الثلاثاء، 10 مارس 2015

7

دينة

بعد نهاية موسم الفصح، تَرَكَ يسوعُ وتلاميذه أورشليمَ، ولكنهم لم يعودوا للجليل واستمروا في صحراء اليهودية على الضفة الشرقية لنهر الأردن. وبدأ تلاميذ يسوع يُعَمِّدُون للتوبة والبداية الجديدة كل الذين كانوا يأتون إليهم طالبين مملكة الله. كان يوحنا المعمدان أيضًا يُعَمِّد في عين نون وهي عين من العيون كثيرة المياه المنتشرة في وادي الأردن بالقرب من قرية ساليم على الضفة الغربية. شعر بعض تلاميذ يوحنا بشيء من الغيرة المِهَنِيَّة، فتلاميذ يسوع يُعَمِّدُون بالقُربِ مِنهُم وظنوا أنهم في حالة تهديد ومنافسة، فذهب اثنان منهم إلى يوحنا.
-        يا معلم. هل تعلم أن يسوع لا يزال في اليهودية وهو يُعَمِّد بالقرب منها هنا؟
-        هل هذا صحيح؟
-   نعم والجميع أصبحوا يأتون إليه هو، وقَلَّ عدد الذين يأتون إلينا... لقد رأينا هذا الصباح عائلة بأكمَلِها كانوا آتين إلينا ليعتمدوا، فجاءهم شخص يجري من بعيد ويقول لهم إن يسوع يُعمِّد بالقرب من هنا فغيروا وجهتهم في الحال وذهبوا معه لكي يَعتَمِدوا من يسوع، أقصد من تلاميذه.
أطرق يوحنا قليلًا وبدأ يتكلم وكأنه ينظر إلى بُعد آخر: لا يقدر أحد أن يأخذ شيئًا إلا ما يُعطيه الله له
-        أنت المعمدان وقد أعطاك الله أن تعمد.
-        من له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس فيقف بجانبه ويفرح له.
-         عريس ماذا؟ وعروس ماذا؟
-        الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع، والذي من الأرض هو أرضيٌّ.
-        لست أفهم شيئًا.
-        عزيزي داود. الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله. أما الذي من الأرض فهو أرضيّ ويتكلم بكلام الأرض.
-         وهل هناك كلام للأرض وكلام للسماء؟
-    الذي يأتي من السماء يَتَكَلَّمُ بكلامٍ صعبٍ يبدو غريبًا، لكنه يُغَيِّر الإنسان وإن لم يفهمه. أما الذي يخرُجُ من الأرضِ يَتَكَلَّمُ بكلامِ الأرض السَهل الذي يُرضي الغرائز، لكنه لا يُغَيِّر الإنسان فيظل الإنسان أرضيًّا جسديًّا. ومن يريدُ الأرضَ سوف يُقبِلُ على كلامِ الأرض، ومن يَبغى السماء سوف يذهب وراء كلام السماء حتى وإن لم يفهمه.
-         هل تقصد أننا من الأرض ونتكلم كلام الأرض؟
-         لقد جئت فقط لأُشيرَ إليهِ وأَعُدَّ الطريقَ أمامَهُ، ولَعَلَّكُم تذكرون إنّي قُلتُ كذلك. لذلك ينبغي أن أنقص أنا وهو يزيد.
-         هل تقصد أن يسوع الذي من الناصرة هو الآتي من الله؟
-         أنا أحمل كلمة من الله، أما يسوع فهو نفسه كلمة الله.
-         وما الفرق؟
-        لا أدري تمامًا.

أدرك يسوع وتلاميذه أن الفريسيين عَلِموا أنه يُعَمِّد ويصير الكثيرون تلاميذًا له. وحيث إن يسوع لم يكن يريد أن يصطدم بالمؤسسة الدينية مُبكرًا، خاصةً بعد ما فعله في الهيكل في الفصح، فقرر أن يترك اليهودية ويعود للجليل. وفي طريق العودة  كان هناك خياران؛ إما أن يختارَ الطريق المٌختَصَر الذي يمر بالسامرة والذي كان اليهود دائمًا يتجنبونه بسبب وُعُورَته، وبسبب اضطرارهم للمرور بقُرى السامرة، أو الطريق الصحراوي الطويل المعتاد الذي كان حواليّ ضِعف المسافة، ويضطرُّ المُسافرُ فيه أن يعبر نهر الأردن مرتين ويجتاز في بيرية والمُدُن العشر التي كان مليئة بالوثنيين، وكأن اليهود كانوا يفضِّلون العبور بمُدِن الوثنيين على العبور بقرى السامريين من أبناء عمومتهم.
اختار يسوع الطريق المُختَصَر الذي يمُرّ بقُرى السامرة، وبالرغم من معارضة تلاميذه الذين لم يكونوا يريدون دخول أي قرية للسامريين، عَبَرَ إلى قرية بالسامرة كانت تدعى «سوخار»، وهي بقرب الضيعة التي وَهَبَهَا يعقوب لابنه يوسف وكانت هناك بئرٌ حفرها يعقوب بنفسه عندما جاء إلى شكيم  وتُسمَّى بئر يعقوب.
كان السامريون يعبدون الله، ولكن بطريقتهم الخاصة على جبل جرزيم بدلًا من جبل الحصن (صهيون) في أورشليم القدس. وكانت عبادتهم قد دخلتها ممارسات وثنية كثيرة بسبب أن أغلبهم كانوا من الذين وُلِدوا في السبي في آشور فاكتسبوا عبادات آشورية وثنية أدخلوها إلى عبادة الله. كما أنّهُ قد جاء وثنيون كثيرون من آشور واستوطنوا السامرة، فتأصَّلَت هُناك العبادات الوثنية الآشورية والبابلية.


*  *  *

انتظرت دينة حتى الظهيرة لتتأكد أن كل النسوة قد ملأن جِرارِهِنَّ وعُدنَ إلى بيوتهن. عندئذٍ خرجت وهي تتمنى أن تُنجِزَ المُهمَّة بأسرع وقتٍ. ارتدت ملابسها، ولم تنسَ وضع بعض الحُليّ وشَدَّت حِزامًا حول خِصرِها ليُظهِرَ تفاصيل جَسَدِها قليلًا، ثُم وَضَعَت بعضَ الألوانِ على وجهِهَا ـــــــــ عاداتٌ لم تَعُد تَشعُرَ فيها بأي سعادة. أتمَّت استعدادها للخروج بشكل تلقائي خالٍ من أي تفكير، مثل الجندي الذي يرتدي ملابس الميدان ويرتب الأسلحة في حِزَامِهِ ليُواجِهَ الحَرب. ثم قَبلَ أن تَخرُجَ أَلقَت نَظرَةً على المرآة التي كانت عبارة عن قطعة نُحاسيّة تقضي بعض الأمسيات الهادئة في جَليِّها عندما يكون مزاجها جيدًا، وهذا أمرٌ نادر الحدوث. عندما رَكَّزت بصرها في المساحة الصغيرة من المرآة النحاسية التي لا تزال قادرة على عكس صورة وجهها، أدركت أن عيناها حمراوتان من عدم النوم طوال الليلة السابقة فزادَت من الكُحل حَولَهُما لئَلّا يظهرُ احمرارهما.
وقبل أن تمرُق من الباب، أَخَذَت نَفسًا عميقًا وارتدت قناع القوة، مستعدةً للهجوم الذي أثبتت لها التجارب السابقة أنه خير وسيلة للدفاع. لقد أثبتت كل هذه الأسلحة نَجَاحَها على مَرِّ السَنَوات فَلَطالَما ساعَدَتها لباقتُها وروحُ مَرَحِها المَشوبةُ بالسُخرية اللاذعة، أن تخرج من المواقف الصعبة وتتعايش مع أهل تلك القرية الصغيرة برغم سُمعَتها السيئة. كان الجميع يتكلمون عنها ولكن من وراء ظهرها. لم يجرؤ أحد أن يوجِّهَ لها أيَّ اتهامٍ أو هجومٍ واضح، وإلّا تعرض لسيلٍ جارفٍ من سُخريتها وصار أضحوكة الصبيان والبنات في الحيّ.
أما خلف هذه الدفاعات، وبالرغم من مظهر القوة، كانت دينة تبذل مجهودًا نفسيًّا شديدًا لكي تبدو هكذا أمام الناس، بينما قلبها في الداخل ينزف ببطء شديد طوال سنوات عمرها الثلاثين، لذلك كانت تتجنب الظهور أمام الناس كثيرًا، محاولة تقليل العبء النفسي الثقيل الذي كانت تبذُلُهُ لتظل محافظةً على مظهرها القويّ هذا.
تَرَكَتهُ نائمًا حتى الظهر، فقد كان يشرب الخمر حتى الصباح بعد أن وصل عند الغروب مع قافلته التجارية. وَعَدَها بالزواج أكثر من مَرّة، لكنه لم يجد مبررًا يجعله يفي بوعده وهو التاجر الذي يفكر في كل شيء بمنطق الربح والخسارة. كُلَّمَا حَلَّت قَافِلَتَهُ بالسامرة في طريقِهِ من دان في أقصى الشمال إلى مصر في الجنوب، كان يميل ليبيت لبعض الأيام عندها. كان هذا يحدث مرتين أو ثلاث مرات فقط في السنة.
حاولت دينة مرارًا أن تقنعه بالزواج حتى ترفع رأسها قليلًا في قريتها الصغيرة، بدلًا من أن تكون مجرد عشيقة التاجر المسافر، فكان دائمًا يرد عليها قائلًا: «لماذا الزواج؟ وماذا أخذتِ من زيجاتكِ السابقة؟ كُلُّهُم تركوكِ. لعلي بهذه الطريقة لا أترككِ أبدًا».
آلَمَها تَذكيرها بعارِها وخزي الهِجرانِ الذي كانت تدفنه في علاقاتٍ مُتَكَرِّرةٍ، وقالت في نفسها: «لا تتركني؟ وهل أنت معي؟ أنت فقط تتوقف للحصول على بعض المُتعة في الطريق» لكنها لم تقوَ أبدًا أن تقول ما في قلبها بصوتٍ مسموع، فلن تستطيع، على الأقل الآن أن تقطع علاقتها به، فبالرغم من كونها تُدرِكُ تمامًا أن كل كلمات الحب والغزل التي يقولها هي فقط مقدمة لكي ينال منها ما يريد، فإنها كانت تعيش على هذه الكلمات وكأنها نبتة صغيرة في الصحراء لا ترى المطر إلا مرتين في السنة.
خرجت من الدار مُتَثَاقِلَةً وهي مُطمَئِنة أن معظم النسوة في بيوتهن الآن يَعدُدنَ الطعامَ لأزواجهن وأطفالهن...
آه .. الأطفال ... أخذوهم آباؤهم... خافوا عليهم من أن تربيهم امرأةٌ مثلي.
مَسَحَت الدَمعةَ المُتَمَرَّدَةَ التي قَفَزَت فوق دفاعاتها وهي تقول لنفسها: «لا ليس الآن. ليس هُنا. لتكوني قوية، نحن في الشارع، الشارع الذي لا يرحم».
وَضَعَت جَرَّتَها على رأسَها لتحميها قَليلًا من شَمسِ الظَهيرة الحارقة وهي تفكر: لَكَم ستكون مياه البئر ساخنة الآن! لكن ماذا أفعل؟ لقد تَعِبتُ من نَظَرَاتِ النسوة. صحيحٌ أن إحداهن لن تجرؤ أن توجه لي كلمة واحدة، لكنني أشعرُ في الداخلِ أنّي أقَلُّ مِنهُنَّ جميعًا.
في الليلة السابقة، لم يرحمها النوم ويأتِ إلا مع الفَجر فَقَد قَضَت لَيلَتَها كُلَّها تُتابِعَ شَريطِ حياتِها الذي بَدَأَ مُنذُ ثلاثينَ سَنةٍ عندما وُلِدَت دينةُ كأول ابنةٍ غيرِ مرغوبٍ فيها لأحدِ التجارِ المسافرين دائمًا.
لعل ذلك ما جعلني أبحث عن التجار المسافرين والرجال اللّاهين وأُحاوِلُ أن أَجعَلَهُم يَمكُثُونَ معي.
عندما خَطَرَت ببالها هذه الفكرة، نَدَت عن طَرفِ ثَغرِها الذي تعلوه حَسَنةٍ جَذّابة، ابتسامةُ سخرية سوداء.
أبي غائبٌ... أمي حزينة كئيبة القلب لا تكادُ تبرَحُ فِراشَها. أنا الصبيةُ ذاتِ العشرة أعوام كنت أفعل كل شيء ـــــــ أرعى المنزل وإخوتي الصغار وأخرج أيضًا للعمل. لَكَم كنت أتمنى أن تحتضنني أمي! ولكنها كانت إما نائمة، وإذا استيقظت، فإنّها كانت تبكي وتشكي لي همومها وآلامها وشكوكها في خيانة أبي في البلاد التي يذهب إليها. كنت أواسيها وأخفف عنها ثم أضعها في سريرها وأذهب أنا إلى شُغل البيت. لقد كنت أنا، الطفلة الصغيرة، أُمًّا للجميع.
كَم كنت أشتاق لحضن أمي أو أبي، أو أيَّ حِضنٍ. أي لمسةِ حنانٍ. كنت أتوق لأن أتكلم فيسمعني أحد. كنت أشتاق لأن أبكي فتأخذني أمي في حضنها. كنت أتمنى أن أحصل على الاهتمام الذي كانت صديقاتي يحصلن عليه من آبائهن وأمهاتهن.
عندما جاءتني «العادة الشهرية» هَرعتُ إلى أمي خائفةً: «ما هذه الدماء التي تَتساقَطُ مِنّي يا أمي؟ هل سأموت؟» فأجابت بعينين متثاقلتين: «لا. لن تموتي» ثم ألقت لي ببعض قطع القماش القديم وهي تقول دون أن تتجشم حتى عناء النظر إليَّ: «سوف يحدث هذا كل شهر. لقد كبرتِ وصرتِ امرأةً» ثم عادت إلى فراشها، ولم تدرِ أنني قد «صرت امرأةً» قبل الآنَ بكثير.
لا أذكُرُ حَنانًا أو اهتمامًا سوى اهتمام ابن عمِّي. ابن عمي؟   آه   .. لماذا تأتي كل هذه الذكريات الآن؟ لقد دفنتها منذ سنوات.
كانت أمي ترسلني إلى بيت عمِّي من وقت لآخر لأقترضَ بعضَ الطعام ــــ بعضَ القمحِ لِنطحَنَهُ أو قليلٍ من الزيت ــــــــ فقد كانت دائمًا نقودنا تنفذ قبل أن يعود أبي من سفره الطويل. كم كنت أشعر بالخزي! لكن صرخات إخوتي الصغار الجائعة كانت سياطًا تلهب ظهري وتدفعني إلى هناك. لكن بعد قليل، أصبحتُ أُحِب الذهاب، بل كُنتُ أنا الذي اختلق الأسباب لذلك.
ما الذي يجعلني أتذكر هذه الأشياء الآن؟
حاولت دينة أن تَنفُضَ الذِكريات عن رأسها المتعب وتواصل مسيرها للبئر، لكنها سرعان ما عادت الذكريات مُتَدَفقةً وكأنها مجموعةُ ذبابٍ جائعةٍ في بِداية الربيع وقد عثرت على طبقٍ من العسل. بالطبع أثارت ذكرى ابن العم في قلبها مشاعر مختلطة من الشجن والخزي معًا.
كان ابن عمي هو الإنسانُ الوحيدُ الذي لَمَس جسدي في ذلك الوقت. لم تكن لَمَساتُهُ هي بالتحديد ما أريد، لكنها كانت لمسات على أيِّ حال. بالطبع سرعان ما تطورت لمسات الحنان إلى ما هو غير ذلك، وشيئًا فشيئًا أصبحت هذه هي النهاية الرسمية لطفولتي. أصبحت «امرأةً» في سن العاشرة.
الحقيقة لم أكن أشعر أن هناك شيئًا ما خطأ؛ فقد كان يعطيني ما أريد وأعطيه أنا ما يريد؛ كان يعطيني بعض الحنان الذي كان يمدُّني بالقوة لأكمل حياتي الصعبة، وأنا أعطيه ما يجعله يطفئ نار الذكورة المتأججة في جسده حديث البلوغ. لا أستطيع أن أُنكِرَ أنني أيضًا شعرت ببعض اللذة  وتَعَلَّقَت بها، بل واعتمدت  تمامًا على هذه اللّمسات وكأنها صديقتي الوحيدة في هذه الحياة التي ليس فيها إلا المسؤوليات.
هكذا مبكرًا في حياتي تعلمت أنه لا حنانَ بدونِ ثمن؟ الرجالُ لا يُعطون الحب، أو ربما أي شيء، إلا في مقابل الجنس، وعليَّ أن أدفع. لقد قبلت هذه الحقيقة كإحدى حقائق الحياة التي لا تُناقَش. وهكذا دفعت ودفعت. لكنهم كانوا دائمًا يأخذون ما يريدون ثم يمضون في طريقهم طال الوقت أم قصر. حتى الزواج لم يمنعهم من الرحيل. أخذوا الأطفال وتركوني أنوح وأبكي وليس من يمسح دموعي إلا تتابع الأيام الرتيبة غير المبالية.
من يصدق أن هذه الدورة تكررت خمسَ مراتٍ؟ ربما اختلفت السيناريوهات قليلًا، لكنها نفس النهاية الحزينة كل مرَّة. وفي كل مرةٍ، كنت أظن أن الحبيب الجديد سيكون مختلفًا وسيحترم الزواج والأسرة... ما أغباني!
معه حق أليفاز... ماذا أفادني الزواج؟ ربما، كما يقول، إن سبَبَ بَقائِهِ معي حتى الآن هو أننا لم نتزوج. ربما الرجال لا يحبون الالتزام. ولكنِّي واثقة أن أليفاز أيضًا إذا مَلَّ مني سوف يرحل، بل إذا تغير مسار قافلته فلا يعود يمر بسوخار، سوف ينسى حتى أنه عرف امرأة من السامرة. أعرف تمامًا أنه كاذب وكل ما يريده هو الجنس. ولكن ماذا أفعل؟ لا أستطيع أن أعيش بلا رجل. هذه هي الحقيقة العارية.
يا لشقاوتي! فأنا كمن يشرب ماءً مالحًا، ومع كل شربة، يُمَنِّي نفسه بالارتواء، ثم لا يزيده الشرب إلا عطشًا.
لم تَفُق دِينةُ من أفكارِهَا إلا عندما وصلت للبئر. أنزلت الجرة وهمَّت بأن تدلِّيها إلى البئر. وقبل أن تصل بها إلى مستوى الماء، سمعت خلفها صوتًا عميقًا هادئًا:
-        اعطيني لأشرب.
إِلتَفَتَت لتَجدَ رجُلًا في الثلاثينات من عمره، جميلُ المظهر تشي نظراته بحنان ممزوج بالثقة الشديدة بالنفس. كما تدل ثيابه ولهجته أنه يهوديّ.
رجل يهودي، يبدو أيضًا أنه رجل دين، هنا عند البئر يتحدث إليَّ دون سابق معرفة، ويطلب مني أن أعطيه ليشرب ما هذا؟ هل هذه هلوسة بسبب عدم النوم؟
بسرعة حاولت أن تداري ارتباكها بكلماتٍ بدأت متعثرة، ثم تدريجيًّا استعادت قوتها وجرأتها المعتادة في الحديث، ولم تنسَ أن تضيف للكلمات بعض نظرات الإغراء المثيرة التي أصبحت تخرج منها بطريقةٍ عفويةٍ معتادةٍ وكأنها برنامج يعمل تلقائيًّا.
- كيف تطلب مني لتشرب وأنت رجل يهوديّ وأنا امرأة سامرية؟
بادرها بعبارةٍ جعلتها تشعر أكثر فأكثر أنها ليست أمام رجل عاديّ.
- لو كنتِ تعلمين عطية الله، ومن هو الذي يقول لك أعطِيني لأشرب، لطلبتِ أنتِ مِنه فأعطاكِ ماءً حيًّا.
من هذا الرجل؟ هل يريد مني ماءً؟ أم يريد أن يعطيني ماءً؟ أم فقط يحاول أن يتجاذب أطراف الحديث معي؟ لا أظن أنه يريد ما يريده الآخرون. ثم... الله؟ عطية الله؟ أنا لا أحب هذا الكلام. أين كان الله عندما حدث لي ما حدث؟ ولكن مالي أشعر أن وقع كلمة «الله» على لسان هذا الرجل بالذات، يأتي مختلفًا؟ عطية الله؟ هل الله يعطيني؟ وماذا أعطيته أنا في المقابل؟ ثم ما علاقة الله وعطية الله بهذا الرجل اليهودي؟ رجل يهودي يقول لامرأةٍ سامرية إن الله يريد أن يعطيها شيئًا!  ثم ما له يتكلم بهذه الثقة: «لو كنت تعلمين من هو الذي يقول لك» من تكون إذًا؟ ثم ما هو «الماء الحَيّ» هذا؟
تذكرت فجأة أنها مُنذُ لحظاتٍ قليلةٍ كانت تُفكِّرُ في نفسها أنها مثل الذي يشرب ماءً مالحًا. ألعل هذا الرجل سمع الفكرة التي دارت بذهني من لحظات؟ أم أن عطشي وجفافي أصبحا واضحين لهذه الدرجة؟
منذ أول وهلةٍ كانت قد لاحظت أنه ليس كباقي الرجال. يكفي أنَّهُ ينظرُ إلى عَينَاها مُستقيمًا ولا تجول عيناه بجسدها كما يفعل أغلب الرجال. ثم أن نظراته بها شيء ما ينفُذُ إِلىَ القلب، ليس القلب الذي أحبَّت به الخمسة السابقين ولا أليفاز الحاليّ وإنما إلى قلب القلب. لم تَدرِ لماذا فجأة شعرت أنها أمامه نفس الطفلة الصغيرة ذات الأعوام العشرة وكأن السنوات العشرين التي مرت بها قد لَملَمَت ثيابَها وزيجاتها وأطفالها ووقفت جانبًا تراقب هذا اللقاء.

  • إنه بالطبع لا يتكلم عن الماء الذي في هذا البئر، ولا في أي بئر. شيءٌ ما في أعماقها أدرَكَ أن هذا الرجل قد وَصَلَ إلى عَطَشِها الحقيقي الذي حاولت طوال تلك السنوات العشرين أن ترويه، أو على الأقل تُخَدِّره، لكنها لم تُرِد أَن تُصَدِّق. سَيطَرَ الخَوفُ المَشوبُ بالفرح والتَرَقُّبِ على كل كيانها. حاولت أن تهرب من هذه المواجهة، في الوقت الذي كانت تشعر فيه بكل كيانها يندفع نحو ذلك «الماء» الذي يشير إليه دون أن تعرف ما هو؟ وكيف يمكن لهذا الرجل أن يعطيها إياه وما علاقة هذا بالله؟
أجابت وكأنها لا تفهم ماذا يقصد، لكي تعطي نفسها فرصة لتستجمع نفسها: «يا سيد، لا دلو لك والبئر عميقة. فمن أين لك الماء الحيّ؟ ألعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر، وشرب منها هو وبنوه ومواشيه؟»
فَهِمَ يسوعُ أنها تُراوِغ فتَكَلَّمَ بصراحةٍ أكثر: كلُّ من يَشربَ من هذا الماء يعطش أيضًا، ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه أنا يصير فيه ينبوعَ ماءٍ يَنُبعُ إلى حياةٍ أبدية.
قَضَت هذه الكلمات على كل محاولات دينة للفهم، فبرغم ذكائها الفطري الحادّ، نجحت كلمات يسوع في تعطيل كل برامج عقلها تمامًا. لكن قلبها كان يشعر براحةٍ غريبة. شعرت فجأة بالعجز وفقدان السيطرة على كل كيانها. هذا الشعور بفقدان السيطرة دائمًا ما يجعلها ترتعب رعبًا شديدًا؛ فهي لم تفقد السيطرة للحظة على عقلها أو مشاعرها أو حتى جسدها، طوال سنوات عمرها الثلاثين. حتى أثناء ممارسة الجنس، تعودت أن تكون مسيطرة تمامًا على كل ردود أفعالها. في كل العلاقات السابقة كانت تُعِدُّ نَفسَهَا للفُراقِ منذ اللحظةِ الأولى للعلاقة حتى لا تتألم. فقدان السيطرة للحظة واحدة بالنسبة لها هو الموتُ المُحَقَّق. لكن هذه المرة، شيء ما جعلها تتصالح مع شعورها بالعجز والاحتياج. أسئلة كثيرة تزاحمت في عقلها.
ما هو «الماء الحَي» هذا؟ ومن هذا الإنسان ليقول هكذا بجسارة أنه يستطيع أن يعطي ماءً من يشربُهُ لا يعطشَ إلى الأبد؟ ولماذا أشعُرُ أنَّهُ صادقٌ؟ لا.  ليست كلماته؛ إنها عيناه، فيهما قبولٌ واحترام لم أرَه من قبل. عقلي لا يفهم معنى القبول، لكن شيئًا ما بداخلي يبدو وكأنه يفهم هذا الذي لا يفهمه عقلي. أشعر أن كيانًا ما يرتوي بداخلي كلما نظرتُ إلى عَينَيه. ليست فيهما نظرة الرجال المتعالية على النساء، ليس فيهما حب الرجال أو شهوتهم، ليس فيهما احتقارُ اليهودُ لَنا نحنُ السامريين. ليس فيهما كل ما توقعت أن أجده. فيهما شيء غريب. هذا فقط هو ما يجعلني أميل لتصديق ما يقوله هذا الرجل من كلمات تبدو كعين الجنون، لولا أن نظرات عينيه تقولان إنه أصدق إنسان في الوجود لاعتبرت ما يقوله هَذَيانِ مجذوبٍ من مجاذيب الهيكل. مهما كان هذا الماء، فأنا أريده بأي ثمن. أنا أريد أي شيء يقول عليه هذا الرجل. شيء ما بداخلي يصدّقه ويريد أن يطلب منه هذا الماء، لكن شيئًا ما آخر خائفٌ ومترددٌ. قالَت وكَأَنَّها تحاولُ أن تمنع طفلة بداخلها تريد أن تهرع إليه وترتمي في أحضانه:
-        يا سيد... أعطني هذا الماء.
ثم أضافت لكي تغطي الكلام مرةً أخرى:
-        لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي.
-        اذهبي وادعِ زوجِكِ وتعالي إلى ههنا.
آه. يبدو أن هذا الرجل يعرف كل شيء. يبدو أن ما شعر به قلبي من البداية كان صحيحًا. هذا الرجل بالفعل ليس رجلًا عاديًّا. أشعر كأن نظراته ترى حياتي كلها منذ بدايتها حتى نهايتها.
-        ليس لي زوج.
-        حسنًا قلتِ ليس لي زوج لأنه كان لكِ خمسة أزواج والذي مَعَكِ الآن ليس هو زوجكِ. هذا قلتِ بالصدق.
شعرت وكأن قلبها يغوص حتى قدميها. انهارت كل دفاعاتها في هذه اللحظة، وشعرت بعجزٍ وضعفٍ لم تشعر به حتى عند ولادتها. حاولت أن تتكلم. لم تخرج الكلمات. ثم انسابت بعض الكلمات منها دون أي وعي: « يا سيد أرى أنك نبيٌّ»
- ماهذا الذي قُلتِ؟!
- لقد اعترَفتُ بالحقيقة. ما يقوله هذا الرجل هو الحقيقة.
- وكيف شَعُرتِ بالأمان هكذا لتعترفي بالحقيقة؟
- أنا أشعر معه بالأمان.
- كيف؟ ألم أعلمكِ ألا تشعري بالأمان مع أي إنسان؟
- لا أدري. ولكن هذا الرجل ليس كجميعهم؟
- من أدراكِ يا غبية؟
- لا أدري. هكذا شعرت، فهكذا قلت.
- كم مرة علَّمتكِ ألا تقولي ما تشعرين به، بل عكسه تمامًا؟!
- لم أستطع.
    دار هذا الحوار بينها وبين طفلةٍ داخِلَها
ثم استجمعت أطراف شجاعتها المعهودة، واستَدعَت بسرعة أرشيفها من المعلومات الدينية؛ فهذا الرجل غالبًا لا تنفع معه الحيل الأنثوية المعتادة. ثم قالت وهي تحاول أن تبتعد بأقصى سرعة عن تلك النقطة التي وصل إليها الحديث.
     - آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجَدَ فيه.
- يا امرأة صدقيني أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم؛ لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق؛ لأن الآبَ طالبٌ مثلَ هؤلاء الساجدين له. الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.
« صَدِّقيني»؟ لم يقل لي أحدٌ من قبل هذه الكلمة الحميمة، ثم من هو هذا الآب؟ السجود هو لله. هل الله أب؟ هذا كلام غريب. ما معنى الأبوة؟ ثم ما معنى أن الله روح؟ وهل يمكن السجود لله في أي مكان؟ حقًّا أنا أمام رجل مختلف يقول كلامًا شديد الغرابة. هذا الكلام الذي يقوله يشبه نبوات الكتاب عن الملكوت الآتي. كلام ربما لن يتحقق إلا بعد أن يأتي المسيا نفسه. نحن لا نحب اليهود، ولا هم يحبوننا، لكننا جميعنا ننتظر المسيا في نهاية الزمان. نحن كلنا نعرف أصله ومصدره ونعرف أنه سيُنصِفَنا جميعًا، اليهود والسامريين والجميع. لكن متى يأتي؟ ألعله يأتي أصلًا؟
- أنا أعلم أنا مَسِيّا الذي يُقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء.
- أنا الذي أكلمكِ هو.
دارت الدنيا بها، أمسكت بحافة البئر لكي لا تهوي على الأرض.
أنا أتكلم مع رجل قال لي لتوِّه إنه المسيا! لو لم يكن قد قال ما قاله، ولو لم تكن عيناه تشعان هذا الصدق العجيب، لضَحِكتُ من أعماق قلبي ضَحِكًا أَسوَدَ من الليلِ البَهيم. المسيا جاء؟ وجاء لي أنا؟ المسيا يأتي للهيكلِ بمجدٍ وقُوَّةٍ. لا يُمكنُ أن يكونَ هذا هو المَسِيَّا. لكن لا يمكن أيضًا أن يكون هذا إنسانًا عاديًّا. هذا إما مجنون، أو هو المسيا بالفعل. لكن كيف يكون هذا مجنونًا؟
المسيا يظهر على سحاب السماء بمجدٍ في نهاية الزمان فيُخضِعَ الأرضَ تحتَ قَدَمَيهِ. المَسّيا لا يظهر لامرأةٍ متعددة الأزواج على بئر بسوخار السامرة. عقلي يكاد ينفجر.  على أي حال، إن كان هو المسيا، فيجب أن يعرف الجميع. لا يمكن أن أحتفظ بهذا الخبر لنفسي.
لَم تَدرِ المَرأةُ إلا وقد تَرَكت جرتها معه عند البئر، وهَرعَت للمدينةِ التي كانت تَهرُبُ منها وهي تردد عبارة واحدة فقط: «هلموا انظروا انسانًا قال لي كل ما فعلت. ألعل هذا هو المسيح؟»
وقعت كل دفاعاتها وهي تجري، لم تَعُد تبذل أي جهدٍ في مواجهة الناس، لم تَعُد تحتاج لقناع القوة، أو حِيَل التفوق. لقد شَعَرَت أن شيئًا ما أكبر منها وأكبر من الحياة نفسها يحتويها، شعرت بقوةٍ وجرأةٍ لم تشعر بهما من قبل.
لقد قال لي كل ما فعلت؟ ما هذا الذي أقول؟ لقد صار عاري الذي كنت أخفيه، برهان صدق بشارتي وحجتي أنني أنا قد وَجَدتُ المَسِيّا الذي يفتش عنه الجميع. أنا السامرية المزواجة الزانية التي تعيش في الحرام ظهر لي من تنتظره كل الأجيال.
عندما سمع أهل المدينة هذه المرأة بالذات تقول هذا، هَرَعوا وراءها وأتوا إليه.  فهي ليست امرأةً عاديَّة. الكل يعرفها ويعرف أنها لا تنسى نفسها هكذا إلا إذا كان ما تقوله مهمًّا. أخذوا يتكلمون معه ويكلمهم وهي واقفة وسط الصفوف تنظر إلى أهل قريتها وتنظر إلى يسوع وابتسامة غريبة تعلو وجهها، وجزء من عقلها يُعِدُّ ما ستقوله لأليفاز لإنهاء العلاقة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق