الأحد، 8 مارس 2015


5
رُواق الأمم

كانت التجديدات في رُواق«الأمَم» على قدمٍ وساق. الرِمال والزلط والحجارة المرصوصة في كل مكان، واختلط صوت خَلطِ المِلاط بأصوات تسابيح العيد. مئات الحُجَّاج من كل حَدبٍ وصَوب يتحركون في جماعاتٍ تستطيع تمييز ملابسها من غيرها من الجماعات بحسب البلاد التي جاءوا منها. من فُرسٍ عيلاميين، وعَرَبٍ من شبه الجزيرة، وأيضًا آراميين سوريِّين، وعراقيين من الساكنين بين النهرين، كما كان هناك أيضًا يهود من شتات آسيا الصغرى مثل أفسس وغيرها، ومن شمال إفريقيا من مصر وليبيا ونواحي تونس والقيروان ومراكش، ومن بلاد الحبشة وغيرها من البلدان الإفريقية. 
أما الدُّخَلاء من غير جنس اليهود، من الرومان واليونايين وغيرهم الذين أتوا من بلاد الإمبراطورية المختلفة مع جيرانهم اليهود ليعبدوا الله الواحد في أورشليم، فلم يستطيعوا الدخول لمتابعة العبادة من داخل الهيكل بسبب استغلال الكهنة لرواق الأمم كمكانٍ لتَغيير العُملة وبَيعِ الذبائح، فوقفوا في الخارج مُكتَفين بسماع الأناشيد والتراتيل.
مَالَ يسوع على أحد الدُخَلَاء وهو رجلٌ إفريقيٌّ ذُو بشرةٍ داكنة يُحاوِل أن ينطق الكلمات العبرانية الصعبة ممسكًا بكتاب صغير فيه بعض تَسبِحات العيد.
-        من أين أنت يا صديقي؟
-        أنا من الحبشة
-        أهلًا بك في بيت الله؛ بيتك.
-         بيتي؟
-         نعم بيت الله هو بيت الصلاة لجميع الأمم.
-        ظننت أننا غير مقبولين هنا ولا يمكننا الدخول حتى لا نُنَجِّس الهيكل.
-        هذه تعليمات الكَهَنة لكن ليست هذه مشيئة الله.
-         كيف ليست هذه مشيئة الله؟ أليس مِنَ المُفترض أن الكهنة يقرأون الكتب ويعرفون مشيئة الله، ويُعَبِّرون عنها للناس؟
-         الكتاب يقول في نبوة إشعياء إن أبناء الغريب الذين يقترنون بالرب، يأتي بهم إلى جبل قدسه ويُفَرِّحَهم في بيت صلاته الذي هو بيت صلاة لكل الشعوب.
-        يبدو أنك أنت أيضًا رجل دين. ما اسمك؟
-         اسمي يسوع الناصريّ وما اسمك أنت؟
-         اسمي أريرو، تعال أعرفك بأصدقائي. نحن كثيرون هنا.
ذهب يسوع مع أريرو، ووجد جماعة كبيرة من رِفاقِهِ يُحاولون متابعةَ العِبادةَ عَن بُعد، فاضطربت روح يسوع فيه. وعندما دخل بالفِعل إلى رواق الأمم، وجدَ باعة الذبائح من البقر والأغنام والحمام واليمام والصيارفة قد افترشوا الرواق تمامًا. تعالت أصوات الباعة والمشترين في مساوماتٍ حول سعر تغيير العملات المختلفة التي جاء بها الحُجَّاجُ من كافة أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وأسعار الذبائح التي بالطبع تُباع لهؤلاءِ الغرباء بأضعاف أثمانها الحقيقية. رائِحَةُ رَوَثِ البَهَائِم تَملَأُ المكان ورخام أرضية الرواق الأبيض الشاهق لا يكاد يُرى من طين الأرجل الأسود المختلط بالروث الأخضر وأعواد البرسيم ودقائق التبن، وامتلأ فضاء الرواق، بأصواتٍ حَادّةٍ وأقسامٍ غليظةٍ بالهَيكَل وبِرَبِّ الهيكل، أَنَّ هذا هو الثمن الحقيقي وأن مكسبهم فيه لا يتعدى القروش القليلة. وبين الحين والآخر تَبرُزُ بين الزحام الخانق حركاتٌ عَصَبِيَّةٍ عَنيفة عندما يحاول أحد الزبائن أخذ الذبيحة ومحاولة الخروج بها من الرواق فيقوم التاجر الذي لم يرضَ بالسعر بسحبها منه بعُنف، فترتطم بحاجَّة مسنة، فتقع على الأرض صارخة من الألم وتتلوث ثياب حجِّها البيضاء بروث البهائم فيضاف إلى بكائها من الألم، بكاءٌ بسبب النجاسة التي علقت بثوبها الطاهر وسوف تحرمها من الدُخول إلى الهيكل لتقديم الذبيحة.
عندما شاهد يسوعُ ما جرى لهذه السيدة، تمالك غضبه وأسرع إليها وساعدها أن تقوم، ثم بدأ  يساعدها في تنظيف ملابسها بقدر المستطاع، وأخرجها للخارج لتنضم لقافلتها. بعد ذلك عاد يسوع وقَد عَقَدَ العزمَ أن يُطَهِّرَ الهَيكَلَ من هذِهِ الفَوضى. دَخَلَ يسوعُ للرِواق بحزمٍ وقوةٍ، وبدأ يسوق البهائم حتى تخرج من الرواق ولم يَفُتْهُ أن يَقلِبَ موائدَ الصيارفة الذين هَرَعوا مُنكَبِّين إلى الأرض ليجمعوا عُملَاتِهِم ويَضعونَها في أكياسِهِم بسرعة ويهربوا للخارج خوفًا من اللصوص المنتشرين في كلِ مَكَان.

-   ارفعوا هذه من هنا. لا تجعلوا بيت أبي بيتَ تجارةٍ. ألم تقرأوا أنه بيت الصلاة؟ ألم تقرأوا أن هذا الهيكَل قد بُنِيَ لجميعِ الأُمَم وليس فقط لإسرائيل؟ لقد جعلتموه مغارةً لِلّصوص، ومكاناً لإهانة الله والإنسان. أُخرُجوا من هُنا. هيا أنتم. نظفوا المكان.

وبسرعة خرج للساحة وأحضر إناءً وملأه من ماء المرحضة وأسرع به للرواق وألقاه فيه وبدأ في تنظيف الأرضية من الطين والروث، فهبَّ لمساعدته بعضُ اللاويين في الهيكل، في الوقت الذي لم يزل الصيارفَةُ يُحاولون لَملَمةَ عُملاتهم التي تناثرت على الأرض، ويتشاجرون ويضربون الصبية الصغار الذين انتهزوا الفرصة وراحوا يقتنصون لأنفسهم بعض العملات. ووسطِ كُلِّ هذا هَرَعَ واحدٌ من الصيارفة إلى داخل القُدس ليدعوا أحد الكهنة لينقذهم من هذا الكاتب المتحمس.
-   مولانا، أنجِدنا لقد هجم علينا أحد شباب الكتبة. يبدو أنه من الجليل، وطَرَدَ البَاعةَ مِن رواق الأمم وهو يصيح متَّهِمًا إيانا بأننا جعلنا من بيت الله بيت تجارة. لا تنسَ يا مولانا أنك أعطيتنا تصريحًا مكتوباً ومَختومًا. وأنت تعلم أن وجودنا في هذا الرواق قانونيّ تمامًا.
-        نعم أعلم. سوف آتي حالًا لا تقلق.

أسرع الكاهنُ الخطا مُلَملِمًا ثَوبَهُ الأسود الفَضفاض إلى رُواق الأمم، وعلامات الضيق والقلق بادية على وجهه. وعندما وصل إلى الرواق كان يسوع قد شارف، مع مجموعة الأفارقة وبعض اللاويين، على الانتهاء من تنظيف الرُواق من روث البهائم التي بَدَأَ أصحابُها يَسحبونها إلى خارج الرواق، وشيئًا فشيئًا بدأ الأفارقة وغيرهم من الأجناس الأخرى يمارسون الصلاة في الرواق باضطرابٍ وخوفٍ.

اقترب الكاهنُ من يسوع وهو يحاول أن يُغَطِّي خَوفَهُ الدَاخِليّ بالمزيد من العُنف والصياح، فجاء صوته عاليًا أكثر من اللازم بعد أن هدأت القاعة نسبيًّا.
-        من أنت؟ وبأي حقٍّ تفعل هذا؟
-         أنا يسوع، كاتب من ناصرة الجليل.
-         كيف ترفع صوتك في الهَيكل، وكيف تضرب هؤلاء التجار البسطاء الفقراء؟
قال ذلك ليستميل إليه الجماهير..
-    أنا لم أضرب التجار، أنا طلبت منهم أن يخرجوا ولَمّا لم يستجيبوا قَلَبتُ الموائدَ ليعرفوا إنّي جادٌ فيما أطلُبُهُ، وها قد خرجوا ولم يخسر أحدٌ شيئًا. هُم الآن في الدار الخارجية يبيعون ويشترون حيثما ينبغي أن يكونوا.
-         ألا تعرف أن ما فعلته اعتداءٌ وتدنيسٌ للهَيكل؟
-        إن ما تفعلونه هو التدنيس بعينه. بيتُ أَبي بيتُ صلاةٍ وأنتُم جعلتموه مغارة لصوص
-        بيت أبيك؟
-        نعم بيت أبي. أوليس الله أبانا؟
-        نعم هو كذلك، لكن كيف تقول عنه إنه أبوك أنت بالذات؟ ثم بأي سلطانٍ فعلت هذا؟
-        بسلطان الله.
-        من يتكلم بسلطان الله يصنع المعجزات في العَلَن. كُلُ نَبِيٍّ جَاءَ بدليلٍ على نبوته. فما هو دليلك؟ ما هي آياتُك؟ هل تنبأت بشيءٍ وحدث؟ هل شفيت أحدًا من المرض؟ أئتنا بآيةٍ فنؤمن بك.
-        آيتي هي هذا الهيكل، وأشار يسوع إلى جسده، انقُضُوه وأَنَا في ثَلاثةِ أيامٍ أقيمه.

لم يفهم الكاهنُ كلامَ يسوع. حتى تلاميذ يسوع لم يفهموا، وظنوه يتكلم عن الهيكل المبنيّ بالحجارة بينما هو يتكلِّم عن هيكل جَسَدِهِ. صاح الكاهن وهو يحاول أن يداري خوفه من يسوع: «في ست وأربعين سنة بُنيَ هذا الهيكل وأنت تقول إنك سوف تعيد بناءه في ثلاثة أيام. لا بد أنك تهذي».

نظر إليه يسوع ولم يتكلم. كما لم يستطع الكاهن أن يضيف كلمةً فمضى.

عندما رأى كثيرٌ من الحاضرينَ ما حَدَث، أتوا إليه قائلين إنهم يؤمنون به، ويريدون أن يتبعوه وبدأوا يسألونه إن كان هو المسيح، ومتى سوف يبدأ ثورته على الرومان وعلى الديانة الفاسدة؟ حتى أن بعضهم جاءوه بسيوف وعرضوا عليه أن يبدأوا في تشكيل جيش حُر  وإعلان الحرب على الكفار. كان يسوع يعلَمَ ما في قلوبهم، فرَبَتَ على كَتِفِ واحدٌ مِنهُم قائلًا: « ملكوت الله لا يأتي بالسيوف.» ثم انصرف.

وكان يقف بعيدًا رَجُلٌ فَرِّيسِيٌّ مُسِنّ ذو لحية طويلة بيضاء يتأمل ما يجري دون أن يشترك في الحوار ولكن كانت عيناه لا تفارقان يسوع. وعندما هَمَّ يسوع بالانصراف مَرَّ به وتقابَلَت عيناهُما ولم يَقُل أحدٌ للآخر كلمةً.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق