السبت، 21 مارس 2015


16

السبت

مَعَ صباحِ السبت، خرج يسوعُ وتلاميذُه لكي يقضوا وقتَ راحةٍ وتأمل في مروج الجليل المكسوة بالعشب الأخضر الذي نَمَت خِلالَه مساحاتٌ من الزنابق المتعددة الألوان؛ فهناك مساحة من البنفسجيّ الزاهي وأخرى من الأبيض الناصع، وثالثة من الأصفر الذي يكاد يضيء، وكأنها سجَّادات عملاقة متعددة الألوان غَسَلتها الطبيعة ونشرتها لتجِفَّ على العُشب الأخضر.
شمس «أيار» الشابَّة تسطع في هذا الصباح الهادئ في نهاية فصل الربيع الجليلي. ونظرًا لبرودة الجليل، فإن هذا الوقت من السنة يكون أجمل أوقاتها؛ ففي «نيسان» (أبريل)، لا تزال البرودة باقيةً والشمس تصارع الغيوم ولا تسطع إلا في مُنتصف النهار. أما في «أيار» (مايو) فتكون قد أصبحت قويَّةً وساطعة مع بدايات النهار، إلا أنها لا تكون حارَّةً قاسيةً.
بعد صلاة الساعة الأولى من النهار (الفجر)، خَرَجَ يسوعُ وتلاميذه إلى تلك النُزهة الخلوية بعد أسبوع حافل بالسفريات المتعددة إلى مُدن وقرى اليهودية كلها للمناداة بملكوت الله والتعليم وشفاء المرضى والمناقشات اللاهوتية المتعددة مع الكتبة والفريسيين وقادة الدين اليهود. وكان كثيرًا ما يحرصُ يسوع على الخروج بمفرده ومع تلاميذه لتأمل الطبيعة وقراءة «ناموس الله» المكتوب على صفحتها.
-        لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. إن كانت حياة الجسد  وصِحَّته أهم من اللباس الذي عليه، فحياة الروح أهمُّ من الجسد الذي يُغَلِّفهُ.
ثم مر سِربٌ من العصافير ذاهب إلى حقل القمح الذي يلوح ذَهَبِيًّا في الأفق ليتناول وجبة إفطاره.
-        انظروا إلى طيور السماء، إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وكأن الفلاح يعمل عندها، والحقول المفتوحة مخازنها، وأبوكم السماوي يقوتها، فلا يقدر الإنسان، مهما حاول، أن يمنعها.
هناك أشياء لا يستطيع الإنسان أن يُغيِّرها في حياته، وأشياء أخرى يستطيع أن يُغَيِّرها. هناك أشياء لا قدرة للإنسان على تغييرها، مثل طول قامته، وهناك أشياء يمكن تغييرها ولكن في حدود، مثل المَرض، أما ما يمكن تغييره بلا حدود فهو الروح. الروح حُرٌّ، ودعوة الإنسان إلى الحياة الروحية لا يحُدُّها عمرٌ زمني ولا مرضٌ جسدي.
 ثم جثا يسوع على ركبتيه، ومرَّر يده اليُمنى على وجه البساط الزنبقي الأصفر الزاهي، كمن يمسح على فروة حيوان أليف جميل.
-        تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو، لا تتعب ولا تغزل ولكن أقول لكم: إنه ولا سُليمان في كلِّ مجده كان يلبس كواحدةٍ منها.
-        أكثر ما يعجبني فيك يا مُعَلِّم أنك تخرجنا دائمًا من انحصارنا في تاريخ أمَّتنا الذي أصبح يَمنَعَنا من أن نرى أي شيء غيره، ولا حتَّى خليقة الله الجميلة.
-         نعم يا توما يا عزيزي، فالله هو خالق التاريخ، خالق الآباء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وخالق الملوك والممالك الأخرى، وله في كل أمة وكل عصر شهود أمناء، إن ملكوت الله أوسع وأشمل من المفاهيم العِرقية الضيقة.
-        أخشى أن نكون بذلك نعزل أنفسنا عن الواقع المُرِّ الذي نعيشه، ونتخلى عن مسؤوليتنا تجاه تحرير شعبنا من الذُّل الذي يذوقونه يوميًّا على يد هيرودس والمحتل الروماني.
-        نعم يا سمعان، هذا الذُّلُّ حقيقي وينبغي أن نواجهه، وكم أنا مُعجَبٌ بشجاعة يوحنا المعمدان في مواجهة الفساد، لكن كما كنت أقول لتوِّي عن الجسد واللُّباس، فكما أن الخلاص من الفساد السياسي ضرورة، فالخلاص من فساد الروح أهم. اطلبوا أولًا ملكوت الله وبِرَّه وكل ما هو دون ذلك من الأمور الجسدية، يضيفها الله لكم بحسب الحاجة، فلا تهتموا للغد؛ لأن الغد يهتمُّ بما لنفسه. يكفي اليوم شرُّه، عيشوا اليوم لليوم فقط.

وصل يسوع وتلاميذه إلى حقل القمح الذهبيِّ الذي كانت العصافير قد سبقتهم إليه. لم يدرِ التلاميذ بأنفسهم، إلا وهم، مثل العصافير، الذين ربما من فرط تَوَحُّدِهم بالطبيعة، ظنوا أنفسهم مثلهم، وراحوا يقطفون سنابل من أركان الحقل، كما تقول الشريعة ويفركونها بأياديهم ويأكلون.

عندما وصل يسوع وتلاميذه بالقرب من المجمع للصلاة، تجمَّع حولهم بعض الفريسيين. وبعد التحيات قال واحد منهم:
-        يا مُعلِّم، لقد رأينا بعض تلاميذك في الطريق يقطفون بعض السنابل ويفركونها بأياديهم ويأكلونها. ألا تُعلِّم تلاميذَك أن هذا لا يحل في السبت؟
-        وأنتم أما قرأتم ما فعله داود حين جاع والذين معه؟ كيف دخل بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لم يحل أكله له ولا للَّذين معه، بل للكهنة فقط. أو ما قرأتم في التوراة أن الكهنة في السبت في الهيكل يُدَنِّسون السبت وهم أبرياء؟
-        وهل تساوي نفسك بداود الملك العظيم؟ وهل الحقل هيكل؟ وهل أنت كاهنٌ وتلاميذك كَهنةٌ؟ ما أعجب ما تقول!
-        ههنا أعظيم من الهيكل.
-         أستغفر الله العظيم! ما هذه التجاديف؟ هل تعتبر الحقلَ أعظم من الهيكل؟
-        حيث الرَّحمة والمحبة، فثمة حضور الله. الهيكل والذبائح ليست سوى رموزًا لرحمة وغفران الله، فلو عَلِمتُم معنى قول الله: «إني أريد رحمةً لا ذبيحة»، لما حكمتم على الأبرياء.

بعد الصلاة وقراءة التوراة والأسفار المقدسة، جلس يسوع يُعلِّم بعض الحاضرين في المجمع، فانضم بعض الفريسيين إلى حلقة الدرس، وكان هناك أيضًا رجل يده مشلولة ويابسة. نظر أحد الفريسيين إلى الرجل المشلول، وأراد أن يضع فخًّا ليسوع فقال: «يا مُعَلِّم، استكمالًا لحوارنا حول السبت، هل يحل الإبراء في السبوت؟»  
أجابه يسوع: «وإذا كان لك خروفٌ سقط في بئر أو حفرة، أفَلا تنقذه وتقيمه؟»  
-        بلى أنقذه؟  
-        فالإنسان كم هو أفضل من الخروف! إذًا يحِلُّ فعل الخير في السبوت.
ثم قال للإنسان: «مُدَّ يدَكَ!» فمّدَّها. فعادَت صحيحة كالأخرى.
-        مجدًا لله لقد برأ الرَّجُل.
-        حتى التَقَلُّص والتشوُّه الذي كان في اليد قد ذهب. لقد استطاع الرجُل أن يمدَّ يده بسهولة.
-        عجيب يسوع هذا.

-        منطق سليم. إننا بالفعل نُقيم دوابنا إذا وقعت في السبت، ولا نعتبر أنفسنا قد كسرنا السبت
-        الرُجل له سنينٌ هكذا، هل لَزِمَ أن يشفيه في السبت؟ أما كان يُمكِن أن يأتي في يومٍ آخر؟
سَرَت هذه الهمهمات وغيرها بين الناس في المجمع.

أضاف يسوع: «إنما السبتُ قد جُعل لراحة الإنسان وليس عبئًا عليه. لولا السبت لأرغم الناس عبيدهم على العمل سبعة أيام في الأسبوع حتى يموتوا. آه لو تَعْلَموا ما هو الناموس! إن الناموس يُحرِّر الإنسان ولا يُقيِّدَه. إن الناموسَ الكامِل هو ناموس الحرية، وليس ناموس التطبيق الحَرفي المميت». ثم خرج يسوع من المجمع وتبعته جموعٌ كثيرة فشفاهم جميعًا، أما مجموعة الفريسيين فساروا معًا وهم يتكلمون بصوت خفيض ويبدوا أنهم يُخَطِّطون لشيءٍ.
-        لا تذهبوا إلى منطقة غير يهودية ولا تدخلوا مدينةً سامريةً، بل اذهبوا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة وأعلِنوا أن مملكة الله قد اقتربت من الناس. اشفوا المرضى أقيموا الموتى، طَهِّروا المصابين بأمراضٍ جلديةٍ معديةٍ، أخرِجوا الأرواح الشريرة واشفوا انقسام الإنسان على نفسه. أخذتم السلطان لعمل ذلك مجانًا فأعطوه للآخرين مجانًا أيضًا. لا تحملوا في أحزمتكم نقودًا من الذهب أو الفضة أو حتى النحاس. ولا تحملوا حقيبة ولا ثوبًا إضافيًّا أو حذاءً إضافيًّا أو عكازًا، فالعامل يستحق طعامه.
-        كيف ذلك؟ ربما نحتاج لملابس.
قال يسوع: «ألم أقُل لكم عن زنابق الحقل فإن كان الله يُلبِسُ عُشبَ الحقول الذي تراه اليوم، وفي الغد يلقى به في الفرن، أفلا يهتم بكم أكثر من ذلك يا قليلي الإيمان؟ لذلك لا تقلقوا ولا تسألوا أنفسكم: ماذا سنأكل؟ أو ماذا سنشرب؟ أو ماذا سنلبس؟ فهذه أمور يسعى إليها أهل مملكة العالم، وأبوكُم السماوي يعلم أنكم تحتاجون لكل هذه الأشياء»,
-        وكيف تقول لنا ألا نَذهب إلى قريةٍ للسامريين؟ ألَم نَذهب إلى سوخار من قبل؟ لماذا الآن لا تريدُنا أن نذهب إلى قُرى السامريين؟
-        لقد زرَعتُ هُناكَ نَبتةً وسوف تُثمِرُ في حينها، ولكن ليس الآن.
عند هذه اللحظة مَرَّ موكب الشُّرطة يسوق عددًا من الرجال من جماعات الغيورين ذوي اللحى المطلقة بدون عناية ووجوههم متورمة بكدماتٍ بعضها لا تزال حمراء والبعض الآخر تحول إلى اللون الأزرق القاتم أو البني، وكانوا يصرخون بأعلى أصواتهم:
«العودة للتوراة يا كفار اليهود!»
«أين الشريعة يا كارهي الشريعة؟»
«تسقط الحكومة الكافرة»

«الموت للرومان»

نظرَ يسوعُ نحوهم وأطرَقَ حزينًا ثم عاود حديثه:
-        سوف يُبغِضكم الناسُ من أجل اسمي، ولكن الذي يصبر إلى المُنتهى فهذا يخلُص، لا تخافوهم لأن الحقيقة سوف تظهر في النهاية مهما طال الزمان، لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها. خافوا من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم. لا تظنوا إني جئت لألقي سلامًا في الأرض بأي ثمن، لا تندهشوا عندما يُفَرِّقُ الإيمان بي كالسيفِ بَين الابن والأب، والبنت والأم، وكيف سوف يصبح البعضُ منبوذين من أهل بيتهم بسبب الإيمان بي. من لم يكُن مستعدًّا للموت من أجل الحياة، فهو ليس مستعدًّا بعد للحياة.












ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق