الاثنين، 23 مارس 2015

21

صفورة

كانت صَفورة قد أنفَقت كلَّ ما معها من نقود بعد بيع الأسورة الذهبية الأخيرة على آخر الأطباء الذي قالوا لها صديقاتها عنه إنه يستطيع شفاء ينبوع دمها الذي صار له أكثر من اثنتي عشرة سنة الآن. كانت القصة تتكرر، فبعد العلاج كان يحدث تحسُّنٌ طفيف في البداية، ثم بعد عدة أيامٍ لا يَلبَث النَزيفُ أن يعود لِيَتَدَفَّقَ مِنها مَرَّةً أخرى، حتى صارت شاحبةً هزيلةً، يقترب منظرها من الأموات أكثر من الأحياء.
بدأ نزيف صفورة عندما كانت في الثلاثين من عُمرِها لسببٍ غير معروف، وذلك بعد وفاة والدها ووالدتها المُسنَّين معًا عندما اقتحم بيتهما لصٌّ وقتلهما معًا. لم تمر سنة قبل أن يتركها زوجها بسبب ذلك النزيف المتدفق الذي كان يمنعه من ممارسة حياته الزوجية معها. وبحسب ناموس موسى، أعطاها زوجُها «كتاب طلاقها» فطُلِّقت وذهبت مع أطفالها لتعيش مع أختها الوحيدة التي لم تتزوج، بينما تزوج طليقها بامرأةٍ ثانيةٍ.
تجرَّعت صفورة مرارة المرض والهَجرِ معًا. أما ما كان يؤلمها أشد الألم، وهي امرأة تقيَّة، أنها لم تستطِع أن تذهب للهيكل طوال هذه السنين، ولا أن تُقَدِّم أي ذبيحة بسبب نجاستها الطقسية. حتى الكُتب المُقَدَّسة لم تستطِع صفورة حتى أن تلمسها. لقد كانت صفورة، بسبب ينبوع دمها الدائم، مثل امرأةٍ بها الطمث بشكل مستمر. لذلك لم تشعر أنها فقط مرفوضة من الزوج، بل أيضًا من الله، الذي يبدو أنه لا يريدها أن تقترب من بيته أو تَمَسَّ مَقَادِسَه. حتى ابنتها الشابة التي تزوجت حديثًا من أحد شباب الفريسيين، لم تستطِع أن تزورها إلا سِرًّا لأن زَوجَهَا كان يمنعها لاعتقاده أن أمَّها امرأة خاطئة ملعونة من الله، ولذلك أصابها ذلك النزيف الذي لا يُشفَى.


-        كيف حالكِ اليوم يا صفورة؟
-        حمدًا لله يا أختاه.
-        هل تأكلين شيئًا؟ لقد زاد شحوبكِ هذه الأيام كثيرًا يا أختي.
-        أعلم لكن ليست لي شهية للطعام، أشكركِ.
-        لا يُمكِن أن تُواصِلِي هكذا يا صَفورة، لابُدَّ على الأقل أن تعوِّضي الدمَّ الذي تفقدينه كل يوم.
-        ليست لي رغبة في الحياة أصلًا يا أليصابات. أتمنى أن أموت، ماذا لي لكي أعيش من أجله؟ لقد اقتنعتُ أنني إنسانةٌ نجسةٌ مرفوضة من الله.
-        لماذا تقولين هكذا يا صفورة؟
-        الكل يقولون هذا. يهوذا زوجي، أقصد زوجي السابق، وزكريا زوج ابنتي، وكل الأهل والجيران. لم تُصَب امرأة بهذا النزيف لكُلِّ هذه السنين. لابُدَّ أَنَّ لَعنةً ما قد أصابتني. وها كل ما ورثته عن أبي قد أنفقته ولم أُشفَ. يبدو أنه لا أمل. كما أنني لا أستطيع أن أذهب إلى الهيكل لكي أُقَدِّم ذبيحة كفَّارة، فأنا خاطئة غير مقبولة توبتها.
لم تحتمل أليصابات هذا الكلام ولم تعرف ماذا تقول، بل سالت دموعها واقتربت من أختها واحتضنتها. فأَكمَلَت صَفُورةُ كَلامَهَا وَوَجهُها مَدفونٌ في حِضن أليصابات حتى أنَّ كَلِماتَها خَرَجَت كَغمغَماتٍ مَكتومةٍ باكية: «كُلُّهُم تركوني إلا أنتِ يا أختي. تحتمليني وتحتملين رائحتي ونجاستي المستمرة. لا أدري ماذا أقول لكِ؟»

-        أنتِ أختي الوحيدة يا صفورة، والله يعلم كم أُحِبُّكِ وكم أتألم لما أنتِ فيه.

كان البيت الذي تقيم فيه صفورة وأليصابات في كفر ناحوم قريبًا من البحر، وكانت أليصابات تعمل في بيع السَّمَك. فكانت تذهب كل صباح إلى بحر الجليل لتُقابل الصيادين وتحصل منهم على بعض السمك بالآجِل لتَبيعَهُ خِلال النَهار في شوارع كفر ناحوم ثم تعود قبيل الغروب لتدفع ثمن السمك للصيادين، فتبتاع عشاءها وتعود لتتناوله مع أختها صفورة التي كانت غالبًا ما تقضي اليوم كله في الفِراش بسببِ ضَعفها وفقر الدم الشديد الذي أصبحت تعانيه بعد اثنتي عشرة سنة متواصلة من النزيف.

وذات يومٍ، رجعت أليصابات للمنزل بعد ساعةٍ واحدةٍ من خروجها.
-        من بالخارج؟
-        أنا يا صفورة، أنا أليصابات.
-        أليصابات؟ لماذا عُدتِ هكذا مُبكِّرا؟ ألم يكن هناك صَيدٌ؟
قالت أليصابات بحماسٍ شديدٍ وهي تلهث، حيث كانت قد جاءت من شاطئ البحر راكضةً: «لا يا صفورة. دَعكِ من الصيد والسمك، قومي حالًا وارتدِ ملابسكِ.»    
-        ما الأمر؟
-        سوف أقول لكِ وأنتِ ترتدين ملابسكِ، فأنتِ تستغرقين وقتًا طويلًا.
-        من تَعَبي يا أليصابات.
-        نعم أعلم يا حبيبتي. قومي إذًا.
قامت صفورة بصعوبة وهي تتأوَّه من ألم العضلات وبدأت ترتدي ملابسها وراحت أليصابات تحكي بحماسٍ وهي تصارع كي تأخذ نَفَسَها: «ذهبتُ في الصَباحِ كالعادةِ عند شاطئ البحر، فرأيتُ جَمعًا غفيرًا من بعيد. وعندما اقتربتُ وسألت ما الخطب؟ قالوا لي إن يسوع يُعَلِّم عند البحر. والتفتتُّ حولي فوجدتُ كل الصيادين الذين أتعامل معهم بين الجموع يستمعون ليسوع وقد تركوا سَمَكَهُم كَما هو في شباكه. وقال لي أَحَدَهُم إن يسوع وتلاميذه قد عادوا لتوِّهم من كورة الجدريين حيث شفى يسوع ذلك المجنون الذي كان يسكن القبور هُناك ويُرعِب الجميع.»  
-        اللجئون؟ اللجئون يا أليصابات؟ شفاه؟ وهل مثل هذا يُشفَى؟ هذه به فرقة من الأرواح النجسة. لقد سمعت أن أحدًا لم يقدر أن يربطه ولا بسلاسل حديدية، فكان يقطع هذه السلاسل بقوة شيطانية غير موجودة في البَشر
-        تخيَّلي؟ يقولون إن هذا المجنون لما رأى يسوع من بعيد رَكَضَ وسَجَدَ له، وفي النهاية شفاه يسوع وقال له أن يذهب إلى بيته وأهله ويخبرهم كم صنع الرب به.
-        من يكون يسوع هذا؟
-        وليس ذلك فقط بل سمعتُ واحدًا من تلاميذه يتكلم مع أحد الصيادين الذي سأله كيف عادوا وسط العاصفة، فأجابه التلميذ أن يسوع هدَّأ البحرَ بكلمةٍ.
-        هذا غير معقول. ألعله المسيا؟
-        لا أعرف. ما أعرفه الآن هو أن تُسرعي وتلبسي ملابسكِ ونذهب إليه، فرُبما شفاكِ من النزيف.
-        من يشفي ذلك المجنون الذي كان يُجَرِّحَ نفسه بالحجارة، فمن الممكن جدًّا أن يشفيني. لقد سمعتُ عن يسوع، لكن لم يكن لدي ثقة أنه يستطيع أن يشفيني، أو رُبما لا يريد. لكن بعد الذي سمعت منكِ، فأنا متأكدة أنه سيشفيني، إن كان إنسانٌ مثل اللجئون له قيمةٌ عند يسوع، فربما يكونُ لمِثلي أنا أيضًا قيمةٌ عنده. لكن...
-        لكن ماذا يا صفورة؟
-        أخجل أن آتي هكذا وسط الجموع والرجال ويسألني ما بي. لن أستطيع أن أقول له.
-        صفورة؟ هل ستسمحين للخجل أن يحرمكِ من الشفاء؟ كوني عاقلة.
-        على أي حال دَعينا نَذهَب ونَرى ماذا نفعل.
قالت صفورة هذا وكأن روحًا جديدةً قد تقمَّصَتها. سَرَت قوةٌ جديدةٌ في روحها وجسدها، فنَسَت ألم العضلات والعظام الذي كان يُبقيها في الفراش طوال اليوم وأسرعت مع أليصابات أختها.
كانت صفورة وأليصابات تكادان تركُضان في الطريق من فرط الحماس. كان الركضُ أيضًا يزيد من تَدَفُّقِ النَزيف منها حتى أن لفافة القماش التي كانت قد وَضَعَتها قبل أن تغادر منزلها كانت قد تشبَّعت بالدم تمامًا وبدأ الدم يسقط منها، فيزيد من خَجَلها وخزيها. كما أن الدم المتخثر كانت له رائحة عفنة تفوح حول صفورة تفوق رائحة الطيب التي كانت تضع الكثيرَ منه لكي تغطِّي على رائحة النزيف. واليوم وَضَعت كُلَّ ما تَبَقَّى لديها من طيبٍ قبل أن تخرج أمام جَمعٍ كَبيرٍ كهذا. كُلُّ بِضعَة دقائق كانت صفورة تشعر بألمٍ شديدٍ في صدرها من جَرَّاء الجري وهي مُصابة بفقر دم شديد فكانت فتتوقف قليلًا لتلتقط أنفاسها ثم تواصل. وَظَلَّتا على هذا المنوال حتى اقتربتا من طرف الجَمعِ المُجتَمِعَ حَولَ يَسوع والذي كان قد تضاعف منذ أن كانت أليصابات هناك.
اجتازت أليصابات وصفورة الجمع، وكان أغلب الناس يُفسِحون لها. بعضهم كان بسبب الرائحة وبسبب رغبتهم ألا يلمسوها فيتجنسوا. وبعض ممن كانوا يعرفونها كانوا سعداءَ أَنَّها جَاءَت لَرُبَّما يشفيها يسوع. شَقَّت صفورة وأليصابات طريقَهُما حتى وَصَلَتا إلى مكانٍ بالقُرب من يسوع. وعندما وَصَلَتا كان أحد رؤساء مجمع كفرناحوم واسمه يايرُس قد جَاءَ ومَعَهُ بعضٌ من خُدَّام المجمع يُفسِحون الطريق أمامه حتى يصل أمام يسوع.
لَمَحت أليصابات أحد الشباب الذين كانوا مع يايرس ومالت على صفورة لتسألها: «هَل تَرين هذا الشاب الذي مع يايرس، أظن أنه زكريا زوج ابنتكِ  
-        نعم هو. يا لمصيبتي!


-        يا مُعَلِّم ابنتي الصغيرة على آخر نسمة. لَيتَكَ تَأتي وتَضَع يَدَكَ عليها لتُشفى فتحيا.

عندما سمِعَت صفورة عبارة «تَضَع يدَك عليها» شَعَرت بغُصَّة في حلقها، لكنها تابعت باهتمام.

-        لا بأس يا يايرس يا صديقي، سوف آتي معك.
اندَهَشت صفورة من رَدِّ فعل يسوع. يترك كل هذا الجمع ويذهب مع شخص واحد؟ ربما لأنه من رؤساء المجمع. لا يمكن أن يتوقف يسوع هكذا لأي إنسان، وربما لأن الابنة على وشك الموت. 
تَحَرَّكَ يسوع هو ويايرس والجَمعُ معه يزحمونه والكل يسير في طريق بيت يايرس. شعرت صفورة بالمزيد من الإحباط، وقالت في نفسها: «لقد ضاع أملي في الشفاء.هو الآن سيذهب إلى بيت ذلك الرجل المُهم، فلا يُمكن أن يترك ابنته وهي على آخر نفس، لكي يهتم بامرأةٍ نجسةٍ مثلي. يبدو فعلًا أنني ملعونة والله لا يُريد شفائي.»

-        ماذا بكِ يا صفورة؟
-        لا شيء يا أليصابات يبدو أنه لا فائدة.
ثم صَمَتَت صفورة قليلًا... ثم لَمَعَت عيناها.
-        لن أيأس. أشعُرُ في قلبي أنَني فقط إن مَسَستُ ثَوبَهُ دون أن يدري أو حتى يقف، سوف أُشفَى وأمضي دون أن يعرف أحد، ولا حتى أطلب منه أن يضع يده عليَّ وأسبب له ولنفسي إحراجًا، هيا بنا.
-        هيا يا صفورة. بإذن الله ستُشفين.
أسرَعَت صَفورة من خُطَاها على قدر استطاعتها، وهي تَلهَث ويكاد قلبها يتوقف. قد كان صعباً جداً أن تلحق بيسوع ومن معه فقد أصبحوا يمشون بخطىً سريعةً جِدّاً ليَذهبوا لبيت يايريس لكي ينقذوا الصبية. وبعد عدة محاولاتٍ استطاعت صفورة أن تقترب، وتقترب، حتى أنها بالفعل لَمَسَت ثوبه،  ثم سقطت على الأرض.
بعد أن سقطت صفورة على الأرض مُنهكةً من الركض، فجأة شعرت أن ينبوع دَمَها يتناقص، ويزداد في نفس الوقت شعورها بالقوة تَدُبُّ مرة أخرى في جسدها.
-        أليصابات... النزيف... إنَّهُ يتَوَقَّف.
-        هل أنتِ متأكدة يا صفورة؟  لقد شُفيتِ.   مجدًا لله!    مجدًا لله!
-        اصمتي يا أليصابات لا نُريد أن نصنع جَلَبَةً. تعالي نَنسَلُّ من وسط الجموع ونذهب إلى الهيكل بسرعة لكي أُقَدِّم مُحرقة حمدًا لله. أشتاق أن أدخل الهيكل.
استدارت صفورة وأليصابات لتنصرفا. وبعد بضعة خطوات، شعرتا بشيءٍ غريب، فالتفتتا إلى الوراء لتجدا أن الجمع الذي كان يسير بخطا حثيثة إلى بيت يايرس قد تَوَقَّف، وأربعة من تلاميذ يسوع يتحركون وسط الجموع بسُرعة وجِدِّيَّة يسألون بصوتٍ عالٍ: «أين المرأة التي لمست يسوع؟ أين المرأة التي لمست يسوع؟»
ارتعبت صفورة لكنها لم تُرد أن تكذب أو تخفي الأمر، فرفعت يدها وأطلقت صوتها من بعيد.
-        أنا يا سيدي. أنا المرأة.
-        تعالِ مَعَنا. يسوعُ يريدُكِ.
تَحَرَّكَت صفورة وأليصابات مع تلاميذ يسوع نحو الجمع. كان قلبُها يَنبُضُ بشِدِّةٍ. تُري ماذا سيحدث؟ هل سيوبِّخني؟ هل سيسألني عن دائي؟ بالطبع سيراني زكريا. رَبَّاه أنقذني. خُذ حياتي الآن قبل أن أذهب أمام الناس. يكفيني أنك شفيتني وعرفتُ إنِّي لست ملعونة مِنكَ كما كانوا يقولون. خذ حياتي أرجوك يا إلهي.

وَصَلَت صَفورةُ أمامَ يسوع وهي تَنظُرُ للأَرض لكي لا تَرَى الجَمعَ المُزدَحِمَ حَولَ يسوع وتشعُرُ بالمزيدِ من الخزي والعار. فَقَط أرسلت نظرة سريعة إلى السيد يايرس الذي وقف وسط الجموع وهو في حالةٍ شديدةٍ من الخوف والغضب بسبب توقف يسوع في الطريق بينما كانوا ذاهبين بسرعة لكي ينقذوا ابنته. عندما رأت صفورة يايرس، زاد خوفها وشعورها بالعار والذنب لما فعلته.
أما يسوع فكان وَجهَهُ هادئًا مطمئنًا. نظر إليها يسوع نظرة عطف عميقة، فهدأ قلبها. لم يسألها يسوع ولم يطلب منها أن تقول أي شيء، لكنها هي نفسها بعد أن هدأ قلبها واطمأنت من نظرته الحانية، تكلمت:
-        يـا مُعَلِّم أنا لديَّ نزف دم منذ اثنتي عشرة سنة وتألمتُ كثيرًا من أطباءٍ كثيرين.أنفقتُ كُلَّ ما عِندي ولم أنتفع شيئًا بل صرتُ من سيئ إلى أسوأ. لَمّا سَمعتُ بِكَ جئت إلى هنا بالرغم من حساسية موقفي. ثم إنَّني عندما رأيتك مُتَّجه لشفاء ابنة السيد يايرس، قلت لن أُعَطِّلك ولن أفضح نفسي أمام الناس. فجئت من ورائك وجَاهَدتُ حَتَّى مَسَستُ ثوبك، لأني قلتُ في نفسي إنني إن مسستُ ولو ثيابك شُفيت. وعندما فعلت ذلك، وبمجرد أن لمست ثوبك، جَفَّ ينبوع دمي، وعَلِمتُ في جسمي أنني قد برئت من الداء.
 نظر إليها يسوع بإعجاب وقال: «قد شعرتُ بقوةٍ عظيمةٍ تخرُجُ مِنّي. يا ابنة إيمانكِ قد شفاكِ. اذهبي بسلام وكوني صحيحة من دائكِ.»
لم تَستَطِع صَفورةُ أن تقولَ كلمةً واحدةً، فقد وقعت عليها كلمات يسوع الواحدة تلو الأخرى كحمامٍ دافئ غسل خزيها وعارها قبل أن تذهب إلى بيتها لتغتسل من دمائها.
-        أشكرك يا سيدي أشكرك، بارك الله فيك.

استدارت صفورة وأمسكت بيد أختها أليصابات وهَمَّتا بالمسير، وكانت الأفكار تتوارد في عقلها...
.. إيماني؟ إيماني شفاني؟ لم يَقُل إنه هو الذي شفاني. لم يَقُل إن الله شفاني. قال لي إن إيماني هو الذي شفاني... إيماني أنا؟ أنا النجسة الملعونة؟
... أَذهَبُ بسلامٍ؟ لقَد نسيتُ السلامَ مُنذُ سنين...
.... ثم يقول لي أيضًا «يا ابنة»؟ أنا أعلم أنه أصغر مني بأكثر من عشر سنوات. أشعر أن الله قد تبنَّاني اليوم.
... قد كُنتُ أَتَعَجَّب أنه ترك الجمع وذهب مع يايريس. وقُلتُ إنَّه فعلَ ذلك لأنه من رؤساء المجمع، أو لأن ابنته كانت تحتضر. وها هو الآن يترك يايرس نفسه وابنته المحتضرة ويتوقف لكي يشفيني أنا من عاري ورؤيتي الحقيرة لنفسي، بعد أن شفاني من داء جسدي. لقد كان يستطيع أن يستمر في طريقه وليُشفَ من يشفى. الكثيرون يقعون عليه فيشفَوا وهو يستمر في طريقه. لماذا استوقفني؟ من هذا المُعَلِّم؟ يبدو أنَّه حقًّا هو المسيا كما يقولون عنه.
لم تفُق صفورة من أفكارها التي أخذتها خارج الزمان والمكان إلا بعد أن سمعت الذين جاءوا من دار رئيس المجمع يقولون: «ابَنتُكَ ماتَت. لماذا تُتعِب المُعَلِّمَ بعد؟»
للوقت انهار يايرس على الأرض باكيًا، ووقفت صفورة وأليصابات من بعيد تراقبان المشهد.
انحنى يسوع إلى يايرس على الأرض وأقامه قائلًا: «لا تخف يا يايرس آمن فقط»   

عادت صفورة إلى بيتها وهي تشعر بسلام عجيب. فلم يشفِها يسوع فقط من نزيف دمائها بل شعرت بنزيفٍ آخر للكرامة يتوقف بعد أن توقف نزيفُ الدم، بل وشعرت بينبوعٍ آخرٍ من الإيمان والقوَّة، ينفجر بداخلها.
... تُرى هل سَمِعَ زكريا كلمات يسوع؟
... تُرى هل سمع كلُّ الناس كلمات يسوع عني؟
... على أي حال لا يهمني كل هذا، كل ما يهمني الآن هو أنني عرفت أنني لست ملعونةً وأن الله يُحِبُّني.
... أنا لست نجسةً.
... أنا لست ملعونةً.
... بل أن نزيف الدم ليس نجاسة ولا لعنة. إنه فقط مرض يُشفَى.
... الله يريدني. الله لا يرفضني.
... من الآن فصاعدًا، يكفيني قبوله ولو رفضني كل الناس.



22

المعمدان

اليوم عيدُ ميلادِ المَلك
ازدانت مدينة طبرية  كلها بالأعلام و لافتات التأييد والمبايعة:
... يوم ميلادُك هو يوم ميلادِ اليهود إلى المَمَات. في الأرض وفي الشتات.
... الجليل يحتفل برب الأسرة ووالد الشعب.
... كلنا فداؤك يا راعي إسرائيل.
... في يوم ميلاده، الجليل يبايع الملك لولاية سابعة عشرة.
... الغرفة التجارية بكفرناحوم تبايع الملك. عَنهُم شَمعي بن برخي.
... مصانع عزائيل- الجليل للسيوف والحدائد تبايع الملك.

ازدَانَ القصرُ المَلَكِيُّ منذ الصباح الباكر بالأعلام والأنوار استعدادًا للحَفلة الساهرة الكبيرة التي تقام فيه الليلة على شرف الملك، والمدعو إليها الوالي الروماني وكُلُّ عُظمَاءَ المَلَك وقواد الألوف وَوُجَهَاءِ الجليل. القَصرُ المَلَكي بُقعَةٌ من الضوء وسط  مدينة طبرية، بينما الجليل واليهودية كلها حزينة لأن يوحنا المعمدان في السجن.


استقيظت الملكة هيروديا هذا الصباح وهي تفكر في الحفلة وتخطط كيف يمكن أن تستغلها لإتمام مخططها. بعد أن حاولت أن تقنع يوحنا المعمدان بالتوقف عن مهاجمة زواجها بهيرودس ولم تنجح، ظلت تفكر كيف يمكنها القضاء عليه.
ثم جَلَسَت في فِراشِها وهي تُفَكِّر:
... لن أنسى كيف عاملني هذا الجِلف عديم الذوق.
... أنا الملكة هيروديا ابنةُ الملوكِ وزوجةُ الملوك. أذهب إليه بنفسي فيرُدُّ طلبي.
... حتى بعد أن أرسلتُ سالومي ابنتي التي حاولت معه بكل جمالها وإغرائها فَرَفَضَها وعادَت تبكي.

دَخَلَت سالومي وجَلَسَت على فِراشِ أُمِّهَا واحتضنتها وهي تقول مداعبةً: «كُلُّ الجليل واليهودية سوف يكونون هنا الليلة. من الممكن أن تكون الليلة بمثابة اعترافٍ رسميٍّ من كل رجال الدولة بزواجكِ أيتها الجميلة.»
رَدَّت هيروديا بابتسامة امتزجت فيها السُّخرية بالألم: «رِجالُ الدَولة؟ من هُم رجالُ الدَولة؟ إنهم الدُمى التي يلعب بها هيرودس، ويلعبون به. حتى الهيكل وكَهَنَتَهُ هُم ألعوبَته. إن الاعتراف الذي نريده هو اعتراف النبيّ، اعتراف المعمدان. فقط نريده أن يتوقف عن الكلام وتأليب الشعب ضدّنا.»
لم تَرُدّ سالومي على كلام أُمِّها، بل هَمَّت بأن تشدها من تحت الأغطية، بينما كانت هيروديا تقاوم وهي تحاول مداراة استمتاعِها واحتياجها لهذا التدليل.
-        هيا قومي لدينا الكثير لنفعله. لنذهب إلى المطابخ لنرى ما الذي يُعِدُّهُ الطَبَّاخون. 

سالومي هي الابنة الصُغرى لهيرودِيّا من زوجها السابق فيلبس، الذي هو شقيق الملك هيرودس أنتيباس. وقد تمت السابعةَ عَشرةَ مًنذ شهور، لتصبح فتاةً رائعة الجمال رشيقة القوام تخطِفُ الأَبصار والقلوب. ولطالما كانت تشعر هيروديا بالحَنَق عِندما كانت تُلاحظُ نظراتِ زوجها الجديد إلى سالومي وهي ترفل في ثوب النوم الشفاف، فأقامت لها مُلحَقًا خاصًّا بها في طرفٍ قَصيٍ بحديقة القصر لتبتعد بها عن نظرات هيرودس الشهوانية.

مالت الشمس للمغيب وأخذت أنوار أبراج القصر الملكي في الظهور، فبدت الأبراجُ وَحدَهَا مُضيئةً في سماء مدينة طبرية المظلمة كشموع مُوقَدة ترتجف وسط ظلام المدينة الحزينة على المعمدان، النبيّ السجين. وعِندَما أَطبَقَ الظلامُ تمامًا، بَدأَت الصواريخُ المُلونة تشق صمت السماء صارخةً كعويل الأم الثكلى، ثم لا تلبث أن تنفجر عن ألوانها الحمراء والصفراء والخضراء في دوائر متداخلة مختلفة الحجم.  وقبل أن يتلاشى الصَوت والألوان، يَصرُخُ صاروخ آخر وآخر... وهكذا.  وعلى الجسر المؤدي للقصر المفروش بالأبسطة الحمراء، تهادى كبار رجال الدولة مع زوجاتهم في فساتين السهرة عارية الظهور التي غَطَتها معاطف الفراء الثمين.

اجتمعَ الجميعُ في بَهوِ القَصر. ثم صدحت موسيقى القصر بالسلام الملكي. وَقَفَ الجميعُ في خُشوعٍ واحترام لرمز الدولة. بعد انتهاء السلام الملكي، خَرَجَ الحاجبُ وصَرَخَ بصوتٍ قوي وعميق في نفس الوقت:
... حيوا معي هيردوس أنتيباس ملك الجليل.
.... والملكة البهية... هيروديا.
.... وصاحبة السموِّ الملكي الأميرة سالومي.

ضَجَّ بَهوُ القَصرِ بالتَصفيق الذي استمر لدقائق طويلة، بينما تَهادى الملك المهيب وهو يحاول ألا يتعثر في خطواته ، وهي مهمةٌ قد أصبحت صعبةً بعد أن تجاوز السَبعين مع التهاب الأعصاب اللعين بسبب الإفراط في الشراب كما لم تزل آثارُ احمرار عَينيه من كثرة الشرابِ باديةً بالرغم من محاولات التجميل. تأبطت ذراعه الملكةُ هيروديا وهي تَخطُرُ في ثوبٍ عارِ الصدرِ مشغولٌ كُلُّهُ بالذهب. راحت المَلِكَةُ تُوَزِّعُ الابتساماتِ المَلَكية يمينًا ويسارًا بوجهها الذي زادت من بياضِهِ طبقة سميكة من المساحيق التي حاولت بها بنجاحٍ أن تُخفيَ تجاعيد نهاية الخمسينات الوقحة التي لا تفرق بين بشرة الملكة وبشرة بائعة الفاكهة.
ثم جاءت خلفهما بمسافةٍ كبيرة، أصرت عليها هيروديا، الأميرةُ الملكية سالومي بخطوة شبابية سريعة تحاول تهدئتها لكي تحافظ على المسافة التي أصرت أمها ألا تطول أو تقصر، حتى لا تبدو إلّا هيروديا في المشهد.

راح النادِلونَ في ثيابهم السوداء والحمراء الداكنة ينتشرون بين المدعوين كما تنتشر ديدانٌ سوداء في جيفة تركت لتتعفن في العَرَاء بعد أن أخذ الأسد منها كفايته وشبع. وعلى أنغام الموسيقى والرقص في الساحة المتوسطة للبهو، بدأت أحاديث المال والأعمال ونميمة المجتمع النسائي الجليلي، ممتزجةً بأصوات قرع الكؤوس ونكهة الدخان الفاخر.

-        شمعي يا صديقي لقد أصبحت النائب الأبَدِيّ لكفر ناحوم، فلا يبدو أن أحدًا يستطيع أن ينافسك الآن.
-        أعوذ بالله من الحسد.

-        أقسم لك بالهيكل يا راعوث أن هناك علاقةً جنسيةً كاملةً بين هيرودس وسالومي، أستطيع أن أرى ذلك بوضوح في نظرات الملك إلى تلك العاهرة الصغيرة.
-        حرامٌ عليك.

-        لا بد أن نبدأ في البناء في أقرب فرصة، وإلا سوف يسحب الحاجزون المقدمات التي دفعوها. ثم يجب أن تعرف أن منتجعنا ليس هو الوحيد الآن على بحيرة طبرية.
-        معك حقٌّ لكن أسعار الحديد الآن مرتفعة.
-        فلنكلم السيد عزائيل.
-        لقد حصلت على طريقة للوصول لرئيس إدارة كبار الممولين بالضرائب. ها هي المعلومات، لكن لا تعطِها لأحد.
-        رائعٌ يا عزيزي، لا أدري كيف أشكرك.

-        لم أكُن أتَوَقَّع أن يأتي سفير الإمبراطور الجديد أوكتافيوس أغسطس من روما لحضور عيد ميلاد الملك.
-        لماذا لا تتوقع؟ لقد أصبَح هيرودس أنتيباس من المُقَرَّبين من الإمبراطور ومن أكبر رُعاة مصالح الإمبراطورية في الشرق، بعد أن تحول من مُعسكر مارك أنطونيو إلى معسكر الامبراطور الجديد خاصة بعد أن انتصر وأصبح هو القُطب الأوحد في هذا النظام العالمي الجديد.

كما هو الحال دائمًا في سهرات الشرق، يَبزُغُ الإيقاع الشرقي فجأةً من وَسطِ الأَنغام الغربية، فيتراجع الراقصون ليفسحوا منطقة الوسط، ويبدأون في التصفيق على الإيقاع الراقص. تهرع يُوَنا زوجة الملياردير الشاب عزائيل وهي صديقة لصيقة للأسرة المالكة، نحو سالومي تحاول جذبها لقاعة الرقص والأخيرة تتمنع بالرغم من كونها ترغب في ذلك بشدّة، لكن التَّمَنُّع هو في حد ذاته جزءٌ لا يتجَزأ من طقس الرقص الشرقي في الحفلات الاجتماعية. على العكس مما كان يبدو، كانت سالومي تنتظر هذه اللحظة وتَتَرَقَّبهَا منذ بداية الحفل لكي تظهر مهاراتها في الرقص والإغراء الجنسي معًا.

وبخبرةٍ، وبدون خجل المراهقات المعتاد، نَزَلت سالومي للحَلَبَة وهي تخطو خطوات قصيرة سريعة مثل الراقصات المحترفات ويداها تسبحان في الفضاء كبجعة مهاجرة من الغَرب البَارد إلى شمس الشرق الدافئة. وبدأت في التمايُلِ الرشيق مع الموسيقى. ثم بعد عدة دقائق تحول الإيقاع إلى القوة، واكتسب رقص سالومي طبيعةً شهوانيةً عنيفةً وبدَت حركاتها وكأنها قادمة من أعماق الجحيم، ولولا التقاليد اليهودية العريقة، لَتَخَيَّل الجميع أنها سوف تبدأ في خلع ملابسها قطعةً قطعةً.

بدأت الدماء تسخن في عروق الرجال الذين كادت وجوههم تتحول تدريجيًّا لتصبح وجوه ذئاب تتدلى منها الألسنة التي تقطر لعابًا. بطبيعة الحال كسياسيين ورجال أعمال، استطاعوا أن يخفوا كل انفعالاتهم خلف واجهة من الوقار والاتزان. ثم حاول واحدًا منهم أن يخرج ما في جوفه من نار، في أي صورة ممكنة فوقف وصاح بصوت فاق صوت الموسيقى والطبول الشرقية.

-        نَخبٌ في صِحةِ الملك، هيرودس أنتيباس المعظم، الحاكم المطلق للجليل، وصاحب الكلمة التي لا تُرَد والقرار الذي لا يُنقَض.
وَقَفَ الجَميع يشربون نخب الملك، وخَفَّفَت سالومي من رقصها إذ استشعرت أن الانتباه قد غاب عنها، محاولة أن تداري غضبها بالانهماك في الرقص.
أفرغ هيرودس الكأسَ في جَوفِهِ دَفعةً واحدةً، وأتبعها بكأسٍ أخرى، ثم كأس ثالثة، ثم رَفَعَ يَدَهُ مُهدئًا الموسيقى ثم قال: «لم أرَ في حياتي رقصًا كهذا يا ابنتنا العزيزة سالومي. أنتِ بحق بارعة. اطلبي ما تريدين فيكون لكِ، ولو إلى نصف مملكتي
سَادَ الصمتُ والوُجوم من هَول المفاجأة فالجميع يعرف أن كلمة الملك، حتى ولو كان مخمورًا، لا تُرَدُّ.
ماذا عسى سالومي أن تطلب ونصف المملكة قد جاء إلى أطراف أصابعها ممتطيًا شهوة رجل تخطى السبعين؟



ساد صَمتٌ لبضعة دقائق، ثم قَطَعَهُ صَوت سالومي...
-        أُريد هنا والآن على طبق... رأس يوحنا المعمدان.
سَادَ صَمتٌ مُطبَق.

كانت الكلمة كأنها شَلّالٌ من مياه باردة سَقَطَ على رؤوس الجميع فأفاقهم جميعًا من الخمر. سكتت الموسيقى ووقفت سالومي بعد أن قالت الكلمة وهي تقطر عرقًا من الرقص العنيف وعلى عينيها نظرات التصميم والانتقام وكأنها رياضيٌ قد أحَرَزَ لِتَوِّهِ هَدفًا في آخر دقيقة من المباراة، ويقف الآن في منتصف ملعب الخصم، وقد أصاب كل المشاهدين الوجوم. أما مدرِّبتها هيروديا، فكانت تقف على الخطوط فخورةً بابنتها التي أحرزت الكأس الذي كانتا تُخطِّطان له.
دارت أفكار سالومي في لحظات الصمت:
... سوف أحصل أخيرًا على رأسِهِ.
... رأسَهُ تِلكَ التي أشاح بها بعيدًا عني بعد أن كشفت له صدري الفاتن الذي تَتَعَلَّق به عيون الرجال من أصحاب الملايين.
... هذا الجِلفِ القَذَر. آكل الجراد.
سَرَت في جَسَدِها رَعشةُ خوفٍ من الأفكار التي تتردد بداخلها، ثم غالبت الأفكار بفكرة جديدة ساخنة من أفكار الانتقام وكأنها تُلقي بمزيد من الحَطب على النار حتى لا تَخفُت.

أما هيرودس فنادى كبير ضباطه وقال كلمات أرادها أن تكون قليلة ومقتضبة بقدر الإمكان ليعود بسرعة إلى نفسه ويحاول استيعاب الموقف: « ليكن لها ما طلبت.»
خَرَجَ الضابط. وبعد عدة دقائق سَمَعَ الحاضرون حوافر جياد الفرقة الصغيرة وهي تبتعد عن القصر في اتجاه قلعة ميكاريوس التي لن تعود منها قبل الصباح برأس المعمدان.

جَلَس هيرودس على درجة السلم الرخامية التي تفصل بين المنصة التي عليها كرسي عرشه وباقي البلاط، وقد وضع رأسه بين كَفَّية واستند بكوعيه على ركبتيه مغمضًا عينيه ومحاولًا أن يستوعب ما حدث؛ فهيرودس بالرغم من كُلِّ العداء للمعمدان، كان جزءٌ منه لا يزال يهابه ويحترم تَرَفُّعَهُ عن الدنيا.


* * * *

وصلت فرقة الإعدام المتَّشحة بالسواد إلى قرية مِكاوَر وهي غارقة في ظلام ليلٍ صامتٍ إلا من حوافر فرسان الموت. انفتح باب القلعة العالي الصَدِئ. أدرَكَ الحُرّاس الأمر بحدسهم، فهم يعملون في الجهاز الأمني لدولةٍ لها سنواتٌ طويلةٌ تَحتَ قَوانينِ القَهر وقَمع الحُرِّيات. الكثيرون اختفوا في ظروفٍ غامضةٍ من الغَيورينَ المُتَشَدِّدين دينيًّا، إلى السياسيين وأصحاب الرأي، ولم يعرف أحد أين ذهبوا تحت جناح الظلام والظُلم. نظامٌ أمنيٌّ عاتٍ يعتمد على قدرة هذه الأمة الرهيبة على النسيان، وذلك بمساعدة منظومات مُصمَّمة بدقة لإغراق الشعب في همومه اليومية المصطنعة، بينما تحت جناح الجهل والتغييب يتم إحكام القبضة الأمنية على شعب لم يَعُد يقوى حتى على الغضب.

هوى السيف الكبير المُخصَّص لهذه العمليات فأصدر صوتًا مكتومًا امتزج فيه صوت اقتطاع اللحم وانفجار الدم مع انفصال الفقرات العنقية. طارت رأس المعمدان...

نَعَقَ غُرابٌ نعيقًا طويلًا على أعلى بُرج قلعة مكاور.

صوتٌ سُمِعَ من جديدٍ في الرامة. راحيل تبكي على وَلَدِها الحبيب.
مَن لَم يقتُلَهُ هيرودُسَ الكبير في المَهد، قَتَلَهُ هيرودس الصغير في ريعان الشباب.
ومن «الكبير» إلى «الصغير» يرتل الشعبُ تراتيله الحزينة.

وصلت رأس المعمدان إلى مدينة طبرية مع أول خيوط الفجر. كان هيرودس لم يبرح مكانه على درجة السلم الرخامية البارِدة بينما كان كبار رجال الدولة قد لملموا ثيابَهم الحريرية الثمينة وهم يترَنَّحون قليلًا من تأثير الشراب حتى بعد أن أفاقهم ما قد حدث. ركبوا عرباتهم الفخمة التي تَجُرُّها الخيول السوداء المُطهَمة واختفوا في طُرِقات طبرية التي بدأ يُنيرها ضوء الشمس.

دخل قائد فرقة الإعدام وصوت حذائه العَسكَرِيّ يرن في أرجاء البلاط الخالي إلا من الملك الحزين، وهو يحمل طبقًا فضيًّا أعطته إياه هيروديا في طريق خروجه ليُحضِرَ عَليهِ رأسَ المَعمدان. قامت سالومي التي كانت بدورها جالسة على الأرض بعيدًا عن الملك وقد وضعت على جسدها شبه العاري شالًا من القطيفة القرمزية وهرعت نحو القائد. نظر إليها القائد بعينين كنافذتيّ بيتٍ هَجَرَهُ السُكَّانُ مُنذُ زَمَنٍ بعيدٍ، ولم يعُد فِيه إلّا خواءٌ لا نهائيٌّ.  أمّا عَينا سالومي فقد كانتا مثل كأسين من النبيذ الأحمر، وعلى وجنتيها خطان من الدموع التي جففتها رياح الصباح الباردة.

-        رأس السجين يوحنا المعمدان يا سيدتي.

حَمَلَت سَالومي الطَبَقَ بيَديها الرقيقتين وقد بدأت الدموع الساخنة في النزول على نفس المسار الذي سارت فيه طوال الليل ثم تَوَقفت بعد أن غلبها الصمت والوجوم، فعاد إلى الخَطَّينِ لَمَعَانَهُما في ضَوءِ شَمسِ الصَباح التي بَدَأَت تَدخُلُ من نوافذ القصر ذات الزجاج المُعشَّق بألوان مختلفة. سَارَت بالطَبَقِ إلى أُمِّها. أما هيرودس فلم يحرك إلا رأسه من بين ركبتيه ليتابع المشهد، وكأن قدرته على الكلام والحركة قد شُلَّتا تمامًا.

جَاءَت سالومي برأس المعمدان إلى أمِّهَا ولم تنطق أيٌّ منهما بكلمة، فاستدارات هيروديا وذهبت إلى غرفتها بينما أخذت سالومي رأس المعمدان إلى غرفتها ووضعتها أمامها على منضدة. وجلست أمامه مُحَدِّقَةً في العينين المقفلتين بهدوءٍ مهيب، والشعر الأسود الناعم منسدل على جَبهَتِهِ السمراء.

-        أخيرًا حصلت عليك.  أخيرًا أنت مِلكِي.
ثم قامت وهي تجهش بالبكاء وتحتضن الرأس وتوسعه تقبيلًا: «سامِحني. سامِحني. لَم أكُن أدري ما أفعل. عُد إلى الحياة.. أَوَلستَ قديسًا؟ أَوَلستَ نبيًّا؟ قُم من الأموات. قُم وتزوجني وعش معي إلى آخر العمر. سوف أصيرَ لَكَ وَحدَكَ. لَكِنَّكَ حَتّى إذا عُدتَ للحياة فلن تتزوج إنسانةً مثلي. لكنني أريدك. أنتَ الوحيد الذي لم تشتهِيني. أمي كانت تريد قَتلَك أما أنا فكنت أريدك. كنت أريد أن أنتقم منك.  نعم.  ولكني كنت أيضًا أريد أن أحصل عليك، وها أنت الآن معي. في غرفة نومي. لا تصمُت هكذا تحدث معي... تكلَّم... تَكَلَّم.»  

عَلَت صرخاتُ سالومي في القصر الذي بدا وكأنه قصر مهجور تُصَفِّرُ فيه رياح الشتاءِ في نَهارٍ أكثرُ وَحشةً مِن الليل البَهيم،  بعد أن كان منذ ساعات يَرفُلُ في ليلٍ كَأنَّهُ الصباح.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق