الجمعة، 13 مارس 2015


10

كفر ناحوم

كعادته كل يوم، كان يوحنا المعمدان قد قضى الليل كله في الصلاة قبل أن يبدأ يومه في تعميد الذين كانوا يأتون إليه من كل مكان حول الأردن. في المعتاد، كان يبدأ يوحنا بعظةٍ طويلةٍ ثم يُعَمِّد الجموع حتى بعد الظهر بساعات، ثم يعود للراحة في كَهفِهِ، وهو أحد الكهوف المنتشرة حول الأردن ليعود مرة أخرى قبل الغروب بقليل ليعمد مرةً أخرى. ثم مع غروب الشمس، ينعزل في البراري ليُصَلّي طوال الليل حتى فجر اليوم التالي.
كان النهار قد انتصف وتعامدت الشمسُ على الأرض وبدأت مياه الأردن في الدفء وكان المعمدان قد بدأ في خاتمة عظته الطويلة عن التوبة والأعمال الصالحة:
... من له ثوبان فليعطِ من ليس له.
... ومن له طعام ليفعل هكذا.
... أيها العشارون لا تأخذوا ضرائب أكثر مما هو مفروض حكوميًّا.
... أيها الموظفون لا تقبلوا الرشوة ولا تصدروا تصاريح إلا لمن يستحق.
... أيها المعلمون لا تضربوا التلاميذ في المدارس بل رَبُّوهم بالحب والحوار.
... أيها القضاة لا ترتشوا. ويا أيها المحامون لا تبحثوا عن ثغرات القانون لتخرجوا الفاسدين من الحبس.
... يا واضعي القوانين لا تُصَمِّموا الثغرات في القوانين قبل القوانين نفسها، بل سِنُّوا قوانين العدل والرحمة.
... يارجال الشرطة توقفوا عن تقطيع المخالفات لمن يدفعون لكم. وتوقفوا عن ضرب المواطنين في أقسام الشرطة.
يا...
فجأة وصلت خيول الشُرطة ونزل من فوقها عشرات الجنود... انتشرت القوات الخاصة في «كردونٍ» واسع يضم المعمدان وجُمهور المُعتَمِدِينَ وهُم يهَدُرون بصيحاتٍ بلا مضمون، فقط لكي تَعكِسَ قُوةً وهَيبة الدولة و ترددها الجبال المحيطة بنهر الأردن. ثم جاءت خيولٌ سوداء فخمة، نزلت من فوقها شخصيات بدت مهمة وبالذات عندما ظهرت حولهم جماعة من الحراس أصحاب الهيبة الشديدة والأجسام الرياضية يرتدون ملابس أنيقة وينتشرون حول الشخصيات التي يحرسونها وعيونهم متعلقة بالجبال في كل الاتجاهات.
حضرة صاحب النيافة كاهن الهيكل الأكبر، حَنَّان وابن اخته قيافا الكاهن. شَمعي رجلُ الأعمال ونائب دَائِرةَ كفر ناحوم جاء خِصِّيصًا من الجليل على عَجَلٍ ليُثبِتَ ولاءَه. عَزائيل إمبراطور الحَديد وصناعة السيوف والعضو البارز في الجماعة الحاكِمة، وغيرهم من بعض رجال الدولة. كُلُّهُم جاءوا ليواجهوا ذلك الموقف الخطير. أدرَك المعمدان أن ضيوفَهُ الجُدُد لم يأتوا لكي يعتمدوا مثل الباقين، وإنما قد أتوا بسبب عظته الأخيرة التي ذاع صيتها والتي وَبَّخَ فيها هيرودُسَ المَلِك وأَشارَ إلى عَدم شرعية زواجه من هيروديا امرأة فيلبس أخيه. لقد أتوا من أجل «هيبة الدولة» التي تجرأ عليها هذا المعمدان. لكنهم خِشيةً من الشعب، انتظروا حتى انصرفت جموع المُعتَمِدينَ ثم ساقوا يوحنا إلى السجن.

عندما سمع يسوع بخبر القبض على يوحنا المعمدان قرر العودة إلى قريته في الناصرة ليرى أمه وإخوته.


                                     * * * *

الناصرةُ هِيَ أكبَرُ مُدُنَ الجَليل واسمها الكنعاني القديم هو «آبل» أو «عين آبل» وقد اجتهد المجتهدون في تفسير اسمها وكانت كل الاجتهادات تدور حول معاني الإشراق والتفتح والعلوِّ والسموِّ والبشارة والخبر السار. تقع الناصرة في قلب الجليل الأدنى على سفح جبل يرتفع عن سطح البحر نحو أربعمائة متر وتحيط بها سلسلة جبال مرتفعة هي جزء من جبال الجليل الأدنى. وتبعد الناصرة حوالي أربعة وعشرين كيلوا مترًا عن بُحَيرة طَبَرِيَة. كانت مدينةُ الناصرةُ شهيرةً بشرِّ أهلها وكانت مقر قاعدة عسكرية رومانية كبيرة، لذلك كانت العبادات الرومانية الوثنية منتشرة فيها، ومستوى التقوى والروحانية فيها كان منخفضًا جدًّا.

وفي أحد أيام السبوت، دخل يسوع  إلى مجمع الناصرة وعندما قام ليقرأ من الأسفار، دَفَع إليه خادم المجمع سفر إشعياء ففتحه على الموضع الذي يقول: «رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ. 2لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ، وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا. لأُعَزِّيَ كُلَّ النَّائِحِينَ. 3لأَجْعَلَ لِنَائِحِي صِهْيَوْنَ، لأُعْطِيَهُمْ جَمَالًا عِوَضًا عَنِ الرَّمَادِ، وَدُهْنَ فَرَحٍ عِوَضًا عَنِ النَّوْحِ، وَرِدَاءَ تَسْبِيحٍ عِوَضًا عَنِ الرُّوحِ الْيَائِسَةِ، فَيُدْعَوْنَ أَشْجَارَ الْبِرِّ، غَرْسَ الرَّبِّ لِلتَّمْجِيدِ».
ثم طَوَى يَسوعَ السِفرَ وسَلَّمَهُ للخادِم وَوَقَفَ ليَعظَ مُعلقًا على ما قد قرأ، وكانت عيون الجميع شاخصةً له وكانوا يتهامسون فيما بينهم:
-        إنه لا يتَكَلَم كسائر الكتبة والفريسيين.
-        نعم يتكلم بقوَّةٍ وبساطةٍ غريبة.
-        أشعر كأن هذه أول مرة أسمع كلمات هذه النبوة، وكأنه يقرأ من كتابٍ آخر. مع أن الكلام هو الكلام.
-        أليس هذا يسوع ابن يوسف النجَّار؟
-        «عِشنا ورأينا» نَجَّارٌ ابن نجَّارٍ يُعلِّمَ الكتاب.

ثم ساد صمت عميق عندما نطق يسوع عبارة: «اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم» وراح يقول: «لقد أقبلت عليكم مملكة الله».
بدأ الجميع يتهامسون مستنكرين: «أقبلت علينا مملكة الله؟ كيف هذا؟ هل هذا الفتى يخرف؟ نحن لا نزال تحت الحكم الغربي الروماني.»
أضاف يسوع وهم عالم بما يدور في أذهان السامعين: «مملكةُ الله لا تأتي بسيوف وعُصيّ ولا تأتي بمُلكٍ بشريٍّ. مملكة الله تأتي عندما يشعر المساكين المرفوضون من كل الناس بالقبول في بيت الله، وعندما يجد مكسورو القلب شفاءً وعزاءً وحُبًّا واحترامًا. عندما يَتَحرَّرُ البَشَرُ من أَسْر خطاياهم ويُعتَقون من قيد عاداتهم».
... تأتي مملكة الله عندما يَدخَلَ الجميعُ في زمنِ قُبولٍ. عندما يُقبِل المريض بمرضه فيُشفَى، والضعيف بضعفه فيقوى، والصغير بصِغَرِهِ فيكبر وينضُج. تأتي مملكة الله عندما يتعزَّى كلُّ النائحين. النائح على فقدان عزيز عليه، والنائح على طفولته التي فقدها بالانتهاك والاعتداء، والذي فقد شبابه في الخطايا والذنوب، والذي فقد كل عمره في التيه والضياع.
... تأتي مملكة الله عندما يستطيع من عاشوا في ثياب الحداد والعزلة ورفض الحياة، أن يشعروا  بقيمة أنفسهم واستحقاقهم للحياة والجمال.
... تأتي مملكة الله، عندما ينوح الناس على ما فقدوه، ثم يتعزوا ويقبلوا الفرح بعد أن عاشوا حياةً عقيمةً من اللاحُزنِ واللا فَرَح.
... تأتي مملكة الله، عندما تتحول كلمات اليأس إلى تسابيح الشكر والأمل في المستقبل، هنا على الأرض، وإلى الأبد في السماء.
.... عندما يُنَظِّف اللهُ أرضَ حياتك التي كانت مقلبًا للقمامة، ويغرس فيها غابة باسقة الأشجار.

ولكي يحدث هذا في حياتك ليس عليك إلا أن تُقبِل وتَقبَل وتوافق وتصدق، فلن تَحُلَّ مملكة الله في قلوب المتشككين والرافضين والسلبيين. لن تأتي مملكة الله في قَلبٍ يَبحثُ عن أخطائِهِ وأخطاءِ الآخرين. لن تأتي مملكة الله في قلب قد أحبَّ الشَرَّ ورَكَنَ إليه وتَوَقَّعَهُ. لن تأتي مملكة الله في قلب استهواه الظلام وكره مواجهة الحقيقة.

ثم غَيَّر يسوع من نبرة صوته مشيرًا إلى فَتح موضوعٍ آخر: «رُبَّما تقولونَ لي لماذا لم تحدث المعجزات التي حدثت في كفر ناحوم هنا في الناصرة؟ الحق أقول لكم ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أهله. لقد عثرتم فيَّ ونظرتم إلى بشريتي ونسيتُم أن الله قادر أن يحُلَّ أينما يشاء. أَمَّا هُناكَ في كفر ناحوم فقبلوا ومدُّوا أياديهم فأخذوا ما أراد الله أن يعطيه لهم».

امتلأ الجميعُ بالغضب لما قاله يسوع فهاجوا عليه ودفعوه أمامهم بطريقةٍ مهينة فكان يقع على الأرض ثم يقوم، واستمروا يدفعوه هكذا حتى حافة الجبل وكانوا يريدون أن يلقوه من هناك، لكنه قاومهم واجتاز في وسطهم بقوة عجيبة، ومضى إلى بيته وهو موقنٌ أن حياته في الناصرة قد وصلت إلى نقطة نهايتها.

                                            *  *  *

كانت الشمس قد توارت تمامًا خلف الغيوم الرمادية في ظهيرة هذا اليوم الشتوي الذي اختاره يسوع  ليسافر إلى كفر ناحوم. كان مدخل كفر ناحوم لا يكاد يُرَى من سُحُب الغبار التي تُخَلِّفها وراءها تلك العَرَبات الصغيرة التي انتشرت في الريف والأحياء الفقيرة من المُدُن تجُرُّها جحوش صغيرة بدلًا من الخيول. كانت هذه العربات الصغيرة تتسلق المرتفعات الترابية للشارع الرئيسي المؤدي إلى كفر ناحوم بعد أن قررت البلدية شق بطنه بالطول لإجراء إصلاحات مُتَكَرِّرة لا طائل منها إلا المزيد من العمولات والسمسرة التي تدخل جيوب المسؤولين من جراء إسناد هذه المشروعات إلى شركات مقاولات بعينها بالأَمرِ المُباشر.
رَاحَت بعضُ هذِهِ العَرَباتِ الصغيرة تأخذ طريقها إلى قلب المدينة مُتَسَلِّقةً المرتفعات التُرابية، بينما تجمع عددٌ كبير منها بألوانها السوداء والبنية الداكنة عند «المَوقَف» الواقع في بداية الشارع، فَبَدَت كمجموعةٍ من الذباب تتجمع حول فم طفل صغير مريض، كمئاتِ الأطفال الذين يَجرون في طرقات كفر ناحوم التُّرابية التي تتحول عندما تهطل الأمطار إلى بِرَك طينية هائلة.

كفر ناحوم بلدةٌ صغيرة تقعُ على الشمال الغربي من بحر الجليل وتبعد أكثر قليلًا من ميلين عن بيت صيدا، وهي تقع على ما يُطلق عليه «طَريق البَحر» وهو الطريق المُمتَدّ من دمشق إلى بتوليمايس (المُسمَّاة أيضًا عَكَّا) وهي ميناء مُهِم على البحر الكبير (البحر المتوسط)، وقد أعطاها هذا الموقعُ أهميةً استراتيجيةً وتجاريةً كبرى. وبالرغم من وجود مَجمَع يَهودي كبير بها، وبالرغم من أن شعبها كان يؤدي كل الفروض الدينية بحِرصٍ شديد، فإن قلوبهم لم يكن بها أيَّ شَوقٍ لمعرفة الله.

بدأت لافتات الانتخابات المكتوبة غالبًا باللون الأحمر على خلفية بيضاء، تظهر في كفر ناحوم وتتكاثر مثلما تتكاثر البثور الحمراء ذات الرؤوس الصديدة البيضاء على وجه مريض يعاني من نقص مناعة وسوء تغذية. لم تَعُد تظهر الأشجار بسبب الملصقات المليئة بالكلمات الرنانة والوعود البرَّاقة وصور المرشحين الذين تطل وجوههم بجديةٍ وصرامةٍ بالغة.
بالطبع النسبة الأكبر من اللافتات من نصيب مرشح الحزب، كبير التجار شمعي بن بَرْخي، أما رئاسة مجلس المدينة فهي من نصيب ابنه الأكبر رأوبين بين برخي، وفرقة الأمن يرأسها الابن الأوسط داود بن برخي، في حين لم يُرِد الابن الأصغر شمعون الانخراط في سلك الوظائف الرسمية واكتفى بإدارة شركة تعمل على تسفير الحُجَّاج إلى أورشليم.

نزل يسوع وتلاميذه ضيوفًا في بيت بُطرس بكفرناحوم، وفي السبت التالي لوصولهم، ذهب يسوع  إلى مجمع البلدة وصار يُعَلِّم. فبُهِتوا من تعليمه؛ لأنه كان عندما كان يُعَلِّم، كان يتكلم مُباشرةً دون أن يقتبس مقولات المعلمين القُدامى، فيدخل إلى المعنى مباشرةً ويلمس القلوب، كما لو كان كلام الكتاب كلامه هو، وكمن يعرف أيضًا قلب الإنسان الذي يستقبل الكلام.
فجأة، بينما كان يسوع يتكلم، صرخ واحد من الجمع قائلًا: «ما لنا ولك أيها الناصري؟ أنا أعرف أنك أنت القدوس المعين من الله» أجابَهُ يسوعُ بحَزمٍ: « لست أنت الذي تتكلم وإنما ذات أخرى بداخلك تتكلم، ولها أقول أن تخرس، وتدعك تؤمن بما تعرف أنه الحق».
ولما خرجوا من المجمع وكان اليومُ سبتاً، ذهبوا إلى بيت حماة بطرس في كفر ناحوم فوجدوا حماة بطرس مريضةً بحمى غريبة أصابتها منذ أسابيع ولم تفارقها، فدخل يسوع إلى غرفة نومها.
-        ما بك يا خالة يوكابد؟
-        لا أدري يا بني؟ هل أنت يسوع صديق سمعان؟ يبدو من مظهرك أنك رجل دين.
-        فراستك واضحة يا خالة برغم الحُمَّى.
 ثم قال باسمًا: «بالطبع فاسمكِ يوكابد على اسم والدة النبي موسى».
ضحكت الخالة يوكابد، وابتسم يسوع ومد يده ووضع يده على جبهتها. ظنته الخالة يوكابد يجسها ليعرف شدة حرارتها، ولكن بمجرد أن مد يسوع يده ولمس جبهتها فارقتها الحمى حالًا، ومد لها يده وأقامها من فراشها.
-        ما هذا؟ أشعر بقوة غريبة في جسدي. لقد عُدتُ أَفضَلَ مِمّا كنتُ مجدًا للرب. أنت بحق نبيٌّ أيها المعلم الصالح.
قامت الخالة يوكابد يملأها النشاط وأخذت تعد وليمةً ليسوع وأمه مريم وتلاميذه، وقضى الجميعُ أمسيةً جميلةً يأكلون ويضحكون.


سرى خبر شفاء حماة سمعان في البيوت المجاورة كما تسري النار في أعواد الذرة الجافة التي يضعها أهل هذه المدينة الريفية فوق أسطح منازلهم، كمخزون استراتيجي للوقود. وقد كانت أغلب بيوت كفر ناحوم المتواضعة مبنية من الطوب الذي أتقنوا صناعته وخبزَه، كما كان أجدادهم يفعلون في مصر منذ مئات السنين. فأتوا بعد غروب الشمس؛ أي بعد انقضاء السبت، ومعهم كل المرضى والسقماء والذين تعذبهم أفكار شريرة ولا يستطيعون التحكم في أنفسهم، والذين شخصياتهم منقسمة ومفككة.


واجتمعت المدينة كلها عند الباب. فشفى مرضى كثيرين وأعاد السلام لقلوب كسيرة. ومنذ ذلك الحين، كان على التلاميذ أن يعملوا بجد لتنظيم خدمة يسوع وإلا فلن يحصل على أي راحة أو يأكل أي طعام؛ لأن كل الناس في كل المنطقة كانت تريد أن تأتي إليه؛ فكل مريض كان يلمس يسوع كان يُشفَى مباشرةً. ومنذ ذلك الوقت، اتخذ يسوع ورفاقة من كفر ناحوم قاعدة انطلاق لخدمتهم التي بدأوا فيها يجوبون كل قرى الجليل ثم يعودوا إلى كفر ناحوم ومنها ينطلقون. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق