الأحد، 22 مارس 2015

17

إستير

استقيظت إستير مبكرًا دون أن تأخذ كفايتها من النوم. عندما نظرت لكوَّة غرفتها الوحيدة المتواضعة، أدركت أن الشمس قد أشرقت لتوِّها. إنها الساعة الأولى من الصباح بنظام التوقيت اليهودي أي السادسة صباحًا. شعرت ببعض الضيق؛ لأنها كانت تريد أن تنام لفترةٍ أطول. هَمَّت بأن تقوم، لكن جَسَدَها المُنهَك لم يطاوعها، وشعرت بآلامٍ متفرقةٍ في جسدها جعلتها تتذكر الليلة الماضية؛ فقد كان ذلك الرجل بالرغم من مركزه السياسي المرموق، من أولئك الشواذ الذين لا يشعرون بالمتعة إلا عندما يوسوعنها ضربًا أثناء الممارسة. ثم شعرت إستير بألمٍ شديد عندما تذكرت أن طفلتيها كانتا نائمتين في نفس الغرفة.
مكثت إستير في الفراش عدة ساعات تحاول النوم مرةً أخرى لكنها لم تستطِع، وإن كانت قد حصلت على قسطٍ من الراحة، بعده تحاملت على نفسها ووضعت فوق رأسها سَلَّتَها الصغيرة التي تحمل فيها بعض الخضروات التي تبيعها في السوق وتحصل منها على قروش قليلة لا تكفي لسد جوعها هي وابنتيها فتضطر إلى ممارسة الرذيلة بين الحين والآخر عندما تنفذ قروشها القليلة ويقرصها الجوع هي وابنتيها.
خرجت إستير من البيت حاملة سَلَّتها على رأسها وهي تسندها بيسراها بينما تحمل بيُمناها طفلتها الرضيعة، أما طفلتها الأخرى التي قارب عمرها على السنة فقد سارت بجانبها، تمسك بطرف ثوبها حينًا عندما يصبح الطريق وعرًا لا تقوى فيه على المشي بمفردها، وحينًا آخر تترك ذيل أمها لتعبث بأشياء تلتقطها من الأرض وتضعها في فمها.
-        كفى يا سارة. أخرجي هذا من فمكِ.
ثم عندما تُدرِكُ أنه لا فائدة من الكلام، تميل وبعنف تنتزع ما وضعته طفلتها في فمها، وتضربها على يدها. فتتوقف الطفلة في الطريق تبكي وتصرخ بأعلى صوتها، فتحملها إستير وهكذا حتى وصلت إلى مكانها في السوق.

جلست إستير جلستها المعتادة في السوق وصَفَّت أمامها خضرواتها، ثم نثرت عليها بعض قطرات الماء حتى تبدو طازجةً.
-        تأخرتِ اليوم يا إستير، لقد انتصف النهار وأغلب النسوة قد غادرن السوق بالفعل بعد أن اشترين كل احتياجاتهن. لا تتوقعي أن تبيعي كثيرًا اليوم.
رفعت إستير طرف فمها الأيمن في ابتسامة سخرية وأغلقت عيناها نصف غلقة وقالت وهي ترفع رأسها قليلًا لأعلى.
-   هه. بارك الله فيك يا خالة حنَّة، وهل ترينني بِعتُ شيئًا يُذكر بالأمس وقد جئتُ بعد شروق الشمس بقليل، يبدو أنهن لا يُرِدنَ أن يَشترينَ مني شيئًا.
أشاحت الخالة حَنَّة برأسها بعيدًا لكي لا تقابل عيناها عينيّ إستير، وقالت محاولةً أن تغير الموضوع، وفي نفس الوقت تفتح معها موضوعًا رُبما يجتذبها للتوبة.
-        هل سمعتِ عن ذلك المعلم الناصري الجديد؟ لا أذكر اسمه. أظن أنه يُدعَى يهوشع.
-        آه نعم، أعرف من تقصدين. اسمه يسوع. معكِ حق يا خالتي فهم كُثُر حتى أننا لم نَعُد نستطيع أن نميِّزَهُم. وكلهم يملأون الفضاء صراخًا. لكن الحق يقال إن هذا المعلم الناصريّ يختلف عنهم كثيرًا؛ إنه يقول كلامًا لا يمكن تصديقه.
-        ما الذي لا تستطيعين تصديقه؟
-        منذ عدة أيام عندما كنت في طريقي للسوق صباحًا، رأيتُ مجموعةً من الناس ينادون بعضهم بعضًا ويقولون: «ها هو يسوع.. ها هو يسوع» ثم بدأت أعدادهم تتزايد ويسيرون معًا في اتجاه واحد خارجين من المدينة. لا أعلم ما الذي جعلني أمشي وراءهم. ربما لم يكن لديَّ كالعادة، أملٌ أن أبيع شيئًا في السوق. سرت خلفهم أنا وطفلتاي حتى ظهر الجبل في الأفق. وعندما وصلنا بالقرب من الجبل، استطعت أن أرى على البعد شخصًا حوله جماعة من التلاميذ، أدركت أن هذا هو يسوع، فأنتِ تعلمين هؤلاء المعلمين يجمعون لأنفسهم تلاميذًا حولهم. كانوا يتهامسون فيما بينهم. ربما كانوا  يُفَكِّرون كيف يمكن أن يعظ يسوع وتسمعه كل هذه  الجموع.
-        ولماذا لا يعظ في المجمع؟
-        كيف يمكن أن يستوعب المجمع كل هذا العدد من الناس؟ كما أن هناك من لا يُمكن أن يدخلوا المجامع. أنا واحدة من الناس، لا يمكن أن أدخل المجمع مطلقًا. آخر مرة سَوَّلَت لي نفسي أن أذهب إلى هناك، طَرَدَني خادمُ المجمع ودفعني بيده، لأسقط على الأرض ثم تجمع بعض من شباب الفريسيين الملتحين وحاولوا أن يجمعوا حجارة ليرجموني، لكنني استطعت الفرار.
-        لقد أصبح هؤلاء يسيطرون على كل المجامع والزوايا. المهم، لنعد إلى يسوع... ماذا حدث؟
-   صعد يسوع عدة أمتار أعلى الجبل ثم وقف ثم تقدم حوله تلاميذه والتفت الجموع حول الجبل من كل ناحية بحيث يرى الجميع يسوع من كل الزوايا.
-        ثم ماذا؟
-        بدأ يسوع الكلام رافعًا صوته بأقصى ما يستطيع. والغريب أنه لم يبدأ بالاستهلالة الطويلة المعتادة التي يبدأ بها المعلمون حديثهم وينهونها بعبارة: «أما بعد»، أصدقكِ القول عندما لم يبدأ بهذه الطريقة مثلهم، شعرت كأنه واحد مِنَّا نحن وليس منهم.
-        وماذا قال؟
بدأ حديثه بعبارة غريبة. قال: «بشرى للفقراء روحيًّا، أخبار سارة من الله للخُطاة، بشرى لمن يعيشون في قاع المجتمع الروحي، ويظنون أن الله يَكْرَهُهُم، بشرى للزناة والزواني، بشرى لمن يمارسون الجنس المثلي كل ليلة مع شخص مختلف، بشرى لمن لم يدخلوا أي مَجمعٍ، طوبى لمن ليست لهم أي «حياة روحية» على الإطلاق؛ لأن مملكة الله اقتربت منهم وصارت متاحة لهم».
ضربت حنَّة كفًّا بكف وهي تهز رأسها من أقصى اليمين لأقصى الشمال قائلة: « أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم. كيف يا إستير تستمعين إلى هذا الكلام؟ إنه كافر مجدف. كيف يُمكِن أن  يُحِبَّ الله هولاء؟»
عندما وصلت حنَّة إلى كلمة هؤلاء، أخفضت صوتها؛ لأنها تذكرت أن زميلتها إستير من «هؤلاء» كانت الخالة حَنَّة امرأةً يهوديةً تقيةً تصوم يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وتُزَكِّي بعُشر إيرادها القليل الذي تكتسبه من بيع الملابس الرخيصة في السوق. وكان أكثر ما تكرهه هذه المرأة التي تجاوزت الستين هو الخطية والخطاة، لأنها تؤمن أن الله يكرههم، وبالتالي فعليها أن تكرههم هي الأخرى، وهي لا ترجو في الدنيا شيئًا أكثر من أن تكون مُرضيةً لله. لكنها لا تعلم لماذا تحب إستير هذه؟ لقد حَكَت إستير للخالة حَنّة قِصَّتها أثناء جلستهُما اليومية الطويلة في السوق، وكيف طَلَّقَها زوجُها ولم تستطع أن تنفق على طفلتيها إلا من خلال بيع جسدها للغرباء؟ ثم عَرفَ أهلُهَا فهربت من قريتها في اليهودية إلى كفر ناحوم. تذكر حنَّة أن في كل مرة كان يأتي ذكر الأهل أمام إستير، كانت تحاول أن تخفي دمعةً صغيرةً من ركن عينيها الواسعتين الكحيلتين وتقول: « ماذا نفعل يا خالة حنة؟ أمر الله!».
عادت الخالة حَنَّة للحديث بعد أن سَرَحت بخيالها في إستير وقِصَّتِها وقالت: «رُبما يرضى الله عن هؤلاء بعد أن يتوبوا توبة نصوح ويكفروا عن خطاياهم. لكن ما هو عدد الذبائح التي تكفر عن كل هذا؟ بعض الناس يحتاجون للإقامة في الهيكل بصفة مستمرة فقط للتكفير عن خطاياهم».
ردَّت استير: «الله يرحم الجميع».
فجأة دَبَّت حركةٌ مريبةٌ في السوق. مَوجة كموج البحر من الباعة الجائلين يقومون فجأة ململمين بضاعتهم بسرعة، ومن خلفهم موظفي البلدية كعصابةٍ من الضَباع انفجرت فجأة داخل قطيع من الغنم
الرابض تحت ظل شجرة في الظهيرة. وراح الموظفون يلتقطون بأياديهم الغليظة السِلَالَ والصَناديق و«الفَرشات» ويلقونها في عَرَبة المحافظة الرابضة على ناصية السوق وبجانبها خيول الشُّرطة.
عندما وصلت هذه الموجة إلى حيث كانت إستير وحَنَّة جَالِسَتَين، هرعتا جريًا، ولكن إحدى الأيادي الغليظة وقعت على إستير واقتادتها بقوة نحو خيول الشرطة حيث كان الضابط. كانت إستير تحمل طفلتها الرضيعة، وبينما هي تحاول التخفيف من قبضة المخبر على رقبتها، أوصت بسرعة سارة أن تمكث مع الخالة حنة إلى أن تعود.
لم يُرد رجال الشرطة أن يأخذوا الخالة حنة، وفضلوا اقتياد إستير لأسباب تعرفها إستير جيدًا وبالخبرة كانت إستير تدرك أنها سوف تعمل الليلة في قسم الشرطة وبالمجَّان.
وبينما كانت إستير جالسة في قسم الشرطة مستسلمةً كالعادة لمضايقات أمناء الشرطة، كانت تفكر في الكلام الذي كانت تتكلم فيه مع الخالة حنة. حتى بينما كان الضابط يقوم بمضاجعتها في غرفته الملحقة بقسم البوليس، كان ذهنُها يفكر في شيء آخر، فهي قد اعتادت منذ زمن طويل أن تفصل وعيها عن جسدها تمامًا أثناء «العمل».

... ما معنى أن مملكة الله قد أصبحت متاحةً لأشخاصٍ مثلنا؟
... وما هي مملكة الله هذه؟                       







18

نايين

بعد أن ألقى يسوعُ عظتَه الطويلة، نزل من الجبل وكانت جموع كثيرة تتبعه فجاءه رَجُلٌ مُصاب بأحد الأمراض الجلدية المُعدية وتقدم وسجد له قائلًا: «يا سيد انت كُنت تريد، فأنت قادر أن تُطَهِّرني».
مَدَّ يسوعُ يدَه إلى الرجل ولمسه، فاندهش الرجل، وقال يسوع: «أريدُ فاطهُر، لكن انتبه ولا تقل لأحد كيف شُفيت. اذهب واعرض نفسك على الكاهِن ودعه يفحصك حسب الشريعة، ويُقَرِّر إن كنت قد طَهُرت أم لا، لكي تكون شهادة للجميع، وقدم القُربان أمام الجميع في الهيكل».  
بدأت الجموع تتناقص من حول يسوع وتلاميذه، وبقيت حولهم جماعة من الناس الذين لم يريدوا أن يتركوا أي فرصة يكونون فيها بالقرب من يسوع، علَّهم يسمعون منه تعليمًا. وفي الطريق إلى بيت بطرس في مدينة كفر ناحوم، دار بين يسوع وتلاميذه حوارٌ:
-        كيف يا مُعَلِّم تقول له ألا يقول لأحد، ثم تقول له أن يكون شهادة للجميع؟
-        برثلماوس عزيزي لا أريده أن يقول من شفاه، لكنني أريده أن يشهد للجميع أن الله قد شفاه
-        لماذا يا سيدي؟
-         أريدُهُم أن يتأكدوا أنه قد شُفيَ قبل أن يعرفوا من شفاه، فربما عندما يعرفوا أنني أنا الذي قد شفيته رُبما يعوقهم هذا عن الحُكم عن حقيقة شفائه.
لمعَت عينا برثلماوس بالإعجاب لحكمة يسوع ولم يتكلم.
-        يا مُعَلِّم اعذرني فلدي سؤالٌ.
-        ماذا يا سمعان؟
-        في موعظتك على الجبل قُلتَ للجموع «أحبوا أعداءكم» فمن هم أعداؤنا؟ وإذا كُنَّا نُحِبُّهم فكيف يكونون أعداءنا؟
-        أقصد أن تحبوا الذين يُعادونكم. هُم الذين يعتبرونكم أعداء ويكرهونكم، أما أنتم فلا تعتبرونهم كذلك.  
-        ألا يُمكِن أن يُعتَبَر هذا ضعفًا؟
-        من الذي سوف يعتبره ضعفًا؟
-        هُم.
-        المُهم، ماذا تعتبره أنت ضعفًا أو قوة، والأَهَم ما يعتبره الله ضعفًا أو قوة.
    صمت سمعان قليلًا ثم قال: « رُبما هذا يُغريهم بالاعتداء علينا»
-        الإنسان في أعماقه يشتاق للحُب، والعداوة ليست سوى رغبة في الدفاع عن النفس. صدِّقني يا سَمعان، الحُبُّ يُذيب قلوب البشر. النار لا تُطفئ النار، بل يطفئها ما هو عَكسها، النار الملتهبة تطفئها المياه الباردة، هكذا الشرُّ لا ينتصر عليه إلّا الخيرُ.
-        وهل معنى هذا ألا ندافع عن أنفسنا وألا نحمي أنفسنا؟
-        بلى. احمِ نفسك. فالوصية تقول أن تُحِبَّ قَريبكَ كنفسِكَ. أي أن تُحِبَّ قريبك وتُحِبَّ نفسك وتحميها من الضرر، لكن يجب أن تعرف أن أكبر ضرر يُصيب الإنسان هو أن يُصاب قلبُهُ بالبُغضة والكراهية، فهي تُمرِض القلب من الداخل أكثر من أي شيء آخر. أحبُّوا أعداءكم وأحسنوا وأقرِضوا وأنتم لا تأملوا استيفاء القَرض؛ فهذه هي العطية الحقيقية، لأنكم عندئذٍ تكونون أبناء العليِّ فهو يعطي ولا ينتظر من البشر شُكرًا، بل هو يُشرِق شمسه على ناكري الجميل والأشرار، ويُمطِرُ على حقول المؤمنين وغير المؤمنين على حدٍ سواء، فكونوا رحماء كما أن أباكُم رحيم.
-        يا مُعَلِّم، قُلت أيضًا في الموعظة ألا نُدين ولا نحكم على أحد، هل تعني ألا نواجه الخطأ عندما نراه؟
-        مُطلقًا، المواجهة شيء والدينونة شيء آخر. لا ينبغي أن يحكُم إنسانٌ على إنسان آخر. الحُكم لله، لكن المحبة تقتضي أن نواجه بعضنا بعض من أجل الخير. نُعاتِب ونواجه ونصحح سوء الفهم بمحبة ووداعة.
-        يا مُعَلِّم، معلمون دينيون كثيرون يملأون الدنيا كلامًا في كفرناحوم، بعضهم كلامه جميل ومؤثر ويتبعه كثيرون من الشباب بحيث يكاد يُكَوِّن كل واحدٍ منهما ما يُشبه «الحزب السياسي» كيف يُمكِن للناس أن تحكم على التعليم وتعرف من الذي تعليمه صحيح؟
-        يا إخوتي، الدليل على أن التعليم من الله، هو أنه يغير الحياة ويُصلح المجتمع. أما التعليم والدين الذي يظلُّ قشرةً جميلة تخفي تحتها كل الموبِقات، فهذا ليس سوى تخدير، والتخدير ليس من الله بل من إبليس. الله لا يُخَدِّر وإنما يُغَيِّر. الثمرُ الصالح يدل على صلاح الشجرة، والثمر الفاسد ينبئ عن جذورها الفاسدة. وسيأتي يومٌ توضعُ الفأس على كل الشجر الفاسد، فيُجتَثُّ، ويزرع الله زرعًا صالحًا يثمر ثمرًا يدوم.
فافحصوا إذًا أشجار حياتكم وأشجار حياة الآخرين، ومن ثمارها تعرفونها. لا تحاولوا أن تلصقوا ثمارًا صالحة من أعمال برٍّ وتقوى على شجرةٍ فاسدة الجذور، فسوف تسقط وتعود الشجرة إلى ثمارها الأولى. افحصوا أصل الشجرة وجذرها. اجتثوا الشجر الفاسد المزروع في الأرض المالحة، وازرعوا شجرة حياتكم الجديدة في أرضٍ خصبةٍ نظيفةٍ.
-        وكيف نعرف الأرض الخصبة من الأرض المالحة؟
-        الأرض الخصبة تعلن عن نفسها بالأشجار المثمرة الموجودة فيها. فإن كان الثمر ينبئ بصلاح الشجر، فالشجر المثمر ينبئ أيضًا بصلاح الأرض المزروع فيها. التعليم الذي لا يُترجَم إلى أعمال، ويظل فقط مجموعةً من النوايا الحسنة يشبه من بنى بيتًا جميلًا على رمل، أما من يطع التعليم ويحوِّله إلى عادات سلوكية شخصية، فهو الإنسان الذي يثبت أمام التجارب والمِحَن، فيكون مثل البيت المبني على الصخر، يصمُدُ أمام العواصف والأعاصير.

وبمجرد دخولهم المدينة وقبل أن يصلوا للبيت وجدوا عند باب المدينة، مجموعةً من شيوخ اليهود منتظرينه ليكلِّموه فيما يبدو في أمر هام.

-        السلام لك يا مُعَلِّم، لنا ساعات ننتظرك.
-        السلام لك. اعذرني إذا كنت قد جعلتم تنتظرون طويلًا.
-        لا بأس يا مُعَلِّم، نحن نعلم أنك قضيت اليوم كله تُعَلِّم الجموع عند الجبل.
-        يبدو أن أمرًا جَلَلًا جعلكم تأتون وتنتظروني كل هذا الوقت.
-        نعم يا مُعَلِّم. في واقع الأمر نحن جئنا نطلب إليك أن تسدي لنا معروفًا.
-        على الرحب والسعة.
-        يوجد قائد مئة في المدينة، يُحِبُّ أُمَّتَنا وقد ساعدنا في استخراج التصاريح لبناء المجمع، وهو بالرغم من كونه ضابطًا رومانيًّا فإنه يخدم تحت مَلِكَنا المُعَظَّم هيرودس أنتيباس والي الجليل. هذا الرجل لديه عَبدٌ مريض يحبه كثيرًا وقد أشرف هذا العَبدُ على الموت وهو يتوسلُ إليك أن تأتي وتُنقِذ عبْدَه. هو كان يريد أن يأتي بنفسه، لكنه خاف ألَّا تقابله لأنه رومانيٌّ، فأرسلنا إليك.
-        هيا بنا.
-        ستذهب إليه؟
-        نعم ولم لا؟
اقتربت الجماعة المُكَوَّنة من يسوع وبعض من تلاميذه مع شيوخ اليهود من بيت قائد المئة وبعد عدة دقائق جاء أحد الرجال مُسرِعًا من بعيد، وبعد أن وَصل إلى حيث كانت الجماعة، وقف، وبعد أن هدأت أنفاسه المُتلاحِقة، قال: « أنا كالينا خادم سيِّدي قائد المئلة. هناك رسالة من السيد للمُعلِّم يسوع الناصري. ها هي...».
تَقَدَّم يسوعُ وأخذ الرسالة من الخادم وفَضَّها، وبدأ يقرأها. بعد المُقَدِّمة التي لم يشأ يسوع أن يقرأها بصوتٍ عالٍ قرأ يسوع: «يا سيد، لا تَتعَب. لأني لست مستحقًّا أن تُنَجِّسَ نفسك فتدخل تحت سقف رجلٍ أُمَميٍّ مثلي. لهذا السبب أيضًا أنا لم أحسب نفسي أهلاً أن آتي إليك. أنا أعلم ديانتكم جيدًا وأحترم طقوسكم. تستطيع من هُنا أن تقول كلمةً فقط فيبرأ الغلام. أنا أعلم تسلسل السُّلطة وأعرف أن لك سُلطانًا على المرض. مع عميق تحياتي واحترامي، قائد المئة، الفرقة الرومانية الثالثة، يوليوس كاسيوس».
رفع يسوع الرسالة والتفت إلى الجمع الذي معه وصاح: «الحق أقول لكم: لم أجد ولا في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا».

نظر شيوخ اليهود إلى بعضهم البعض بتَعَجُّب وقلوبُهم مستاءة مِمَّا قاله يسوع لتوِّه، لكنهم لم يسمحوا للاستياء الذي ملأ قلوبهم أن يظهر على وجوههم، فهم الذين جاءوا بأنفسهم إلى يسوع. وهو، على أي حال، لم يتأخر عن تلبية دعوتهم.

ظلَّت هذه العبارةُ تدور في ذهن يهوذا الإسخريوطيّ بقية اليوم.
... يصف قائد مئة وثني نجس أن إيمانه أفضل من كل من في إسرائيل.
... كيف يُمكِنُني أن أقبل بهذا الكلام الذي يقوله يسوع؟ وكيف لا أقبل كلامه؟ هل فعل أحدٌ في إسرائيل، مثلما فَعَلَ من آيات ومعجزات؟ وهل صُنعُهُ للمعجزات يتيح له أن يقول أي كلام؟
...لست أدري. أكاد أُجَنّ من هذا المُعَلِّم.  

*  *  *

نايين، مدينة جليلية تقع إلى الجنوب الغربي من الناصرة وجبل تابور، وإلى الجنوب الغربي من بحر الجليل الذي هو بحيرة طبرية. هذه المدينة الهادئة  تشرف على سهول أرماجدون ووادي جزريل. لذلك فإن كلمة نايين تعني المروج الخضراء أو مدينة السعادة.
لم تكن نادين في ذلك اليوم مدينةً للسعادة، بل كانت مدينة الأحزان، فقد خرج تشيع جثمان يوسف الابن الوحيد لراحيل التي توفي زوجها في ريعان الشباب تاركًا لها يوسف وهو ابن ثمانية أشهر. مرت السنون وكبر يوسف وصار شابًّا يافعًا جميلًا، وتعزت به راحيل واعتبرته عوضًا عن أبيه الذي تركها وهي في ريعان الشباب.
 كان يوسف يعمل راعيًا للأغنام وكان يأخذ خِرَافَهُ كُلَّ صباحٍ لتمرَحَ في سِهولِ نايين الخضراء ويعود مع غروب الشمس للبيت ليجد أمه وقد أعدت طعام العشاء فيتناولانه معًا في بساطة قلب ويتسامران قليلًا مع بعض الجيران حول نار يوقدونها في أمسيات الشتاء ويضعون عليها إبريق شاي أعشاب المريمية الذي يضعون فيه الكثير من العسل الذي تشتهر به نايين، والذي تجود به بطون النحل الذي يمرح طوال النهار بين زهور المروج الخضراء المشرفة على الوادي السحيق.

منذ أسبوع استيقظت راحيل في الصباح الباكر وغَسلَت وَجهها وبدأت في تحضير طعام الإفطار وهي تنادي على يوسف كما اعتادت، فهو لا يستيقظ مبكرًا منذ أن كان طفلًا، وكان عليها كل صباح أن تقضي حوالي الساعة لتوقظه من النوم ليذهب إلى كُتَّاب القرية ليتعلم القراءة والكتابة العبرية ويحفظ بعضًا من آيات التوراة، قبل أن يأخذ خرافه من الحظيرة وينطلق بها إلى المروج.
بدأ يوسف في الاستيقاظ، لكنه لم يقوَ على القيام من فراشه. قام بصعوبةٍ مستندًا على ذارعه ثم لم يلبث إن هوى مرةً أخرى على الفراش.
-        أمي أنا لا أستطيع القيام.
-        ماذا بك يا ولدي؟ ماذا حدث؟
كانت هذه البداية منذ أسبوع، حين دَبَّ الشلَلُ في كل عضلات يوسف. بدأ يظهر الضعف في رجليه ثم زحف تدريجيًّا حتى وصل إلى عَضَلاتِ التنفس ثم عضلة القلب التي توقفت، فقارق يوسف الحياة هذا الصباح. لم يعرف أحدٌ ما الذي أصابه. البعض قال إن هذه لعنة في الأسرة أصابته كما أصابت أبيه فمات في ريعان الشباب كما توفي جده في شبابه أيضًا بعدوى في الأمعاء. والبعض الآخر قال إنه انتقام من الله، لأن يوسف كان في بعض الأحيان يقوم بالاهتمام بخرافه سِرًّا يوم السبت. وقال البعض الآخر إنه ربما أصيب بلدغة حشرة غريبة أثناء الساعات الطوال التي يقضيها في رعي غنمه في السهول المترامية المليئة بكل أنواع الحشرات الطائرة والزاحفة.
خَيَّمَ الحزن هذا الصباح على نايين كلها التي كانت تحب يوسف الذي كان يجيد العزف بالمزمار وقد أحيا كل أفراح نايين بمزماره وأغانيه التي يَتَدَرَّب عليها كل يوم في مراعي نايين الخضراء.

خرجت المدينة كلها وراء يوسف لتشيعه إلى مثواه الأخير.

اقترب يسوع وتلاميذه من باب مدينة نايين، وقد أصبح يتبع يسوع وتلاميذه جمعٌ كبيرٌ من الناس الذين تركوا بيوتهم وأشغالهم وقرروا أن يسيروا خلف يسوع من مدينةٍ إلى مدينةٍ، ليسمعوا تعليمه ويروا معجزاته العظيمة. وبمجرد أن دخلوا المدينة أدركوا ما هي فيه من حداد، ثم أبصروا موكب يوسف قادمًا من أحد الشوارع التي تفضي إلى الميدان الذي يتوسط المدينة الصغيرة، في اتجاه شارع آخر يشق بطن المدينة غربًا نحو الوادي حيث يدفن أهل نايين موتاهم.
التقي الجمعان. موكب يوسف وموكب يسوع وكأنهما على موعد في ميدان نايين. عندما أبصر يسوع راحيل، شعر بحنانٍ بالغ نحوها فتقدم نحوها وقال لها بصوت حنون: «لا تبكي يا راحيل».

ذهلت المرأة حتى توقف شلال دَمعِها، ونظرت بعينين حَمراوَتَين يملأهما العجب لكونه عرف اسمها وقالت: «يبدو أنَّكَ المُعلِّم يسوع الناصريّ. لقد سمعتُ عنكَ كثيراً».
تقدم يسوع ولمس النعش فوقف الحاملون.
-        قُم يا يوسف.
اندهش الجَمعُ ممَّا قاله يسوع؛ فقد كانت هذه أوَّلَ مرة يُقدِم فيها يسوعُ على إقامة مَيِّت.
بدأ القماش الذي يغطي النعش يتحرك قليلًا، فصاح الجمع من الخوف الممزوج بالفرحة، وقام الحاملون بسرعة بفَكِّ الخيوط التي تربط جسد يوسف بالمَحَفَّة التي يحملونه عليها. فبدأ يتغير شكل الجثمان ليصبح جالسًا.
... مجدًا لله! مجدًا لله! لقد قام فينا نبيٌّ عظيم لقد افتقد الله شعبه!

جلس يوسف وبدأ يتكلم: أين أنا؟ ما الذي حدث؟ لماذا كل هذا الجمع؟ لماذا أنا محمولٌ هكذا على الأعناق؟ هل ستذهبون بي إلى المستشفى؟ أمي.
قال يسوع باسِمًا: «انزل يا يوسف وعُد لبيتك مع أمك. لعل خرافك قد انزعجت في حظيرتها، فهي لم تخرج إلى المراعي منذ أسبوعٍ كامل. اذهب إلى خرافك أيها الراعي الصالح».

اجتمعت نايين كلها حول يسوع وذهب الجميعُ إلى المروج الخضراء حيث يتَّسع المكانُ لكل المدينة التي جلست عند أقدام يسوع تستمع إلى تعليمه، فبدأ يعيد عليهم فقرات من عظة الجبل.

... بشرى لمن يحزنون في هذا العالم ويفقدون كلَّ شيء لأنهم في ممكلة الله يَتَعَزُّون. ليس بالضرورة كما تَعَزَّت راحيلُ اليوم بعودة يوسف للحياة في الجسد. سواء شُفي الجسد أو لم يُشفَ، قام الميِّت من الموت أو لم يَقُم، فإن الحياة الروحية في مملكة الله لا يَحُدُّها موتُ الجسد. هذه الحياة الروحية تبدأ الآن ولا تنتهي. سيحيا يوسفُ على وجه الأرض هنا، ربما ثلاثين أو أربعين أو حتى خمسين سَنةٍ قادمة، لكنه سوف يعود إلى التُّرابِ مرةً أخرى (مشيرًا بيده إلى الأرض) أما روحه فستستوطن مملكة الله الباقية إلى الأبد.
ثم أشار يسوع إلى راحيل وعلى وجهه ابتسامة خفيفة جميلة...
... طوباكم أيها الباكون الآن؛ لأنكم ستضحكون.
... طوباكم إذا أبغَضَكُم الناس لأنكم من مواطني مملكة الله.
... طوباكم إذا عَيَّروكُم واحتقروا أسماءَكَم واعتبروكم كأشرار من أجل إيمانكم بابن الإنسان.
فصاح واحدٌ من الجمع: «ومن هو ابن الإنسان؟»
أكمل يسوع: «طوباكم إذا لم يفهم الناس كيف تؤمنون بإلهٍ يتنازل ويقترب من الإنسان» وأضاف وهو ينظر إلى يهوذا الإسخريوطي: «طوباكم إذا لم يفهم الناس كيف تؤمنون أن الله قادرٌ أن يَعملَ في أي قلب مفتوحٍ له، مهما كان دينه أو عِرقِه».  












ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق