الحِنطة أيضًا تنمو، وقد سبق وقلتُ لكم إن الطريق المؤدي للحياة ضيِّق وصاعد لأعلى، وقليلون هم الذين يسيرون فيه.
- ولماذا قليلون؟ لماذا لا يفتح الله على المؤمنين، ويدخُلُ الناس في دينه أفواجًا؟
- لقد أعطى اللهُ الناسَ الحرية، ولن يرغمهم على شيء بالقوة. الله لايفرِض نفسه. الله يقف على باب القلب يقرع ومن يسمع ويفتح له يدخل إليه ويؤسس ملكوته داخله. أليس هذا ما حدث معك يا سمعان؟
- وماذا عن الأرض؟ ماذا عن القضية؟
- أرضُنا نُحِبُّها، ونريدها حرة، لكن الأهم هو حرية قلوبنا من الشر. ماذا يَنتَفِعُ الإنسانُ لو أَنَّهُ في سبيلِ تحرير أرضه، باع قلبه للحقد والكراهية؟ سمعان يا صديقي مملكة الله ليست لها أرضٌ، وليسَ لها عَلَمٌ، أو سلامٌ وطنيّ، أو شعاراتٌ تُرفَع في الانتخابات. مملكة الله مثلُ حبة صغيرة من الخردل وهي أصغر الحبوب لكنها متى زُرِعَت،  تنمو تحت الأرض دون أن يراها أحد، ثم تصير شجرةً كبيرةً تأتي طيور السماء وتتآوى فيها، من كل أرضٍ ووطن. هي مثل بذارٍ يُلقيها الفلاحُ في الأرضِ، فتُدفَن فيها، وتَدُوسُها الأقدامُ المرتدية أحذية الميدان الذاهبة للحرب والجهاد، لكن تمر الأيام وينام الفلاح ويقوم، ولا ينتبه أحد إلّا وهذه البذار قد صارت حقلًا جميلًا من حنطة يُدعى إلى حصاده من لم يذهبوا مع جيش المحاربين لتحقيق مملكة الله بأيديهم.

نزل يسوع وتلاميذه من على الجبل فوجدوا جمعًا مُنتظرًا لهم، فراح يسوع يُعَلِّمَهم ويُحَدِّثَهُم ببعض فقرات من عظته السابقة على الجبل.
«سَمِعتُم أَنَّهُ قيل: «تحبُّ قَريبَك، ابن دينك وابن جِنسِكَ، وابنِ وَطَنِك، وتَكرَهُ عدوَّك، وعدوَّ شعبك وبلدك والذي يدين بغير دينك» هذا يقولونه الكتبةُ والفرِّيسيُّون، لكنه ليس شريعة الله. عبارة «تكره عدوَّك» هذه ليست موجودة في الشريعة، بل هم أضافوها.
الحق أقول لكم، أحبُّوا أعداءكم، باركوا لاعِنِيكُم وصَلُّوا لأجلِ الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين. محبة الله غير مشروطة فهو يرزِقُ المؤمنين والكفَّار، ويُلهِمُ المُصلِّينَ وتاركي الصلاة، ويرزُقُ الشاكِرين والمُتَذَمِّرين. أما من يؤمنُ فهو الذي يُبادِلُ حب اللهِ حُبًّا. ومن يُصلِّي فهو الذي يستمعُ إلى صوت الله ويفهم فِكْرَهُ. ومن يَشكُرُ اللهَ فهو الذي ينالَ سلامَ القلب بعد أن نال النعم الأرضية. محبةُ اللهِ غيرَ مشروطةٍ، أما صَداقَتَهُ فمَشروطةٌ بالإيمان والطاعة.
يا أحبائي إن أحببتُمِ الذينَ يُحِبُّونَكُم، فمَحَبَّتَكم إذًا مشروطة، وهذا أمرٌ بَشَرِيٍّ طَبيعيّ، فالمولودونَ مِنَ الجَسَدِ يُحِبُّون من يُحِبُّونهم ويكرهون من يكرهونهم، أما عِندما تُولَدونَ من فَوق، وتَتَأَسَّسُ فيكُم مَملَكةَ الله، فحينئذٍ تُحِبّون المحبة الإلهية غير المشروطة. هذا هو الكمال الذي يحققه الله فيكم. كمال الحُبِّ. عندئذٍ تصيرون بحقٍ، خليقةً جديدة.»


                                        * * * *

عَبَرَ قتلُ المَعمَدان بتلك الصورة الوحشية، المسافةَ الباقِيَة لِكَي يتملكَ اليأسُ والأحباط من قلب بنيامين تمامًا. ذلك القلبُ الشابُّ الذي كان يبحث عن الحقيقة وعن الله، فذهب يبحثُ عنهما مع القمرانيين، وَوَجَدَ في تعاليمِ المَعمَدان ونموذج حياته مثالًاً نقيًّا وَسطَ مجتمع مليء بالفساد والظلم، ذلك الفساد الذي وصل إلى عقر دار بنيامين عندما قام زوج أخته إستير بتطليقها والزواج من صديقتها، فأصبح بنيامين فجأة مسؤولًا عن أسرة كبيرة حيث انضمت إستير وطفلتيها إلى الأفواهِ الجَائِعة التي كان على بنيامين، ذي الثمانية عشر عامًا وقتها أن يقوتها. كانَ بنيامين يَجدُ عَملًا أحيانًا وأحيانًا أكثر لا يجد، فحاولت إستير أن تساعده على المعيشة بالعمل كخادمةٍ في إحدى البيوت.
يذكر بنيامين أنه ذات ليلةٍ سمِعَ إستير تحكي لأمها كيف أن صاحب البيت بدأ يتحرَّش بها. وقتها كَذَّب بنيامين أُذُنيه وكأنه لم يسمع شيئًا. أما ما لم يعرفه بنيامين، هو أن التحرش من فوق الملابس لم يكن سوى مرحلة أولى، ثم تحولت العلاقة بين إستير وحزقيا تدريجيًّا إلى علاقةٍ جنسيةٍ كاملةٍ. كل ما لاحظه بنيامين وقتها هو أَنَّ حالَتَهُم الاقتصادية قد تحسنت لمدة سنةٍ كاملةٍ كانت فيها إستير تعود أحيانًا من العمل ليلًا ومعها عشاء شَهِيٍّ من اللحم الذي لم يكونوا يأكلونه إلا مرة واحدة في العام في عيد الفصح عندما يقوم أحد الأثرياء بذبح أُضحية كبيرة ويوزع اللحم على الفقراء. يذكر بنيامين أنه شعر ببعض السعادة والكرامة عندما لم تخرج أمه كالعادة في الصباح الباكر يوم الفصح وتقف على باب ذلك الثري وتتزاحم مع النسوة المتشحات بالسواد عندما يُلقي لَهُن الخادم بأكياس اللحم في مشهد من مشاهد استئصال الكرامة الذي يعيشه الفقراء من أهل الجليل.
أما إستير، فلم تشعر وهي تعطي جسدها لحزقيا، بأيَّ شيءٍ من لذةٍ أو حتى من ألم، فمنذ أن تَعَرَّضَت وهي طفلة لانتهاكاتٍ جنسيةٍ من أغلب رجال العائلة بسبب جمالها وإهمال والديها، لم تَعُد تشعر بجسدها، لدرجة أنها كانت أحيانًا تقوم بجرح نفسها في الأماكن غير الظاهرة لتتأكد أنها لا تزال تشعر بهذا الجسد. فإن كان ذلك الجسد الذي جلب لها الخزي في طفولتها ومراهتقها يمكنه الآن أن يجلب لها بعض المال، فلا بأس مِن أَن تستفيد منه، على الأقل لتطعم طفلتيها وأَبَاها وأُمَّهاا الطاعنين في السن.
بَعدَ أن تَرَكَ بنيامين أُسرَتَهُ والتحق بمعسكر وادي قمران، وقام حزقيا بطرد إستير بعد شكِّ زوجته في وجود علاقةٍ جنسيةٍ بينهما، لم تستطِع إستير أن تنفق على أمها وأبيها الطاعنين في السنِّ إلا بأن تمارس الدعارة بشكلٍ كاملٍ. في البداية، حاولت إستير أن تحافظ على سِرِّيَّةِ مهنتها الجديدة، لكن كان من الصعب الحفاظ على سرية أي شيء في قريتها الصغيرة، وبدأ شباب الفريسيين يتحرشون بإستير ويلقونها بالحجارة كلما شاهدوها أثناء النهار تمشي في شوارع القرية، فلم تعد تتحرك إلا بعد حلول الظلام. لكن الأمور كانت تزداد سوءًا يومًا بعد يوم حتى قررت إستير مغادرة القرية في فجر أحد الأيام قاصدة كفرناحوم، حيث لم يبقَ لها فيها أحدٌ بعد وفاة والديها.

بعد قتل المعمدان أراد بنيامين أن يزور قبريّ أبيه وأمه في القرية، وأيضًا ليستكشف إن كان أهل قريته قد نسوا قصة أخته أم لا.  بمُجَرَّدَ أن دخل القرية وَجَدَ نفس النظرات والهمسات القديمة تلاحقه في كل مكان يذهب إليه حتى جاءت اللحظة التي فيها قال له أحدهم: «ألستَ أنت بنيامين أخا إستير عاهرة كفرناحوم؟» عندها لم يتمالك بنيامين نفسه وانهال على ذلك الشاب ضربًا وركلًا، وكاد يقتله لولا أن تجمع الناس وأنقذوه من بين يدي بنيامين. بعد ذلك اليوم قرر أن يبحث عن إستير في كفرناحوم ولا يعود إلى القرية، إلا وقد غسل شرفه وشرف أسرته بدم إستير.

 *  *  *

كان إسحاق الفريسي جالسًا في شارع السوق في كفرناحوم مع صديقه سمعان الذي يمتلك متجرًا لبيع العطارة والسلع التقليدية مثل الأطياب والأعشاب التي اعتاد الفريسيون بيعها، وبالذات للمُتَدَيِّنين الذين يفضلونها على الأدوية والعقاقير التي يصنعها الرومان، والتي من الممكن أن تحتوي على كحوليات أو على مواد ربما يُشَكُّ في كونها مستخلصة من دهون الخنزير أو أي من الحيوانات المُحَرَّمة الأخرى. كان سمعان الفريسي تاجرًا نشطًا يعمل لديه فريقٌ من الباعة الجائلين الذين يفترشون بعطارتهم وسلعهم التقليدية الأرصفة حول كل مجامع الجليل كل سبت ليبيعون منتجاتهم للمُصَلِّين الخارجين من المجمع، وخاصة الملتزمين منهم بكل سُنَن الشريعة والتلمود الصارم.
كان إسحاق قد قابل يسوع منذ فترةٍ وتبادل معه الحديث حول الناموس ومحبة الله، ومنذ ذلك الحين وإسحاق يفكر ويتشاوَرُ مع غيره من الفريسيين كيف ينهون «فِتنة» يسوع هذا الذي جاء من الناصرة.

بينما كان إسحاق يتجاذب الحديث مع صديقه سمعان، جاءت قصة بنيامين وأخته إستير، والتي أصبحت تدريجيًّا من الملاحم الشعبية وأحاديث الأسواق في الجليل.
-        لقد سمعت أن بنيامين قد جاء إلى كفر ناحوم منذ أيام حاملًا رسالة من المعمدان ليسوع.
-        هل هذا صحيح؟
-        نعم. لقد رأيته بنفسي.
-        وعَلِمتُ أنّه بعد مقتل المعمدان عاد في زيارةٍ قصيرة إلى قريته، ومنذ ذلك الحين وهو مُصَمِّم أن يجد أخته ويقتلها.
-        تُرى لماذا لم يستطِع العثور عليها حتى الآن؟
-        سمعتُ أن أحد رجال الحزب الحاكم قد أخذها معه لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في بيته الصيفي على ساحل طَبرية الشمالي وسوف تعود صباح الأحد.
-        لقد سمعتُ أنا خبرًا آخر، وهو أن بنيامين رآها وسط الجموع التي حول الناصري وجرى وراءها، لكنها هَرَبت منه، ومنذ ذلك الحين تركت كفر ناحوم تمامًا.
-        انتظر يا سمعان، لقد جائتني فكرة.
-        ما هي؟
-        ربما يمكننا أن نساعد بنيامين هذا ويساعدنا هو أيضًا.
-        كيف؟
-        سأقول لك عندما تختمر الفكرة في ذهني، ولكن هل تستطيع أن تقابلني به؟
-        أعتقد ذلك.

















24

خبزٌ للجميع

منذُ قتل يوحنا المعمدان، ومسحةٌ من الحُزنِ كانت تَبدو على يسوع بصورةٍ شبه مستديمةٍ. وكان في مراتٍ كثيرةٍ يستبِدُّ به الحزنُ والشجنُ فيقرر أن يأخذ سفينة ويذهب إلى الشطآن النائية لبحيرة طبرية والمغطاة بالحشائش البرية حيث لا يسكن إنسان، ليناجي الله ويسكب حزنه وشعوره بالوحدة في هذا العالم القاسي البعيد عن الله. العالمٌ الذي لا يعرف سوى لُغَةَ الجِنس والمال والمصالح والتَمَسُّح بقشور الدين الفارغ. في تلك المرات كان يُصِرُّ بعضٌ من تلاميذه أن يذهبوا معه على أن يتركوه يبتعد بعيدًا ويخلو بنفسه كما يريد.

-        أليس هذا هو يسوع؟
-        نعم إنه يسوع الناصري.
-        هُنا في منطقتنا النائية؟ هلم نذهب إليه.
-        سوف أذهب لأدعو أهل القرية كلهم.
هكذا تَصَايَحَ رجلان استطاعا أن يُمَيِّزا أن ذلك الرجل الذي يجلس على الصخرة البعيدة محملقًا في السماء، ليس سوى المعلم يسوع الناصري، رجل الله وصانع المعجزات.
لم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن يمتلئ الشاطئ المهجور بمئات من أهالي القرى والمدن المجاورة الذين جاءوا مشاةً يحملون مَرضاهُم. جموعٌ من عُمي قَضى على بَصَرِهِم الرمدُ الربيعيُّ المنتشر في ربوع الجليل، وبُرصٌ مصابين بأمراضٍ جلديةٍ مُزمِنة بسبب نقص المياه النظيفة وسوء التهوية في منازل الجليل الضيقة التي تسكنها أسرٌ مكونةٌ من أكثر من عَشرةِ أفراد في غرفة واحدة. وغيرهم من العُرج والعُسم المصابين بإصابات عمل في مشاريع البناء والتشييد التي يملكها رجال المال والأعمال في الجليل، والذين بعد أن أصيبوا تم طردهم من أعمالهم وتحولوا إلى شَحَّاذين يطوفون شوارع الجليل يستعطفون المارة ليُلقوا لهم بكِسرةِ خُبزٍ يُسِدُّونَ بِها رَمَقهم. كل هؤلاء هرعوا جريًا عندما سمعوا أن يسوع هنا، فهو لهم أملُ الشفاء والعودة مرة أخرى لتيار الحياة.

عندما أبصر يسوعُ الجموعَ قد تَقَاطَروا عَليهِ من كُلِّ جانبٍ، وجاءه تلاميذه الذين كانوا على بُعد رمية حجر منه، تَنَهَّدَ تنهيدة داخلية، وتحنَّن قلبه على الجموع، ومَدَّ يَديهِ إِليَهم، فجاءوا إليه وبدأ يلمسهم جميعًا. ومع كل لمسةٍ كانت الصِحَّةُ تدُبُّ في أجسادِهِم ويعود الرجاءُ ليَسكُنَ مرةً أُخرى قلوبهم الخاوية الباردة.

-        لقد اقتربت منكم مملكة الله. ليست هذه الأشفية إلا عُربون الملكوت. ليس الهدف النهائي هو أن تُشْفوا من مرض العين والجلد وإنما من مرض القلب.
-        وما هو مرض القلب يامعلم؟ أنا أشعر كثيرًا بعدم القدرة على التنفس عندما أنام على ظهري بعد يوم من العمل، ألعلي مريضٌ بالقلب؟
-        رُبما يا بني، ولكن ليست هذه هي أمراض القلب التي أتحدث عنها. أمراضُ القَلبِ التي أَقصِدها هي أمراض الطَمَع والشهوة التي لا تشبع. هي أن يرى الإنسان نفسه مركزًا للحياة ويريد أن يجتذب كل شيء لنفسه؛ الغنى، والقوة، والسلطة، والمال، وكل المَلَذَّات، وربُما أيضًا يُريد أن يحصُل على «رِضى الله» لكي يفوز في النهاية، بالجَنَّة، حيث يظُنُّ أنه سوف يواصِلُ نفس نوع الاستمتاع إلى الأبد.
-        مَلذَّات؟ أي مَلذَّات يا مُعلِّم؟ نحن لا نجد قوتنا اليومي. نحن قد يئسنا من الحياة نفسها.
-        واليأس أيضًا مرضٌ من أمراض القلب.
-        وكيف يُشفى مرض القلب؟
-        عندما تختار أن تنزل من على عرش قلبك، ويملُكُ اللهُ على حياتك. حينئذٍ تدخل ممكلة الله. عندما لا تعود تستَمِدّ أملك أو يأسك مما حولك في العالم، وتؤمن بأن حياتك هي من الله وبالله.
جاءت أصوات عديدة من الجمع قائلة:
... نحن نصلي ونصوم وقد تخلينا عن أعمال مع الرومان لكي لا نتنجس بالأمم، لكننا لا نشعر بتلك السعادة والراحة التي تتكلم عنها.
.. لم نأكل طعاماً حرمته التوراة ولم نخالِف أيّاً من تعاليم سُنَّةَ موسى والتلمود والأحاديث. نُقدم الذبائح والقرابين في مواسمها كما تقول الشريعة. ترى لماذا نفعل كل هذا؟ أليس لأننا قد مَلَّكْنا الله على حياتنا؟
أجاب يسوع: «الدليل الوحيد على مُلك الله على حياة الإنسان هو أن يصير الإنسان مثل الله، يُحِبُّ ويغفر ويخرُجُ من سجن نفسِهِ. سِجنُ الطَمَعِ، أو سِجنُ اليأسِ، ليرى الآخرين ويشعر بهم ويخدمهم.» كيف هذا يا مُعَلِّم؟
-        إنها «خليقة جديدة» سيصنعها الله أمامكم، وبالإيمان تَحدُثُ أيضًا فيكم.
-        ما معنى هذا؟
-        لن تستطيع أن تفهم الآن يا توما ولكن انتظر، ستفهم فيما بعد.
-        وكيف نعيشُ مملكة الله هنا على الأرض لكي نكملها في السماء؟

... أنتم مبارَكون إذا كُنتم بالرغم من فقدان كل شيء، لا تزالون تمتلكون علاقةً بالله.
... أنتم مباركون إذا شعرتم بالجوع لله فلم يقنعكم لا مالٌ ولا بَنون، ولا حتى دين، بل تتوقون إلى التواصل الحميم المباشر مع الله.
... أنتم مباركون إن استطعتم أن تَبكُوا خطاياكُم وضَعفَكُم، وخطايا الآخرين وضعفهم أيضًا.
... أنتم مباركون إن رَقَّت قلوبُكم للألم الذي يصيب كل الناس، من هُم على دينكم ومن هُم ليسوا على دينكم.
... أنتم مبارَكون إن أحبَبتُم الذين لا يحبونكم، واقتربتم من الذين لا يريدون أن يقتربوا منكم، ظنًّا منهم أنكم نجسون وكَفَرة.
... اعتبروا أنفسكم مباركين عندما يضطهدكم الناس من أجلي ويَصِمُونكم بالعار، ويعزلونكم ويلقونكم خارج المجامع وخارج القلوب. عندئذٍ تفرح بكم السماء ويقبلكم الله في مملكته.
... اعتبروا أنفسكم مباركين عندما يُلَوِّثُ الناسُ أسماءَكُم بسبب إيمانكم بي وبمملكة الله التي أدعو إليها حاسبين إياكم كفَّارًا وفاسقين. عندئذٍ سيكون لكم أجر عظيم في مملكة الله. لأن الاضطهاد كان دائمًا نصيب الصادقين من الأنبياء.
... تَوَقَّعوا الشرَّ إذا ظَنَنتُم أنكم خيرُ الناس، أو أنكم قد حصلتم على البرِّ بأعمالكم، وإذا سَعَيْتُم لطلبِ رضا الناس، عندئذٍ سيكون هذا هو كل ما ستحصلون عليه.
... تَوَقَّعُوا الشر إذا أصبحتم راضينَ عن أنفُسِكُم وتظنون أنكم لا تحتاجون لشيء. لن يستطيع رضا الإنسانُ عن نفسه أن يُشبِع جوعَه للمُطلق ولله. لن يُشبِعَكَم مالٌ أو حتى دين. لن يُشبِعُكُم إلا الله نفسه؛ فأنتم مخلوقون منه وبه وله.

-        يا مُعَلِّم أنت تقول إننا مدعوون للتشبه بالله، كيف يمكن للمخلوق أن يشبه الخالق؟
-        هَذِهِ هي عطية الله الفائقة. إن الله الآن يأخذ ما لَكُم ليعطيكم ما له.
-        يأخذ ما لنا ليُعطينا ما لَهُ. لست أفهم.
-        سوف ترى، وتفهم، وتؤمن، يا فيلبس.
مَالَت الشمسُ للمَغيب ولم تَزَل الجُموعُ مُلتفةً حولَ يسوع، وهو يعلِّمهم ويكلِّمهم بكلام مملكة الله. كان تلاميذ المسيح يعرفون أنهم إذا تركوا يسوع هكذا فربما يظل لأيامٍ يتكلم عن مملكة الله دون أن يحتاج أن يأكل أو ينام.
-        يا معلِّم، الموضع خلاء والوقت قد تأخَّر. اصرف الجموع لكي يمضوا إلى القرى ويبتاعوا لهم طعامًا.
-        لا حاجة لهم أن يمضوا، أعطوهم أنتم ليأكلوا.
-        ليس لدينا طعامٌ يكفي لكل هؤلاء.
نظر يسوع إلى فيلُبَّس وقال: «من أين نبتاعُ خُبزاً ليأكُل كُلُّ هؤلاءِ يا فيلُبُّس؟»
-        لا أدري يا مُعَلِّم هؤلاء لا يكفيهم خبزٌ بمئة دينار ليأكل كلٌ منهم شيئًا يسيرًا.
-        انظروا ما عِندكم أولًا.
قال فيلبس هذا ومضى ليسأل باقي التلاميذ
-        هُنا غُلامٌ معه خمسة أرغفة شعير وسَمَكَتان.
-        ما هذا يا أندراوس؟ هل ستذهب بهذه إلى يسوع؟ هل أنت ساذج؟ ترى كم فردًا سيُطعِم هذا؟ هذا بالكاد يكفيني أنا. إننا عمليًّا لا نملك أي شيء نعطيه لهؤلاء.
-        لقد قال يسوع أن نذهب وننظر ما عندنا.
-        عندنا؟ لا يوجد عندنا شيء.
-         بلى عندنا هذه الأرغفة الخمسة والسمكتين.
-        الأرغفة والسمكتين! يا رجل! هذا جمعٌ لا يَقلُّ عن الخمسةِ آلاف رجل، غير النساء والأطفال.
جاء يعقوب بالخبزات الخمسة والسمكتين إلى يسوع:
-        ها هي يا معلم.
شكرًا يا يعقوب. أشكرك لأنك أَطَعتَني. وأَشكُرُكَ أَكثَر لأنك رأيتَ هذا الطعام واحترمت القليل. اجعلوا الجموع يتكئون رفاقًا رفاقًا على العشب الآخضر.
-        يتكئون؟ هل سيأكلوا؟
-        نعم ويشبعوا.
رَفَعَ يسوعُ الطَبَقَ المصنوعَ من جَريدِ النِخيل وبه الخُبزات الخمس والسمكتان إلى السماء وبارك الله، ثم بدأ في تقطيع الخبز والسمك إلى قطعٍ صغيرةٍ وأَعطى التلاميذ الطَبَقَ ليوَزِّعوا على الجموع الذين أكلوا جميعًا وشبعوا، وفَضَلَ عنهم.

-        هذا هو بالحقيقة النبيُّ الآتي إلى العالم.
-        هذا هو ملك إسرائيل.
-        إنه يستطيع أن يحوِّل الحجارة إلى خبز.
-        اسمعوا. نحن الآن خمسة آلاف رجل، نستطيع الآن أن نُعلِنَه ملكًا ونبدأ الثورة.
-        نعم الوقت مناسبٌ تمامًا، الشعب كله في حالة غليان بعد قتل المعمدان وجاهزٌ للثورة.
-        هيا بنا نختطفه، ونُعلِنُه مَلِكًا.
أدرك يسوع الأفكار التي بدأت تسري في الجمع فنادى سمعان بطرس: «سمعان اركبوا أنتم السفينة لتعودوا إلى كفر ناحوم، وسوف أصرف أنا الجمع وألحق بكم
-        لكن يا مُعلِّم دعنا نَرَى ما يُفَكِّر فيه هؤلاء الناس، فيبدو أنهم ينتوون شيئًا.
-        نعم، ولهذا أقول لكم اذهبوا أنتم الآن.
-        لكن...
-        سمعان.
-        حسنًا يا مُعلِّم.
 وقف يسوع على تَلَّةٍ عالية ورفع يديه ونادى بأعلى صوته: أيها الناس، اسمعوني.
صَمَتَ الجَمعُ كُلَّهُ وانتظَرَ ما سيقول يسوع. صاح يسوع بأعلى صَوتَهُ: « إن المعجزة التي رأيتموها الآن، يصنعها الله كل يومٍ وبأيديكم أنتم.»
تَهامَس الناس: «كيف هذا؟»
-        حَبَّة الحنطة التي تلقونها في الأرض يُضاعِفُها اللهُ ثلاثينَ وسِتِّينَ ومَائَة كما ضاعف الأرغفة الخمسة أمام عيونكم. لقد صنعتُ هذا لكي تعرفوا أنَّ الله هو الذي يُخرِج الخبزَ من الأرض وليست الأرض هي التي تُخرِجُهُ من ذاتها، لذلك فهو قادرٌ أن يفعل ذلك بدون الأرض. نَعَم، الله  قادرٌ أن يُطعِمكم خبزَ الأرض في أ] وقت وبأيِّ طريقةٍ أيها الجوعى للخبز السماوي ولكنكم لا تُدرِكون. الحق الحق أقول لكم أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلمة الله تحيا أرواحكم.
قال هذا يسوع وانصرف مُسرعًا إلى الجبل، ليُصلِّي، ونحو الساعة الثالثة فجرًا، شعر يسوع بأن تلاميذه في خَطَرٍ فقامَ ونَزَلَ من على الجبل إلى البحر وذهب إليهم ماشيًا على الماء.
-        بطرس، انظر، لقد جاء ملاكُ المَوتِ ليأخذ أرواحنا. يبدو أننا سنموت.
-        ملاك الموت ماذا يا أندراوس؟
-        انظر هناك، ها هو يأتي ماشيًا على الماء.








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق