الجمعة، 13 مارس 2015


9

الغَيور

بعد كلمة يسوع لخادم الملك، هَمَّ الرَجُلُ ليَمتطي جَوادَهُ ليعود إلى كفر ناحوم.  وقبل أن يخرُجَ الرَّكبُ من بوابة قانا، جاءَ ثلاثةُ رجالٍ مُسرعينَ عَلى خيولهم وهُم يشيرون من بعيدٍ لخادم الملك الذي رَكَضَ هو بدوره ليقابلهم من بعيد.
نظر يسوع وتلاميذه ولم يهتمُّوا كثيرًا بمعرفة ما يحدث، وقال يسوع بحماس: «يارفاق، سوف ننزل عند سمعان الغَيور».
-          هَل هُوَ من الغَيورين؟
-         نعم يا بطرس هو كذلك.
-         اسمح لي يا معلم، هل من المناسب أن ننزل في بيت واحدٍ من هؤلاء؟ أنت تعلم أن الغيورين رجال عنف وإرهاب.
-        ثم أضاف يوحنا: «إنهم يريدون أن يُحقِّقوا مُلك اللهِ بالقُوَّة من خلال العنف المُسَلَّح».
رَبَتَ يَسوعُ على كَتِفِ بُطرُسَ ونَظَرَ إلى يوحنا قائلًا: «لقد تَرَبيتُ مع سمعان في الناصرة وكانت أُمُّهُ صديقةً لأمي، ثم بعد أن ذهبوا ليقيموا في قانا كنا نزورهم بين الحين والآخر. حتى أَنّنا ذهبنا لحفل زفافه في قانا منذ سنة».
-        هل هو ذلك الحفل الذي يُقال إنك حولت فيه الماء إلى خمر؟
-         نعم يا نثنائيل.
-         عفوًا، اسمح لي أيها المعلم الصالح أن أسألك سؤالًا، فأنت عَوَّدتَنا دائمًا أن نتساءل ونبوح بما في قلوبنا حتى وإن كان اعتراضًا.
-        تفضل يا نثنائيل على الرحبِ والسِعة.
-        كيف تُحَوِّلُ المَاءَ إلى خَمرٍ وسفرُ الأمثال يقول: «لا تنظر إلى الخمر»؟
-        أحييك على حفظك للكتاب يا نثنائيل، لكن القضية ليست في الخَمر في حد ذاته، ولا في أيِّ شيءٍ في حَدِّ ذاتِهِ. القضيةُ هي في العين التي تنظر إلى الخمر، والقلبُ الذي يتعلق به ويبحث فيه عن السعادة، بينما السعادة هي في معرفة الله. وليست الخمر فقط، بل المال أيضًا والجنس والشهرة والنجاح. كل هذه الأشياء المُبارَكة من الممكن أن تَتَحول بسبِب القلب المريض البعيد عن الله إلى آلهةٍ تتسلطُ على الإنسان.
-         سمعت أيضًا أنك قلت للخَدَم عندما نَفَذَ الخمرُ أن يملأوا أجران الوضوء بالماء، ثم حولته إلى خمر. اعذرني سيدي، ألا تُعتَبَر هذه إهانة للدين؟
-         أنا لم أقصد أن أهين الدين فأنا أيضًا يهودي ومُعَلِّم، لكن الوضوءَ والغُسلَ كَكُلِّ الطُقوس والتقاليد لم تَكُن إلّا رموزاً تُشير إلى الحقيقة وهي طهارة القلب. لقد أردتُ بما فَعَلتَهُ أن أقولَ إن الطهارة الحقيقية هي الطهارة التي تظهرُ من خلالِ مَحَّبَّة اللهِ والناس، والتعلق بالخير والحق والجمال. لم يكُن الوضوء في ديننا اليهودي قبل الصلاة أو قبل الطعام إلا إشارةٍ جَسَدِيّةٍ لهذِهِ الحقيقة الروحية. أَمّا الآنَ، فقد قارَبَ زمنُ الرمزِ على الانتهاء، وجاء زمنُ الحقيقةِ نفسُها. لقد آن الأوان لكي يختبر الإنسانُ الطهارة الحقيقية، فَليسَ يُنَجِّسُ الجَسَدَ تُرابٌ أو عَرَقٍ أو إفرازات، وإنما ما ينجِّسُهُ فهوَ الشهوةُ والتعالي والكراهية.
-        ولماذا لا يكون الإنسان متواضعًا وفي نفس الوَقت يُحافِظُ على طُقوسِ الدين؟
-         من سخريات الحياة البعيدة عن الله أن يكون الدين نفسه وسيلةً للتعالي والكراهية، وتقسيم الناس إلى أُناسٍ أَفضَلَ وأُناسٍ أَقَلّ. عزيزي سمعان، لا يُدَنِسُ جَوفَ الإنسانِ ما يدخُلُ إليه من أنواع طعام كلحم الخنزير أو الأطعمة البحرية غير الطاهرة أو أكل اللحوم مع منتجات الألبان وغير ذلك من طقوس الأكل اليهودية. كُلُّ هذِهِ تدخُلُ إلى الجَوفِ ثُمَّ إلى الخَلَاء وهذا يطهر كل شيء. إن ما ينجس الإنسان فعلًا هو ما يخرج منه، من كلماتٍ تَجرَح وأفعالٍ تُهين. لقد قَصَدتُ أن أُعلِنَ أنَّ زَمنَ الرموزِ قد انتهى وجاء زمنُ الحقيقة.
-        استئذنك يا مُعلم أن نعود لموضوعِ سَمعان والغيورين، ما رأيك يا معلم فيهم وفيما يفعلون؟
-   بالطبع يا يوحنا، أنا لا أؤمن بَنشرِ الإيمانَ بحَدِّ السيف فما أُخِذ بالسيف بالسيف يؤخذ، والدولة القويةُ في عصرٍ، تُصبِحُ ضَعيفةً في عَصرٍ آخر، وتشرَب من نَفسِ كأسِ الظُلمِ والهَوَانِ الذي سَقَتهُ لغيرها في وقتٍ سابق. لكنني أحبُّ سمعان وأرى أنه يبحث عن الله والله أيضًا يبحث عَنهُ.
 
*  *  *                                                       

قاربتِ الشَمسُ على المغيب عندما دَخَلَ يسوعُ وتلاميذه قانا الجليل؛ حيث قادهم إلى منزل سمعان الغيور. طرق يسوعُ البابَ، لم يفتح أحد. ثم طرق مرةً أخرى، وبعد الطرقة الثالثة، فُتِح الباب وظهرت امرأةٌ شابة خائفة.
-        السلام لكِ يا سيدتي.
-        ولكم السلام. من؟ من أنتم؟
-        نحن أصدقاء لسمعان جئنا من كفر ناحوم، هل هو موجود؟
-        ألستم تعرفون؟ سمعان في السِجن منذ ثلاثة شهور. لقد قام الحُكّامُ بحَملةَ اعتقالات لقيادات الغيوريين لأنّهُم يقولون أن تأثيرهم على الشعب قد زاد مؤخراً بسبب الفقر. أقصد، هذا ما يقوله الناس، لست أدري.
-        أَعرِفُ ذلك، ولكنني أعرف أيضًا أنه سوف يخرج الليلة، لذلك جئت مع تلاميذي لنقابله.
-        تلاميذك؟ أنتَ مُعلمُ دينٍ إذًا؟
-        نعم أنا يسوع الناصري. لقد حضرت زفافكِ منذ عام، ألا تذكرينني؟
-         يسوع، نعم لقد تغيرت كثيرًا يا معلم. بالفعل، لقد باركت زفافنا وكان زفافًا سعيدًا بحضورك، لكن، أنا خائفة جدًّا على سمعان.
-        لا تخافي يا ليئة لن يصيبه مكروه.
بعد أن دعت ليئة زوجة سمعان يسوع وتلاميذه للدخول وأعدت لهم مائدة العشاء، قَصَّت لهم باكيةً، الكثير عن حياتهما، وعن سمعان الذي كان يغيب عنها بالأسابيع الطويلة في مهام كانت تكلفه بها الجماعة وكيف كانت تحاول أن تثنيه عن انخراطه في هذا الطريق، لكن بلا جدوى.

سمع الجميع طرقًا على الباب فراحت ليئة تفتح الباب، وإذا به سمعان يدخل ويظهر عليه الإعياء الشديد، وفجأةً سَقَطَ على الأرضِ أمام الجميع وظنوا أنه قد مات. صرخت ليئة صرخةً شديدةً، فوَضَعَ يسوعُ يَدَهُ على كَتِفَها ليُهَدِّئَها: «لا تخافي يا ليئة. لم يمُت».
مَدَّ يسوعُ يدَه ووضعها على ظهر سمعان الملقى على الأرض وأغمض عينيه وراح يصلِّي. بعد لحظات، بدأ سمعان يتحرك ثم بالتدريج همَّ واقفًا ونظرات الدهشةُ باديةٌ على وَجهِهِ المُنتفخ المَليء بالكدمات الحمراء والزرقاء.
-         حمدًا لله أنهم أطلقوا سراحك أخيرًا يا سمعان مع أنهم تركوك في الصحراء، سامحهم الله.
-         كيف عرفت هذا يا سيدي؟ ثم من أنت؟ أظنُّ أنني أعرفك.
-         هل نسيتني يا سمعان؟ أنا يسوع الناصريّ.
-         يسوع. نعم... آه... كنت أتمنى أن أراك منذ زمنٍ طويل. لقد ذاع صيتك كثيرًا هذه الأيام في كل المنطقة. لم يكن أحد يصدقني عندما أقول أنني لَعِبتُ مَعَك في الحارة عندما كنا أطفالًا، عذرًا سيدي.
-        لا تعتذر يا سمعان يا صديقي. أنا فخور بصداقتك. لقد كانت أيام جميلة. هل تذكر عندما لَعِبنَا ذاتَ يومٍ ولَطَّخنَا مَلابِسَنا بالطين ورفضت أن تذهب إلى بيتك إلا بعد أن نذهب أنا وأمي معك كل لا تضربك أمك؟
قال سمعان ضاحكًا: « نعم، لكنها ضربتني بعدما انصرفتما».
-        كيف حال والدتك؟
-        هي بخير. لا تزال تَسكُنُ في منزلنا القديم حيث حضرتَ عُرسنا. هل تذكر؟  المهم. أنا سعيد جدًّا لرؤيتك. إننا نُعلِّق آمالًا كبيرة عليك يا مُعَلِّم، ولكننا لا نفَهَم لماذا تضيع وقتك في التعليم وشفاء المرضى. المَرَضُ الحقيقيّ الذي نحتاج لأن نُشفَى منه كلنا هو الاحتلال الروماني والحكومة الفاسدة الموالية للغرب. العودة للشريعة هو الحَلُّ لكُلِ مشكلاتنا، والتخلص من الحكم الروماني الكافر هو الأمل الذي يراودنا جميعًا لنسترد كرامتنا السليبة. لا بد أن تتحرر القدس من نجاسة الرومان. لقد انقسمنا بشأنك، ولكن للأسف، فَقَدَ أغلب الغيورين إيمَانَهُم بأنك أنت المخلص الآتي.
-        سمعان أنا أعلم أنك تبحث عن الحقيقية.
-        نعم.
-        سمعان، إنني أدعوك أن تكون من تلاميذي.
وقف سمعان وكأن شيئًا ما حل عليه واغرورِقَت عيناهُ بالدموع واحتضن يسوع وبكا بكاءً شديدًا في حضن يسوع كطفل وجد أباه الذي كان يبحث عنه منذ سنين.

كان تلاميذ يسوع يندهشون كثيرًا من التأثير الذي تُحدِثه دعوة يسوع. كأن هذه الدعوة تدخل إلى ما هو أعمق من عقل من يسمعها، فلا يستطيع إلا أن يستجيب لها وكأنها قَدَرُه الذي كان ينتظره منذ أن وُلِد.

قضى يسوع وتلاميذه الليلة ضيوفًا على سمعان القانوي الغيور. وفي الصباح، عندما عَلِمَت قانا أن يسوع يبيت في بيت سمعان، جاءت المدينة كلها إلى بيت سمعان، فخرج يسوع إلى ساحة المدينة واجتمعت المدينة كلها هناك، وقضى يسوع النهار كله يعلم ويشفي وكان تلاميذه حوله يحمونه من تدافُع الجموع لكن كان البعض يلقي بنفسه عليه فقط ليلمسه فيشفى.

وفي صباح اليوم التالي، هَمَّ يسوعُ وتلاميذُه بمغادرة قانا عائدين إلى كفر ناحوم وقد اصطحبوا معهم سمعان وزوجته ليئة.















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق