الخميس، 5 مارس 2015


1
مملكة الله

مملكة الله ـــــ تلك العبارةُ المشحونةُ بالمشاعرِ والمعاني المُغلقةُ عَن الفهم، تجعلُ الصُوَرَ تتراقصُ في خيال السامعين للراهب الثائر يوحنا المعمدان وهو يصرخ: «توبوا لأنه قد اقتربت مملكة الله» ـــــ صوَرٌ مبهجةٌ تدور في خيال الجماهير المجتمعين من أجل معمودية التوبة. راياتٌ زاهيةُ الألوانِ تَخفقُ تحت رؤوسٍ تملؤها العزيمة والتصميم. جيوشٌ بَرَّاقَة تلمع فيها تحت آشعة الشمس، حدودُ السيوفِ المسنونة والخوذات النحاسية والنياشين الذهبية للضباط والقادة. والهيكلُ على مرتفعٍ عالٍ وسط المدينة المُقَدَّسَة أورشليم، وفي قلب حياتها الدينية والاجتماعية. بناءٌ شامخٌ هو مفخرة الشعب الساكن في الأراضي المقدسة والمُتناثِر في كل أنحاء العالم، فيقتطعون من قوتِ عيالهم لكي يَحِجّوا إليه كل سنةٍ، وتمتلئ بقروشهم القليلة المُدَّخَرَة خزائن البيت العتيق.
إنه الحُلم بالمملكة اليهودية العُظمى التي تُسيطر على العالم وتحوِّله إلى ولاياتٍ تابعة، يأتي وُلاتُها إلى أورشليم ليقدموا الضرائبَ والمُكوس ويُبدون فروضَ الولاء والطاعةِ للعاصمةِ السياسيةِ والدينيةِ معاً. ويأتي أيضًا الزوارُ المبهورون من المشرق والمغرب.  رُسلٌ من كل أمةٍ وشعبٍ: شُقرٌ ناصعون، وسود لامِعون، وصُفرٌ قادمون من أقصى الشرق، يَتَرَضُّونَ وَجه الله ــ مَلكِ كل الأرض، بهدايا من بلادِهم. كلُّ خيرات الأمم تتدافع إلى أورشليم، وشعبُها يعبدُ الإلهَ الواحد، الذي تنحني أمامه كُلُّ الأصنام، وتجثو في حضرته كلُ الأفكار.
بينما كان تعليمُ يوحنا المعمدان يُشَكِّلُ رأسَ الحربةِ في الخطاب الدينيُّ الجديد، كانت رياحُ التغييرِ تَلعَب في اليهودية والجليل، وكان الحِراكُ الاجتماعيُّ والاقتصادي يتصاعد بصورةٍ غيرٍ مسبوقةٍ. الجميعُ يشعرون بالتَرَقُّب المشوبِ بالحذر والخوف، وبعض اليأس من إمكانية التغيير. هيرودسُ الكبير مات، وبعد وَفاته انقسَمَت فلسطينُ بين أرخيلاوس الوالي على اليهودية، وهيرودس أنتيباس على الجليل، وفيلُبُّس أخيه على قيصرية، التي سُمِّيَت فيما بعدُ باسمه، وأصبحت تُدعَى «قيصرية فيلُبُّس»

ميليشيات «الغيورين» تَتَدَرَّبُ في أماكنَ صحراويةٍ نائيةٍ لتَبقى متأهبةً على هامش الحياة اليهودية مُنتظرةً اللحظة التي يضعُف فيها الحُكم للدرجة التي تجعلها قادرةً على الوثوب عليه، مثل البكتريا التي تعيش في الأمعاء وعلى سطح الجلد، منتظرةً ومُتَمَنِّيَةً اللحظة التي تضعف فيها مناعة الجسم المترهل، المثقل بالهموم والديون والفساد. ولَعَلَّ المَثَلَ الصارخَ للفسادِ كانَ هيرودس أنتيباس حاكم الجليلِ الذي جَمَعَ حوله ثُلَّةً من التُجَّارِ والعَشَّارينَ الفاسدين، الذين يمتصون دِمَاء الشعبِ، ويُلقون له بفتاتٍ من فُرَص العَمَل ووعود الاستثمار الذي لا تذهبُ ثمارُهُ إلا إلى فِئة الواحدِ بالمائةِ من الشعب، بينما الباقون يزدادون فقرًا.  وكلما عَلَت بعضُ أصواتِ المعارضةِ لفضح الفساد، وارتفاع الهوة بين الأغنياء والفقراء، كان الرَّدُّ سريعًا بتقاريرَ وإحصاءاتٍ كلها تشير إلى النمو الاقتصادي الذي حققته الحكومة خلال السنوات الأخيرة وكيف ارتفع «مُتَوَسِّط دخل الفرد» في الجليل، وكيف زاد مُتَوَسِّط الإنفاق، بينما الحقيقة أن هذا الإنسان «المُتَوَسِّط» ليس سوى إنسانًا افتراضيًّا غير موجودٍ إلا في أوراقهم. إنه المُتَوَسِّطُ الحسابيُّ بين الغِنَى الفاحِش والفقر المُدقع الذي يعاني منه شعبُ الجليل. وهكذا يستمر التعاون بين رجال السلطة ورجال المال مع رجال الاقتصاد والإعلام، مكوِّنيْن «لوبياً» منيعاً لا تخترُقُهُ أحلامُ التغيير.

خارج «كردون» المدينة الأخطبوطية المترهلة ــــ أورشليم، التي تترامى أطرافها بدون تخطيط، وبضعف شديد في البِنيَةِ التحتي والقدرة على الإدارة، تعبر «الكاميرا» الطريق الدائري الصحراوي الذي يصِلُ أورشليمَ بأريحا، وهو طريقٌ متهالكٌ رُغمَ حَداثَتِهِ، وحالكُ الظلام ليلاً، حيث تضاء مصابيحَهُ الزيتية في النهار وتُطفَأ ليلًا. ربما كان هذا هو السبب الذي يجعل الكثير من حوادث التحرش والاغتصاب والسرقة بالإكراه تحدث فيه، ومن هذه القصص تلك القصة الشهيرة التي تناقلها المجتمع عن ذلك السامِرِيّ «الصالح» الذي أنقَذَ يهوديًّا هَجَمَ عليه اللصوصُ في ذلك الطريق. وإلى الغرب لبضعة كيلومترات، نجدُ مجموعةً من اليهود الأتقياء الذين يعيشون في الكهوف المنتشرة في صحراء اليهودية، يَصِلونَ الليلَ بالنهار قائمين مُصَلّينَ مُبتهلين. كانت هذه المجموعات المسمَّاة بالقيروانيين وهي جماعة تابعة لطائفة الأسينيين، تَنتَطرُ حلول مَملَكة الله حيث يتم تطبيق الشريعة اليهوديةَ تطبيقاً حَرفياً كاملاً. ويؤمنون أنه مَتى حدث ذلك سوف يختفي إلى غير رجعة، الفقر والمرض والخطية، وينتشر الإيمان الصحيح و يأتي المسيَّا بقوةٍ، وسلطانٍ إلهيين لكي يُكَسِّر الأوثان ويقتل كل ما ينتمي للنجاسة والخطية.

اليومُ هو عيد الفصح، الذي يُمَثّلَ نهايةُ مناسِكِ الحَجِّ.  مئاتٌ من البسطاء يسيرون بإعياء، طريقًا طويلًا صاعدًا للهيكل. فقراءٌ اقتطعوا من قوتِهِم اليومَيّ ثمن الذبائح الصغيرة المتواضعة، مثلهم،  من الحمام واليمام، يرجون بها أن يتقبل الله صلاتهم ويغفر ذنوبهم. بعضهم جاء من بلادٍ بعيدةٍ يحملون وثائق سفرهم ممهورةً بتلك التأشيرة الغالية للأراضي المقدسة التي دفعوا فيها ربما كل ما يملكون. بعضُهم جاء بالقُرعة الحكومية في وسائلِ نقلٍ أقلَ من الآدمية. وَبَعضُهُم وضعَوا كُلَّ مُدَّخرات شيخوختهم، آملين أن يموتوا ويُدفَنوا في أطهر بقاع الأرض، أو حتى يموتوا في الطريق إليها. وإن عاشوا، فثمَّة رحلةٌ واحدةٌ سنويًّا إلى الهيكل في أورشليم، تضمن لهم غفرانَ كُلِّ الخطايا والبداية من جديد.
 تتزايد سُحُبُ البخور وتتضح تدريجيًّا أصواتُ التراتيل الدينية بلغةٍ عبرانيةٍ غريبةٍ لم يعُد يستخدمها الشعب الذي أصبح يتكلم الآرامية في معاملاتِ حياته اليومية. وخلف أحدِ أعمدةِ الهيكل في القُدس الذي يتمتع بدرجةٍ من الظلام، حتى في منتصف النهار، يظهر رجلٌ في منتصف العمر.  
من هذا؟ إنه أحد كبار تُجّارِ أورشليم. ملابِسُهُ الحريريةُ تكشف حالتَه الاقتصادية المختلفة عن أغلب مَن هُم في الهيكل. أمّا لماذا يتحرك بسرعةٍ متسلِّلًا؟ فلا يعرف أحد. ثم ما الذي يُخرِجُهُ من حزامِهِ المصنوع من القطيفة الداكنة والذي يلُفُّ بهِ ثوبّه الحريري الفَضفاض المنقوش بنقشةٍ لا تنسَجُ إلا في بلاد الهند البعيدة؟
 هزَّ الكيسَ قليلًا في فخرٍ، فَصَدَرت عَنهُ رنةٌ مكتومةٌ لعملاتٍ ذهبيةٍ تَكَدَّسَت داخلَ الكيس حتى لا يكون كبير الحجم فيلفت الانتباه. يمد يده بالكيس بخوفٍ وترددٍ، ثم لا تَلبث أن تخرجَ من الظلامِ، يدٌ مُتَمَرِّسَةٌ،   وفي حركةٍ خاطفةٍ بارعة تلتقطُ الكيسَ وتُخفيه بسرعة البرق في الثياب السوداء الفضفاضة. تُرى من صاحب اليد التي خرجت من الظلام؟  وتكون المفاجأة أنَّه مولانا نيافة الحبر الجليل شيخ الهيكل الكبير.
تحركت خُطواتُ صاحبِ النِيافةِ بخفةٍ وسرعةٍ غير مُتَمَشِّيَةٍ مع سنواتِ عمرِهِ السَبعين، والتي تشي بها لحيتُهُ التي احتَلَّها المشيب تمامًا. وبينما كان يبتعدُ كانت مَلَابِسُهُ الفضفاضة تُصدِرُ حَفيفًا مسموعًا يشبه ضربات أجنحة الخفافيش التي تعيش في الكهوف المظلمة أثناء النهار. تَوَارَى «مولانا» خلف الأعمدة، وانسحب التاجرُ ليخرجَ بسرعةٍ من القُدس الذي لا يَحُلُّ دخولُهُ إلا للكَهَنَةِ،  ثم اختفى وسط زحام الحجيج متوجهًا لقاعة الأمم.
قاعة الأمم هي إحدى قاعات الهيكل. كانت هذه القاعةُ في التصميم الأساسي مُخَصَّصَةً للضيوفِ من الأمَم من غير شعب إسرائيل، الذين كانوا يسمعون من خلال اليهود المقيمين في بلادهم، عن ذلك الإله الواحد، فيأتون مَعَهُم لحضورِ مناسِكَ الحَجِّ، حتى أن بعضهم يُقَرِّرُ الانتماء لذلك الإله الواحد وعبادَتِهِ. وهكذا يكونُ الهيكلُ بيتَ صلاةٍ لكُلِ الشعوب، وليس للشعب اليهوديّ وَحدَهُ. ومَعَ الوقتِ، ضَعُفَ الاهتمامُ بهذه القاعة، وكان هذا يعكِسُ بالطبع كَراهية اليهود لغيرهم من الأُمَم الأخرى ونَظرَتَهُم العُنصرية لهم، حيث اعتبروهم كلابًا وأقل من البشر، فظَلَّت هذه القاعةُ خاليةً مهجورةً لسنواتٍ عديدةٍ. ثم مؤخراً اقترح أحد الكهنة استغلالها وتأجيرها لبعض تُجّار الحيوانات التي تُقَدَّم كذبائح والصيارفة  الذين يقومون بتغيير العُملة للحُجّاج القادمين من بلاد بعيدة.

هذه مجرد عَيِّنَة من التعاون المستمر بين التُجّار الذين يشكِّلون الرأسمالية الوطنية اليهودية، ورجال الدين الذين هُم حماة الهيكل والشريعة ومصدر الإفتاء والمشورة الدينية. هذا التعاوُن لا يُضاهيه إلا التعاون بين المؤسسة الدينية واالملك وبلاطه. وهذا يعيد للأذهان القضية التي شغلت الرأي العام اليهودي لشهورٍ عديدةٍ، وهي قضية زواج الملك هيرودس أنتيباس الحاكم في الجليل من هيروديا امرأة أخيه فيلبس حاكم قيصرية. وقتها ثار جدلٌ شديدٌ حول هذا الزواج ومدى مَشروعيَّتِه، وكيف أن هيرودس كان قد أقام مع هيروديا علاقةًعاطفيةً سابقةً لهذا الزواج.
في ذلك الوقت كانت منشوراتُ الحكومة تُفرِدُ المقالات الطويلة عن سماحة هيرودس وكيف أنه «اضطُرَّ» للزواج منها حمايةً لها من الفتنة بعد أن كَفَرَ زوجُها فلُيبُّس وتوَرَّطَ في عبادة الإله الإغريقي «زيوس»، فأصبح لزامًا على الملك هيرودس، حامي الإيمان، أن يفرِّق بينها وبين زوجها الكافر، ويأخذها لنفسها حمايةً لها وللأسرة المالكة.
ودارت القصة «الحكومية» التي تم توزيعها على كل المنشورات القومية هكذا:
«بينما كانت هيروديا في زيارة حجٍّ إلى أورشليم، قام الحَبرُ الجليل، مع الملك هيرودس بإقناعها ألا تعود لزوجها الكافر فِيلُبُّس، حتى أن الحبر الجليل أفتى بتفريقهما بسبب كُفر وفِسق الأخير الذي شوهِد يدخل هيكلَ زيوس. كما أن هذا الملك الفاجر الفاسق، قد عقد اجتماعاتٍ مع كُتَّاب ومفسرين يهود معروف عنهم تَحَرُّرُهم وكفرُهم، ومحبتُهُم للوثنييِّن ومُعاداتُهُم لليهودية، وقاموا في هذا الاجتماع  ببثِّ أفكارٍ هدَّامة، من شأنها الإساءة لليهودية وشيوع الكفر والإلحاد وزعزعة نسيج الأمة الواحد».
(أشارت صحيفةٌ معارِضةٌ إلى هذه الاجتماعات، وأوضحت أنها كانت تهدف إلى إيجاد فهمٍ لاهوتي مُعاصر للكتبِ المقدسة، ومراجعة التفسيرات الحَرفِيَّة، التي احتقرت الأمم غير اليهود، واعتبرتهم «كلابًا» والدعوة إلى علاقات حوار مع الأمم من اليونان والرومان).
وتُستَكمَل القصة الحكومية...

«وبالطبع تدخل الملكُ الرحيمُ هيرودس بسماحته المعهوده وقرَّر أن يتزوجها حمايةً لها وحمايةً لسُمعَة الأسرة المالكة التي لَوَّثَها فيلبس، الكافر الزنديق».

هناك 3 تعليقات:

  1. خيال من الواقع ام واقع من الخيال؟!!

    ردحذف
  2. اعتقد انها ليست ضاربة فى الخيال الا الخيال الادبى لكن ربما لهذه الاحداث خلفية تاريخية.

    يبدو ان هذه القصة ستكون ممتعة جدا. لان الجواب بيبان من عنوانه.

    شكرا دكتور اوسم

    ردحذف
    الردود
    1. بالمناسبة ساكمل قراءة بقية الفصول بالتتابع . كل يوم فصل ولا اتنين لغاية ماخلصهم

      حذف