السبت، 28 مارس 2015


26

الطهارة

لم يَعُد مُمكِنًا أن تبقى إستير في كفر ناحوم بعد أن اكتَشَفَ بنيامينُ وُجُودَها هناك، فقَرَّرت أن تنتقل للعَيشِ في أورشليم. فحتى إن عَرِف بنيامين أنها في أورشليم، فسيصعُبُ عليه أن يَجِدَها في هذه المدينة الكبيرة المزدحمة. بالطبع لم تُفَكِّر إستير في ارتياد الطريق الصحراوي الطويل، وقررت أن تذهب من خِلالِ السامِرة. وحيث لم يكُن مُمكِنًا أن تسير بمفردها هي وطفلتاها في الطُّرق، التحقت بقافلة كانت نازلةً عبر طريق البحر من كفر ناحوم إلى طبرية حيث قضت هناك بعض الوقت تعمل في إحدى الحاناتِ.
-        أنتِ جديدةٌ هُنا فأنا لم أرَكِ من قبل.
-        نعم يا سيِّدي، أنا من الشمال. الحقيقة أنا مُسافرة.
-        إلى أين أنتِ ذاهبة؟
-        إلى أورشليم.
ضَحَكَ أليفاز ذو الجَسَد الضخم ضحكةً عاليةً قبل أن يرشف الرشفة الأخيرة من كَأسِهِ، ثم وَضَعَ الكأسَ وكأن ذراعَه سقطت بكل ثِقلها مرةً واحدةً فارتطم الكأسُ النحاسيُّ بقوة على المنضدة فكاد يكسرها. استمر يضحك وهو يشير لإستير أن تَصُبَّ المزيد.
-        هل أنتِ ذاهبة للحَجِّ إلى الهيكل؟
-        لا يا سيِّدي، وهل مثلي تَدخُلُ الهَيكل؟
-        رحلةٌ طويلة ومُكَلِّفة. ما قولكِ أن تنضمي إلى قافلتي وتكونين خليلتي في الطريق؟
-        لا بأس يا سيِّدي.
-        سنتحرك غدًا بعد أن تأتي القافلة التي سوف تأخذ الحرير وتذهب به إلى بتوليماوس، حيث ستحمله السفينة الذاهبة إلى ترشيش. أما نحن فسنواصل رحلتنا جنوبًا. سنَتَوقَّف مرةً واحدةً في نايين لنتزوَّد بالمؤَن ونسقي الجِمال، ثم نواصل حتى أريحا.
-        هذه مسافةٌ كبيرةٌ سيدي، ألا تريد أن تتوقف في السامرة أنت أيضًا مثل باقي اليهود؟
ضَحِكَ أليفاز ضحكةً أخرى ولكن ليست كالأولى.  
-        لَقَد كُنتُ أَتَوَقَّفُ في سوخار وأقضي هناك أيامًا. لكن الآن لا أريد أن أرى السامرة مُطلقًا. ولماذا أتوقف وأنتِ معي؟
لم تفهم إستير ماذا يعني؟ وماَلَها هِيَ ومالتَوَقُّفِهِ في سوخار من عدمه؟ لم تَهتَم كثيرًا بالتفكير في هذا فلا يعنيها الآن إلا أن تبتعد بنفسها عن المشكلات وعن بنيامين الذي رأت في عينيه الشرَّ يوم رآها عند البحر في كفر ناحوم. وكعادتها فَصَلت عقلها وقلبها عن جسدها الذي أعطته لأليفاز كما تعوَّدت أن تعطيه لكل من يريد، فهي لا تشعر أَنَّهُ جَسَدَها على أَيّ حال.


 ... إستير تعالي هنا.
... نعم يا أمي.
... ألم أقل لكِ أن تُنظفي أخاكِ الصغير؟ ها هو يبكي والبلل يُغرِقه.
... لقد كُنت أمام الفرن يا أمي.
... الفُرن يا عاهرة؟
... كفى يا أمي كفى. سامحيني يا أمي. سأنظفه. لا تضربيني أرجوكِ.
... تُراكِ حَرَقتِ الخُبزَتَيْن، ولم يَعُد لدينا دقيق.
... لا يا أمي لم أحرقه... لم أحرقه.
..  هيا اذهبي نظفي أخاكِ
.. حاضر يا أمِّي.
لم تدرِ إستير لماذا جاءَتها هَذهِ الذكريات الآن وهي على هَودَج الجمل الذي خَصَّصَه أليفاز لها، رُبَّما لأنها رأت إحدى النسوة في القافلة تضرب طفلتها.


                                           ****

-        يا مُعَلِّم نحن جئنا من أورشليم لعقد حلقةٍ دِراسِيَّةِ هنا في مَجمع كفرناحوم ونريد أن نسألك سؤالًا.
-        تفضلوا.
-        سمِعنا من بعض زملائنا الفريسيين هنا في كفر ناحوم أن تلامِيذَكَ يخالفون تقاليد الشيوخ فلا يغسلون أياديهم قبل أن يأكلوا، وأنت لم تُوَبِّخَهُم.
-        ولماذا تخالفون أنتم وصية الله من أجل المحافظة على تقاليدكم؟ فقد أوصى الله قائلًا: « أكرم أباك وأمك، ومن أهان أَباهُ أو أُمَّهُ، فليكُن الموت عِقابًا له.» ولكنكم أنتم تقولون: أن من قال لأبيه أو أمَّهُ: « إن ما أعولك به قد قَدَّمتُهُ قُربانًا للهيكل.» فهو في حِلٍّ من إكرام أبيه وأمِّه. حسنًا تنبأ عنكم إشعياء النبيِّ.
-        ماذا تقصد؟
-        تنبأ عنكم إشعياء النبي قائلًا: «هذا الشعب يُكرِمُني بشفتيه، أمَّا قلبُهُ فمُبتَعِدٌ عَنِّي جدًّا. إنما باطلًا يعبدونني وهم يُعَلِّمون تعاليم ليست إلا وصايا الناس.»
-        أنت هكذا تُهينُنا.  
التفت يسوعُ عن الفريسيين ونظر إلى الجمع الذين كانوا في المَجمَع.
-        ليس ما يدخل الفَمَ يُنَجِّسُ الإنسانَ بل الذي يخرج من الفم هو الذي يُنَجِّسُه؛ لأن ما يخرج من الفَم قادمٌ من القلب، ومن القلب تخرج الأفكار التي تتحول إلى أفعال خاطئة،. القتلُ فِكرة، والزنَى فِكرة. الفِسقُ والسَرِقَة وشهادة الزور، كُلُّها أفكار تخرج من قلب الإنسان. الخطية في القلب وليست في الجسد.
-        ماذا تقصد يا مُعَلِّم؟
-        أقصد أن الجَسَد لا يُطَهَّر من الذنوب بجَلده أو قطع أجزاء منه أو رجمه. وإنما يُطَهَّر بتطهير القلب والأفكار
-        لكن هذه العقوبات موجودة في الشريعة.
-        نعم، كانت موجودة في عصرٍ لم يَكُن ممكنًا فيه أن يحل روحُ الله في قلوب البشر ليُطَهِّرَها، فكانت هذه العقوبات لتطهير الجماعة بانتزاع مرتكب الشرِّ من الجماعة دون علاجه. لقد كانت مثل عزل المريض المُصاب بمرض مُعدٍ عندما لم يكُن هناك دواء لعلاجه. أما الآن فمملكة الله الحقيقية أصبحت قريبةً من الجميع وقادرةً على تطهير الجميع.
-        وما عِلاقة قُرب مملكة الله بهذا يا مُعَلِّم؟
-        مملكة الله اقتربت فأصبح من الممكن بالإيمان أن يحلَّ الروحُ القدس نفسه؛ روح الله، في قلب كل إنسان ويُغَيِّره. فلا يسرق السارقُ فيما بعد، بل يتعب عاملًا الصالح بيديه. لذا فهو يحتاج ليديه لكي يعمل. لقد أصبح الدواء موجودًا فلا ينبغي أن يُقاوَم المَرَض بقَتل المريض أو عزله، أو عقابه.
-        هذا تعليمٌ جديد علينا، كيف يُمكن أن نُقنِع به أهلنا؟
-        أنتم لستم تُقنعون، أنتم تُعلنون بشارة الملكوت وتعيشونها، وروح الله نفسه هو الذي يُقنع. وكل إنسان يسمع صوت الله ويُصِمُّ أذنيه، سيتحمَّل مسؤولية ذلك. النور الحقيقي عندما يأتي إلى العالم، سيجتذب إليه من يُحِبُّون النور، وسَيَنفُرُ منه من اعتادوا الحياة في الظلمة.

كان من بين الفريسيين الذين اجتمعوا في هذه الحلقة الدِراسيَّة التي ضمت كتبة وفرِّيسيين من أورشليم، سمعان  وإسحاق وكان معهما أيضًا بنيامين الذي ظل في كفر ناحوم و تَوَطَّدَت علاقته بسمعان وإسحاق الفَريسيَين منذ أن جاء مُرسَلًا من يوحنا إلى يسوع.

-        لا يُمكِن السكوت عن يسوع هذا بعد اليوم.
-        مثل هذا لا يُمكن أن يعيش إنه يُضِلُّ الشعب.
-        أنت تعرف يا إسحاق أننا لا نستطيع أن نَحكُم عليه بشيءٍ؛ فحدود الشريعة مُعَطَّلة في ظل هذا الحكم الروماني العلماني.
-        أعلم، وهذا سبب كل ما نحن فيه من مصائب.
-        لكننا لن نعدم طريقةً بإذن الله.
أخذ إسحاق بنيامين وانتحى به جانبًا:
-        عزيزي بنيامين، اسمح لي سوف أُكَلِّمكَ في أمرٍ شخصيٍّ أعلم أنك لا تُحِبُّ الكلام فيه، لكنني أفعل ذلك من مُنطَلَق حِرصي عليك. حِرصي على شَرعِ الله في المقام الأول بالطبع، ثم حِرصي عليك أنت أيضًا.
-        ماذا يا أخي إسحاق؟
-        لم يكن الإخوة يريدون مفاتحتك في الأمر، لكن لا يخفى عليك أن أمرها... أقصد..
-        أمرها؟ أمر من؟
-        أختك.
-        أختي؟
-        نعم، الناس كلها في الجليل تَعلَم.
صَمَت بنيامين وأطرَق برأسه.
-        لقد تَرَكَت كفر ناحوم في القافلة النازلة جنوبًا. أغلب الظن أنها في طريقها لأورشليم لتختفي في الزحام بعدما عَلِمَت أنك هنا في كفر ناحوم.
-        وهل تظن أنها ستختفي عني؟ سوف أجدها وأغسل عاري بدمها هذه الفاجرة.
-        ونحن نريد أن نساعدك.
-        كيف يا إسحاق؟
-        هناك فِكرة فَكَّرنا فيها مع الإخوة القادمين من أورشليم، سوف نُخبِرك بها في وقتها. ربما نحاول تطبيقها في عيد المَظَال القادم. على أي حال سوف أطلب منهم أن يبحثوا عنها في أورشليم وبمجرد أن يجدوها، يُرسِلوا لنا رسالة.
-        سوف تستغرق الرسالة أيامًا.
-        لا. لقد أدخَلَ الرومان نظامًا بريديًّا جديدًا يستخدم الخيول السريعة ويُمكن أن تصلنا رسالة من أورشليم في يومٍ أو اثنين على الأكثر.
-        لكن هذا مُكَلِّفٌ بالتأكيد.
-        لا تشغل بالك بهذه الأمور سوف نتكفَّل بكل شيء.
-        حسنًا يا أخي. بارك الله فيكم.
****
بعد هذه الواقعة، أراد يسوع أن يأخذ تلاميذه في إجازةٍ لبعضة أيام في منطقة بعيدة، فقَرَّر أن يذهب إلى منطقتي صور وصيدا، وهو لا يُريد لأحدٍ أن يعرف أنه موجودٌ في هذا المكان لئلا تجتمع الجموع كالعادة.

-        لماذا يا مُعَلِّم تريد أن تذهب إلى هذه المناطق النَجِسَة، وتختلط بسُكَّانها الأُمَم الكِلاب؟ ألا يكفي السامريون؟
-        ألم تفهم يا يهوذا ما قُلته لتوي؟
-        ماذا يا مُعَلِّم؟
-        قدُ قُلتُ إن الطهارة ليست في الحيوانات الطاهرة وغير الطاهرة، ولا في غسل الجسد قبل الصلاة أو الأكل، وإنما في القلب. أوَ مازلتَ أنت تُقَسِّمُ البشر إلى أطهار وأنجاس؟
-        الناموس يُعَلِّم بوضوح أن هناك حيوانات طاهرة وأخرى نجسة.
-        لم تكن هذه الوصايا إلا وسائل للتوضيح. صوراً مادية لحقيقة روحية.
-        أي حقيقة؟
-        حقيقة مملكة الله يا يهوذا. أنتم ترون الآن ما تنَبَّأ عنه الأنبياءُ في القديم. لقد كان العهدُ القديم ظلالًا ونُبوَّات، رموزًا وإشارات. أما الآن فأنتم ترون الحقيقة. لقد أراد العهدُ القديمُ ترسيخَ مفهوم طهارة القلب ونجاسته باستخدام الحيوانات. أما الحقيقة التي اشتهى الأنبياءُ والأطهارُ أن يرونها ولم يرونها، وأنتم الآن ترونها، فهي أن الطهارة هي طهارة القلب بالإيمان، والنجاسة هي التَمَرُّد على الله والحقد على البشر.
-        هل هذا يلغي الناموس يا مُعلِّم؟ إن ما تقوله خطير.
-        لا يا يهوذا لا يلغي الناموس، وإنما يُحَقِّقه ويُتَمِّمَ مَقَاصِدَهُ الأعمق.

* * **

صور، مدينة أُمَمِيَّة تقع في فينقية وتشترك في الحدود الشمالية الغربية مع الجليل. كانت هذه المدينة مع صيداء تمثِّلان أهميَّةً اقتصاديةً كبيرةً، كما أنهما كانتا تُمَثِّلان مصدرًا للإغواء الثقافي والبِدَع الدينية الوثنية التي كانت منتشرة في منطقة فلسطين في ذلك الوقت. فمنذ عهد الملكة إيزابل زوجة أخآب الملك، كان التأثير الهيليني (اليوناني) بالِغُ الوضوح في تلك المُدُن، كما كان تعقيدُ الثقافةِ اليونانية يظهر في عُملاتها وطُرُزِها المعمارية. كانت هاتان المدينتان تفتخران بأنهما مهدٌ الوثنية الكنعانية أيضًا، وليس فقط اليونانية، إذا انتشرت في أرجائهما مقابر ملوكٍ قدماء ومعابد عشتار وغيرها من الآلهة الوثنية الأخرى.

-        ينقبض قلبي يا يعقوب كلما أرى هذه البنايات الوثنية.
-        وأنا أيضًا يا يوحَنَّا، تُرى لماذا جاء بنا المُعَلِّم إلى هنا؟ كما أنه سَفرٌ طويلٌ.
-        أظنَّ أن المُعَلِّم يريد أن يتجنب مُدُن الجليل وخاصةً طبرية وسيفوريس.
-        لماذا يا يوحنا؟
-        منذ إطعام الخمسة آلاف وكثيرون من أهل تلك البلاد يريدون أن يختطفوا يسوع ويجعلوه ملكًا ويبدأوا ثورةً على هيرودس أنتيباس، والغيورون يؤجِّجون غضب الناس من خلف الستار، مُستَغلِّين مقتل المعمدان لإشعال الثورة.
-        وما هي نواياهُم في رأيك؟
-        هم يرفعون شعارات الخبز والحرية والعدالة، وهي أمور بالطَّبع غائبة في ظل حُكم هيرودس العجوز والطُّغمة الفاسدة التي حوله، لكن لهم أهدافًا أخرى لا يُعلِنوها.
-        ما هي؟
-        هُم يريدون تحقيق مملكة الله بأياديهم وتحرير أورشليم القُدس واليهودية كُلِّها من حُكم الرومان وتطبيق حدود الشريعة كاملة. لكنهم بالطبع يحرِصون ألَّا يتكلَّموا عن هذه الأشياء الآن ويكتفون بتحريك الشباب الباحثين عن الحُرية والعدالة الاجتماعية، وخاصَّة المُتَعَلِّمين المُحتكين بالثقافة اليونانية في الجليل، خاصةً وأنت تعرف قُرب الجليل من صور وصيدا وبتولمايس.
-        نعم، خاصةً ونظام البريد السريع الآن والطُّرٌق الآمنة قد سَهَّلَت وصول الكُتُب والمنشورات اليونانية إلى طبرية وسيفوريس وغيرها من مُدُن الجليل. صحيح لا يصل منها الكثير إلى كفر ناحوم المُتَدَيِّنة بطبعها، لكن حتى شباب كفر ناحوم قد تأثر بهذه الكتابات.
-        وهل يُدرِكُ هيرودس ذلك؟
-        لقد هَدَّهُ تَقَدُّمُ السِنِّ والمرضُ، وصارت هيروديا مُسيطرةً عليه تمامًا. وبعد قتل المعمدان، أصابه اكتئابٌ شديدٌ جعله لُعبةً في يدها بشكلٍ شبه تام.












27

قَيصريَّة فيلبس

دَخَلَ يسوعُ وتلاميذه ليبيتوا في بيتٍ متواضِعٍ استجأروه وهم يريدون أن يختفوا عن الأنظار لعدة أيام. لكن صيتَ يسوع كان قد وصل إلى هذه الأماكن أيضًا. وذات يومٍ كان يسوع وتلاميذه خارجين معًا لصلاة الفَجر في الخلاء، حيث لم يكن هناك مجمع يهودي في صور، قابلتهم امرأة كنعانية فينيقيَّة.
-        أنت يسوع الناصري. أنا أعرفك.
وارتمت المرأة على قدَميِّ يسوع باكيةً: « أرجوك يابن داود ارحمني، ابنتي مجنونة جدًّا، بها روحٌ شرير يسكُنُها ويُعَذِّبها  
صَمَتَ يسوعُ ولم يُجِبها بكلمةٍ وأشار لتلاميذه أن يواصلوا سيرهم إلى الحقول خارج المدينة. لكن المرأة لم تسكت بل ظلت تمشي وراءهم تبكي وتُصرخ وترفع صوتها أكثر فأكثر.
-        يا مُعَلِّم اصرفها عنَّا، فهي تصرخ وراءنا وسوف يسمعها الناس ويجتمعون حولنا ويكتشفون وجودنا هنا.
-        ما أُرسِلت إلا لخراف بيت إسرائيل الضالة.
تًوَقَّف يسوع، فتَوَقَّفَ تلاميذه حوله، فهرعت المرأة وسجدت له قائلة: « أعِنِّي يا سيد
-        ليس من الصواب أن يؤخذَ خُبزُ البنين ويُطرَحُ للكلاب. قال يسوع هذا وهو ينظر ليهوذا الإسخريوطي نظرةً ذات معنى.
-        صحيحٌ يا سَيِّد. ولكِنَ جراء الكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أصحابها.
نظر يسوع إلى يهوذا مُجَدَّدًا، ثم نظر للمرأة قائلًا: «أيتها المرأةُ عظيم إيمانُكِ، فليكن لك ما تطلبين.»
قامت المرأة وجَفَّفت دموعها.
-        أشكرك يا سيدي، أشكرك. أشكركم يا إخوتي، بارك الله فيكم جميعًا. بارك الله فيكم وسَدَّد خُطاكُم.
ثم هَمَّت المرأة بالمسير إلى حال سبيلها، فناداها توما: يبدو أنكِ مُتأكدة أن ابنتكِ قد شُفِيَت بالفعل؟ من أين لكِ هذا التَأَكُّد؟
-        عندما يقول السيد كلمة، فهي تكون.
عندئذٍ نظر يسوع إلى توما وإلى يهوذا وجال ببصره وسط التلاميذ كُلِّهُم وقال: «هَيَّا يا رفاق ننطلق من ههنا.»

*  *  *  *
سَارَ يسوعُ وتلاميذه من صور إلى صيدا وهي مسافة تصل لنحو أربعين كيلومترًا، ومن هُناك عادوا إلى الجليل. وفي طريقهم إلى الجليل أخذوا دورةً واسعة لكي لا يدخلوا قُرى الجليل بل ساروا في البرية بحذاء جبل حرمون، ثم اتَّجهوا شرقًا واستداروا جنوبًا عبر العشر المدن ثم إلى كورة الجدريين، حيث كان يسوع قد شفى المجنون. وعندما وصل إلى كورة الجدريين، جاءوا إليه بشخصٍ أَصَمّ أخرس فشفاه، وأوصاهُم يسوع ألا يقولوا لأحد. لكنهم لم يستطيعوا السُّكوت فكان كلما يطلب منهم ألا يُعلِنوا، يُعلنون أكثر، فاجتمع حوله جمعٌ كبير صار يُعَلِّمهم لثلاثة أيام، فأطعمهم، ثم أَبحَرَ هو وتلاميذه شمالًا إلى نواحي دَلمانوثة بالقرب من بيت صيدا.

-        عجيبٌ أن يسوع صنع مُعجزة إطعام الجموع مرةً أخرى.
-        ما العجيب في ذلك يا متى؟
-        أقصد أن أحد أسباب ما نحن فيه، هو ما حدث بعد إطعامه للخمسة آلاف، لذلك رفض يسوع أن يُطعم الجموع القادمين من طبرية، ثم ها هو الآن يُطعِم أربعة آلاف بسبعة أرغفة وقليل من صِغار السمك. إنها مُعجِزة لا تَقِلُّ عن الأولى وسوف يذيع خبرها أيضًا في كل المنطقة.
-        أما عن أهل طبرية، فلم يكن رفض يسوع إطعامهم حتى لا يذيع خبره. السبب هو أنهم كانوا آتين من أجل الطعام، وربما من أجل نواياهم السياسية أيضًا. أما الجموع هنا في جِدرة، فمكثوا معنا ثلاثة أيام يستمعون للتعليم ويستشفون من أمراضِهم، ولم يأتوا للطعام، لذلك أطعمَهم يسوع.
-        عجيبٌ المُعلِّم. لا يُمكن أبدًا تَوَقُّع ما يفعل. يُطعِم اليهودَ، ثم يرفض إطعامَهم. ثم يذهب ليُطعِم أهل الجدريين وهم الذين نَعتَبِرُهم أنجاس يربُّون الخنازير ويأكلونها.
-        ما يُدهِشني أنا بالذات، أنه عندما أتى بعض الفريسيين يطلبون منه آيةً من السماء لم يُعطِهم.
-        لماذا ينبغي أن تكون الآية من السماء؟ ألا تكفي آية إخراج الخبز من الأرض؟
-        الغريب أن يسوع لا يصنع آياتٍ للذين يطلبون الآيات، ويصنعها لمن لا يطلبون.
-        هو يبحث عن الإيمان يا يعقوب. هل رأيت كيف كانت نَظراتُهُ للمَرأةِ الفينيقية ولَنا وقتها؟
-        نعم تهلَّلَ يسوعُ وهو يقول لها: «يا امرأة، عظيمٌ إيمانكِ».
-        ذَكَّرتني هذه المرأة بيوليوس كاسيوس قائد المئة في كفرناحوم.
-        يبدو في الظاهر أن يسوع جاء ليختبئ من غضب الفريسيين أو ليختفي من الجليليين الذين يريدون أن يجعلوه قائدًا للثورة، لكنني أعتقد أنه جاء لهدفٍ آخر.
-        ما هو يا يوحنا؟
-        لقد أراد يسوع أن يُعلِن، على الأقل لنا، كيف أنه، وإن كان مرسلًا لخراف بيت إسرائيل الضالة، إلا أنه لم يمنع أيضًا الأممَ أن يُقبِلوا إليه وأن يشفيهم.
-        وليس ذلك فقط، ولكن لكي يُرينا أن الإيمان يمكن أن يكون أيضًا في الأمم من غير اليهود.
هتف يهوذا بن حلفي: تخيَّلوا، لم نأخذ معنا خُبزًا يكفي.
فقال نثنائيل مُتَعَجِّبًا: بعد كل هذا الخبز الذي كان بين أيادينا؟
فقال يسوع، الذي كان يجلس في مكانه المُفَضَّل في آخر السفينة: «احذروا من خمير الفريسيين، وخمير هيرودس»

-        إذًا كانَ مِنَ الأفضلِ أن نأتي بخبزَنا مَعَنا لكيلا نأخذ من أحد أليس كذلك يا برثلماوس؟
-        لقد كانت سلال الخبز الفائض كثيرةً. لماذا لم تُحضر منها لكي نأخذ معنا في السفينة؟
-        وهل أنا المسؤول عن هذا؟
-        أنت يا يهوذا الذي وضعت السلال كُلَّها معًا بعد أن جمعناها من الآكلين، فَتَصوَّرت أنك ستأخذ منها لنا في طريق العودة.
-        لقد طَلَبَ الناسُ مني أن يأخذوا بعض الخبز الذي تبقَّى؛ فقد جاءوا من أماكن بعيدة.
-        لا بأس أن تعطي لهم، لكن لماذا لم تُبقِ البعض لنا نحن أيضًا.
-        ظننتُ أنكم أخذتم، فأعطيتُهم كل ما كان أمامي.
-        ظننت؟ لقد كان هذا كُل شيء أيها الذكي.
-        حذاري من إهانتي فأنت تعرف غضبي جَيِّدًا.
لم يشَأ يسوع أن يتدخل في النقاش الدائر حتى انتهى تمامًا وجلس كل واحد منهم في ناحية من السفينة صامتًا عابسًا.
عندئذٍ قال يسوع: لماذا يُجادِل بعضكم بعضًا هكذا؟ إلى متى ستظلون على عدم الإيمان هذا؟ ألا تُدرِكون بعد ولا تفهَمون؟ ألم يُشبِع الله الآلاف أمامكم؟ هل يعجز الله عن أن يُشبِعنا؟ عِندما قلت لكم أن تحذروا من خمير الفريسيين وهيرودس، لم أكن أتكلم عن الخُبز بل عن التعليم. فالتعليم الفاسد مثل الخمير، إذا تُرِكَ يُخَمِّر العجينَ كُلَّه ولا يمكن وقتها فصل الخمير عن العجين.
قام يوحنا واقترب من يسوع في مؤخرة السفينة، وسأله: «وما هو بالتحديد تعليم الفريسيين الذي تُحَذِّرنا منه؟» قال يسوع: «هل تذكرون أنني في موعظة الجبل قُلتُ لكم إنه إن لم يَزِد بِرُّكم عن الكتبة والفريسيين، فلن تدخلوا ملكوت السموات؟»  
أجاب بطرس: «نعم نذكر يا مُعلِّم، وماذا تقصد بقولك «يَزِد»؟» أجاب يسوع: «لم أقصد الذهاب إلى حدٍ بعيدٍ في التَشّدُّد، وإنما الذهاب إلى ما هو أعمق في داخل القلب. برُّ الفريسيين هو برُّ الفعل الظاهري، أما برُّ الملكوت فهو برُّ تغيير القلب من الداخل. ومن الداخل، من القلب المُتَغَيِّر، ينبُع كل برٍّ بشكلٍ طبيعي ويكاد يكون تلقائيًّا.»
صمت التلاميذُ، وأخذوا الكلامَ في قلوبِهم يتفكَّرون فيه بينما كانت السفينة تَشُقُّ بِهم مياهَ بحر الجليل الدافئة.

رست السفينة عند بيت صيدا وسرعان ما تجمع الناس وأتوا إليه بشابٍّ أعمى وتوسَّلوا إلى يسوع لكي يضع يدَه عليه فشفاه تدريجيًّا وأوصاه أن يعود إلى بيته مباشرةً وألا يقول لأحد.
-        يا مُعلِّم، هل نعود لكفرناحوم؟
-        لا بل هيا بنا شمالًا، ينبغي أن نبتعد عن كفرناحوم بضعة أيام حتى يهدأ الفريسيون؛ فهم في حالة ثورة الآن ولا أريد أن تحدث أشياء ليست في وقتها.

*****




سُمِّيَت «قيصرية فيلبس» لتمييزها عن مدينة قيصرية المشهورة التي شيَّدها هيرودسُ الكبير على ساحل البحر المتوسط. أما هذه المدينة، فقد أعاد فيلبُّس ابن هيرودس الكبير بناءها عند سفح جبل حرمون بالقرب من مرتفعات الجولان، وكانت هذه المدينة تُسمَّى سابقًا «بانياس» تكريمًا للإله اليوناني «بان» الذي يقع هيكلُه هناك، لذلك كانت المدينة ذات طابعٍ وثنيٍّ إلى حدٍّ كبير. وتقع المدينة على بُعد نحو عشرين ميلًا شمالي بحر الجليل، وهي جميلة الموقع جدًّا على هضبة مثلثة، ارتفاعها أكثر من ألف قدم فوق سطح البحر، يفصلها عن جبل حرمون، وادي خشبة الذي به مياه غزيرة وحقول خصيبة وغابات كثيفة جميلة، وكانت المدينة القديمة محاطةً بسورٍ عليه أبراج ضخمة وخندق من جهة الشرق.

وصل يسوعُ وتلاميذُه إلى نواحي قيصرية فيلبُّس ولم يدخلوها بل توقَّفوا ليستريحوا قليلًا حول نبع «بانياس» الواقع بالقُرب من طريق البحر. أشار يسوع للطريق وقال لنثنائيل: «هل تعرف أين في العهد القديم، وَرَدَ ذِكر هذا الطريق يا نثنائيل؟»
-        أظُنُّ في نبوة إشعياء يا مُعَلِّم.
-        نعم، بالصواب أجبت.
-        «ولكن لا يكونُ ظلامٌ على التي عليها ضيق، كما أهان الزمان الأول أرض زبولون ونفتالي، يُكرِم الأخير طريق البحر عبر الأردن، جليل الأمم. الشعبُ السالكُ في الظُّلمة أبصر نورًا عظيمًا، الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نورٌ.»
-        بوركت يا نثنائيل، وهل تحفظُ أبعَدَ من ذلك في هذا الجزء من نبوة إشعياء؟
-        لا يا مُعلِّم، هذا كل ما حفظته عن ظهر قلب، لكنني قرأتها كُلَّها أكثر من مرةٍ.
-        بعد ذلك  مُباشَرةَ تذكر النبوة كيفية هذا الإكرام فتقول: « لأنه يولَد لنا ولدٌ ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعَى اسمُه عجيبًا مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًّا رئيس السلام  
-        يولَد لنا وَلَد ويُدعى «إلهًا»؟ ما أعجب هذه النبوة كيف لم أنتبه إليها من قبل؟

نظر يسوعُ نظرةً شاملةً لكل تلاميذه موجِّهًا كلامه إليهم كُلِّهم: «من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟»
-        يقول بعضهم إنك يوحنا المعمدان قام من الموت.
-        ويقول البعض إنك إيليا.
-        وآخرون إرميا، أو واحدٌ من الأنبياء لا يعرفونه. فأنت قد فعلت أمامهم ما لم يفعله نبيٌّ في تاريخ إسرائيل.
نظر سمعان بطرس في عينيّ يسوع مباشرةً، وقال: «أما أنا فلا أقول إلَّا إنك أنت هو المسيح ابن الله الحيّ
تَهَلَّلت أسارير يسوع وقال: «طوباكَ يا سَمعان بن يونا، فما أعلن لك هذا لحمٌ ودمٌ، بل أبي الذي في السماوات. إذا كُنتُ قد أسميتُكَ صَخرًا، فهذا الإيمان هو الصخرةُ الأُمُّ التي عليها أبني جماعة المؤمنين للعهد الجديد، وهي جماعة لن تكون لها أرضٌ أو دولةٌ أو عَلَمٌ، لكنها ستمتد في كلِّ أمَّةٍ وشعبٍ ولسانٍ. ولن تَقِفَ أمامَها أبوابُ الجحيم نفسه. وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات لتنادي بالتوبة والخلاص والحرية لمن يؤمن.»

ساد صمتٌ ووجومٌ، ولَعِبت مشاعر كثيرة في القلوب؛ من فرحةٍ وخوفٍ، وحيرةٍ، وغيرةٍ. فقد كانت هذه هي أول مرة يُخبر فيها يسوعُ تلاميذَه بهذه الحقيقة أنه هو نفسه المَسِيَّا.
أضاف يسوع مُحَدِّرًا: «انظروا لا تقولوا لأحد ما قد قُلتُه لكم. لا يستطيع أحدٌ أن يُدرِك هذا إن لم يكُن قد أُعطِي من فوق. لذلك قلت لبطرس أن لحمًا ودمًا لم يعلنا له لكن أبي الذي في السماوات  




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق