الأربعاء، 18 مارس 2015


13

لاوي

عندما عَادَ يسوعُ وتلاميذه إلى كفرناحوم من إحدى رحلات الدعوة في قرى الجليل، وجدوا بعضًا من أقاربهم يزورون أمه مريم التي مكثت بالبيت. كان هؤلاء الأقارب هم عم يسوع، أخا يوسف، وكان يُدعَى بالآرامية «حلفي» وباليونانية كان يسمى «كالافاي» أو اختصارًا، «كلوبا»، وزوجته مريم وولديهما يعقوب ويهوذا تدَّاوس الملقب أيضًا لبَّاوس.
كان لهذه الزيارة أَثَرٌ بالغٌ في نفس يسوع، فهذا أَوَّلُ اتصالٍ لَهُ بعمه منذ أن وُلِد. كان حلفي من أشد المعارضين لزواج يوسف من مريم، ولذلك قام بمقاطعة يوسف حتى مات، لأنه رأى أنه لطخ سمعة العائلة في الطين بزواجه من هذه المُخادعة التي تَدَّعي أنها حبلت بالروح القدس وهي عذراء، لكن ظلت مريم زوجة حلفي على علاقة سرِّيَة بمريم أم يسوع فهن صديقات منذ الطفولة، وكانت هذه الصداقة وراء ترشيحها لمريم للزواج من أخي زوجها يوسف بعد أن تأخر زواجه حتى تجاوز الخمسين من العمر بسبب زهده عن الحياة الدنيوية وتكريسه أغلب وقته للصوم والصلاة والحياة المتقشفة.
لقد كان يوسف يتبع تقليد الآسينيين في الانعزال عن العالم، ولكن بصورة غير رسمية وغير كاملة، فقد كان لا يزال يمارس نشاطه في دُكَّان النجارة، لكنه لم يكن يعمل بصورةٍ منتظمةٍ، وكان يقضي أغلب وقته في الدكان يصنع محاريث وفؤوس يبيعها بنصف الثمن المعتاد أو حتى يمنحها بالمجان للفلاحين الفقراء الذين لم يكن لديهم المال الكافي، بعد أن يقوم عشارو بنك التسليف الزراعي بالقضاء على كل ثمن محصولهم وتسليفهم بالفائدة الكبيرة لشراء البذور لمواصلة الموسم الزراعي.
كانت مريم زوجة حلفي تدرك أن مريم، لكونها فتاة تقية زاهدة في العالم هي الأخرى، فهي لا تَهتَمُ كثيرًا بالزواج من شاب صغير، لذلك كان من الممكن أن ترضى بخطبة يوسف والحياة معه خاصةً بعد أن تدهورت صحته وتوفيت أمه وأصبح في حاجة لمن يشارِكَهُ حَياتَهُ.
ظلت القطيعة قائمة حتى وفاة يوسف ونزوح يسوع وأمه من الناصرة إلى كفر ناحوم، لكن ما كان حلفي وأسرته يسمعونه عن مجد الله الذي يحدث على يديّ يسوع من شفاء عُمي وبُرص ومفلوجين وإخراج شياطين وإقامة موتى جعلهم يقولوا، كما كانت تقول كل فلسطين في ذلك الوقت، إن هذا نبيٌّ لم يقم مثله في إسرائيل ولن يقوم. لذلك شعر حلفي وزوجته بالذنب لأنهم ظَلَموا مَريم ويسوع وظنوا فيهما الظنون. لقد أصبح من الأسهل عليهم الآن تصديق أن يسوع ليس شخصًا عاديًّا، لذلك لم يكن من المُستَغَرَبِ أن يدخل إلى الدنيا بتلك الطريقة المعجزية.

عندما دَخَلَ يسوع ووجد أمه جالسةً مع عمه حلفي وزوجته مريم وابنيهما يعقوب ويهوذا هرع ليحتضن عمَّه وزوجة عمه وابنيهما. تَعَجَّبَ حلفي لكونه عرفهم فهو لم يَرَهم مطلقًا من قبل.
قال حلفي باكيًا: « حقًّا يا ولدي أنت نبيّ الله».
-        لَكَم أنا سعيدٌ بمجيئكم الليلة يا عَمّي!
ونظر إلى يعقوب ويهوذا تداوس ابنَيّ عمه وقال: « هلموا ورائي ننادي بمملكة الله».

قال يعقوب: «لقد كنا نشعر بقوةٍ غريبةٍ تحركنا للمجيء إليك يا يسوع، وها نحن الآن قد عَرِفنا أن الله يريدنا أن نكون معك. سوف نترك كل شيء ونتبعك يا يسوع».
ثم قالت مريم زوجة حلفي وهي تحاول أن تكفكف دموعها: «هذا هو اليوم الذي كنت أنتظره طوال ثلاثين سنة. لقد كنت أؤمن بعمل الله فيك يا يسوع، وكنت أُصَدِّقُ ميلادك من الله، لكن لم تكن لديَّ الشجاعة للبَوحِ بذلك. لقد كنت أُصَلِّي أن يجمعنا الله معًا، وهذا ما حدث. الآن نحن لم نعد فقط لبعضنا البعض كأسرة، لقد عدنا إلى الله وها نحن نشاهد بعيوننا افتقاد الله لشعبه»
قال يسوع: « سوف ترين ما هو أعظم من ذلك حين أمضي».
نظرت مريم زوجة حلفي لمريم أم يسوع باستغراب لأنها لم تفهم ما قاله يسوع، لكن مريم أم يسوع نظرت إليها بابتسامة وربتت على ركبتها قائلة: «مريم يا أختي لا تحاولي أن تفهمي كل ما يقوله يسوع، فهو يقول أشياءَ غريبة تعلَّمنا أن نقبلها كما هي ثم نفهمها فيما بعد».

ثم قال حلفي بلهجة ذكورية حاسمة: «سوف لن نعود للناصرة، سوف نظل معكم، نحن جميعًا تلاميذك يا يسوع. سنسير كلنا خلفك. سنبيع كل ما لنا في الناصرة ونعيش معكم هنا في كفرناحوم وكل ما نملك سنضعه تحت تصرفك أنت وتلاميذك».

                                     * * * *

دَخَلَ لاوي مكان الجباية وهو عبارة عن كُشكٍ خشبي يقع على الحدود بين كفرناحوم وبيت صيدا اللتين يفصل نهر الأردن بينهما. وكان النهر يُعتَبَرُ حُدودًا طبيعية بين المناطق الأُمَمِيَّة في الشرق، مثل المُدُن العشر وبيرية، وكورة الجدريين، والمناطق اليهودية، أو شِبه اليهودية في الغرب مثل الجليل واليهودية والسامرة. كانت هذه «الأكشاك» مُؤَمَّنة جيدًا بفرق رومانية مدربة لحِفظ الأمن وضبط نظام الجمارك والضرائب.
 كان البرد قارصًا في هذا الصباح الغائم من شهر ديسمبر الذي يحتفل الرومان قرب نهايته بالإله ساتورن (زُحَل) وبالولادة الجديدة لقرص الشمس.
رَتَّبَ لاوي السِجِلَّات التي يدوِّن فيها الضرائب التي يجمعها من الداخلين والخارجين من كفر ناحوم ونحَّى جانبًا كتابًا لشيشرون كان يقرأ فيه عندما لا يكون لديه عمل، مُنَشِّطًا لغته اللاتينية التي كان يتعامل بها مع رجال الدولة الرومانيين، وذلك بالطبع بالإضافة إلى اليونانية التي يجب أن يتقنها كل من يمتهن وظيفةً عامةً، فهي اللغة الدولية التي يتكلم بها كل من لا يشتركون في لغة محلية مثل العبرية أو الآرامية أو العربية أو الفارسية أو غيرها.
من بعيدٍ ظهرت مجموعةٌ من الرجال والنساء يسيرون قادمين من بيت صيدا في اتجاه كفر ناحوم  وهم يرنمون بصوتٍ آخذٍ في الارتفاع...
حينئذ امتلأت
أفواهنا ضحكًا
وألسنتنا...
ترنُّمًا...
حينئذ قالوا بين...
الأمم أن الرب...
قد عَظَّمَ العمل...
مع هؤلاء...
عظَّم الربُّ...
العمل معنا...
فصرنا فرحين...
بإلهنا...
تعجب لاوي غاضبًا من حماسهم وفرحهم وضوضائهم في هذه الساعة المبكرة من ذلك الصباح البارد فخرج من كشك الجباية ووقف رافعًا يديه عاليًا وصاح: « توقفوا عن الغناء وقفوا صفًّا واحدًا حتى يتسنَّى لي مراجعة إقراراتكم الضريبية».
تَحَوَّلَت الجماعة إلى صفٍ واحدٍ منتظم وهم لا يزالوا يضحكون ويدندن بعضهم بصوتٍ خفيض بلحن الترنيمة وبعضهم أخرج إقراره الضريبي الذي كانوا دائمًا يحتفظون به لتَوَقُّعِهُم المرور بأماكن الجباية الواقعة على الحدود بين قرى ومدن الجليل التي يسافرون منها وإليها طوال الوقت. وعندما كان يتضح أن على أحدهم ضريبة لم يدفعها، فإنهم يخرجون من الصندوق (حسابهم المشترك الذي كان يقوم عليه التلميذ يهوذا ابن سمعان الإسخريوطي) ليَدفعوا لِمَن لم يَدفع ضَرائِبَهُ. وكانت هناك بعض النسوة الموسرات مثل يُوَنَّا امرأة خوزي رئيس ديوان هيرودس، يرافقن يسوع والتلاميذ أحيانًا، وينفقن على الخدمة بسخاء مما جعل الصندوق دائمًا يفيض عن الحاجة ويتبرعون منه أيضًا للفقراء.
عندما جاء الدور على يسوع ليمثُل أمام لاوي. وعندما هَمَّ لاوي بالنظر إلى أوراقه، وضع يسوع يده على الأوراق، فرفع لاوي رأسه، وعندما تلاقت عيناه بعيني يسوع، نظر يسوع إلى لاوي في عينيه مباشرة وقال له: «اتبعني».
لم يدرِ لاوي بنفسه إلا وقد ترك كل أوراقه وكتاب شيشرون، وأغلق الكشك الخشبي بالمزلاج، وسلم المفتاح إلى قائد الفرقة الرومانية ومضى مع يسوع وتلاميذه.

بُهت التلاميذ مما حدث، بالرغم من كونهم يعرفون تأثير هذه الكلمة عندما سمعها كلٌّ منهم وغَيَّرَت حياته تمامًا. شعر بعضهم بالفرح والبعض الآخر بالغيرة، فلا بد أن هذا التلميذ الجديد الموظف المثقف سوف يحتل مكانةً عاليةً بين التلاميذ، ولكن على أي حال غلب مزاج الفرح عليهم وبعد أن تبادلوا الأحاديث مع لاوي وهنئوه بالانضمام إليهم عادوا إلى ترنيمتهم...

الذاهب ذهبًا بالبكاء...
حاملًا مبذره...
مجيئًا يجيء بالترنم...
حاملًا حزمه...

حاول لاوي أن يلتقط اللحن بالرغم من أنه يعرف كلمات هذا المزمور جيدًا وسبق أن حفظه في الكُتَّاب وهو طفل، وسمع المصلُّون يتلونه أثناء صعودهم للهيكل في العيد، عندما كان يذهب مع أسرته للعيد وقت أن كان طفلًا، ولَمعَت في زاوية عينيه دمعتان عندما تذكر أباه وأسرته التي تبرأت منه عندما صار عشَّارًا.
بدأت بيوت كفر ناحوم تظهر تدريجيًّا في الأفق بينما كان شريطُ حياةِ لاوي كله يمر في مخيلته وعيناه لا تزالان ترسلان دموعًا ساخنة بللت تمامًا الجزء السفلي من «التلفيحة» الصوفية الفاخرة التي كان يلفها حول رأسه ورقبته لتقيه من البرد. لم يشأ أيٌّ من التلاميذ أن يقترب منه فهم يعرفون تلك الحالة جيدًا. وعندما جاء المساء أقام لاوي مأدبةً عظيمةً في بيته دعا إليها الكثير من كبار العشارين وأعيان كفر ناحوم احتفالًا بيسوع وبانضمامه لتلاميذه. 

سمع الكتبة والفريسيين بخبر هذه الحفلة فجاء أحدهم إلى يسوع غاضبًا في اليوم التالي.
-        أيها المعلم الصالح يسوع، أنا من أشد المعجبين بك خاصةً أنك من المعلمين المحافظين مثلنا الذين يؤمنون بكل الكتاب، وبالملائكة والحياة الأبدية، لكن لنا عليك أمرًا واحدًا.
-        ما هو يا عزيزي إسحاق؟
-        أنك تقبل عشارين وتأكل معهم. لقد سمعنا أن لاوي بن حلفي قد صار من تلاميذك وأقام لك ولتلاميذك وليمةً دعا إليها الكثير من العشارين غير التائبين الذين يُذيقُونَ شعبَنا العذاب. كيف تُسَلِّم عليهم وتأكل معهم على مائدةٍ واحدةٍ؟ ألا يعد قبولك لهم موافقةً على ما يفعلون؟ ثم ألا تعلم أن تقاليدنا تقول إن من يأكلون على مائدة واحدة، يشاركون بعضهم البعض فيما هو أكثر من الطعام؟
-         ليس بالضرورة أن قبولي لهم يعني موافقتي على ما يفعلون. هناك فرق بين القبول والموافقة
-        لكنهم خطاة.
-        وأنا أتيت من أجل هؤلاء الخطاة.
-         كيفَ؟
-         لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى، وأنا لم آتِ لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة.
-        هذا الكلام خطير يا مُعَلِّم. أنت هنا تقول إن الخطاة مرضى، وبهذا ترفع المسؤولية من عليهم.
-         أبدًا. كل إنسان مسؤول عن كل ما يفعل.
-        أنت تقول مرضى؛ أي أنهم غير مسؤولين.
-        الخطية مرض واختيار في نفس الوقت.
-        كيف؟
-        الابن المولود لأبٍ خاطئ، مُعرَّض للخطية أكثر من غيره، لكنه يستطيع في نفس الوقت أن يخرج منها. كل إنسان مولود من نسل آدم يحمل جرثومة الخطية، لكنه في نفس الوقت يستطيع أن يفتح قلبه لله للخلاص. لقد لدغت «حَيَّة الخطية» الجميع وسُمُّها يسري في دماء الجميع، لكن كل إنسان مسؤول أن ينظر إلى «الحَيَّة النُّحاسية» فيحيا.
-        هذا كلامٌ مُعَقَّد أنا لا أقبله، وما علاقة ما أقول بالحية النُّحاسية؟ وكيف ينظر الإنسان اليوم للحية النُّحاسية التي أمر الله موسى أن يقيمها في البَرِّية؟
-        كما رفع موسى الحية لكي يُشفى من سُمِّ الحية من ينظر إليها بإيمان، هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان، لكي ينال كُلُّ من يؤمن به الخلاصَ من سُمِّ الخطية.
-        ما هذا الذي تقوله؟ أنا لا أفهم شيئًا مما تقول. أنا أعرف شيئًا واحدًا، الحلال واضح والحرام واضح، ومن يقع في الحرام فهو آثمٌ مجرم، يحتاج للعقاب وليس مريضًا يحتاج للعلاج. هذا الذي تقوله تمييعٌ للحقائق ورُخصةٌ للعُصاة لكي يهربوا من المسؤولية. سامحني، أنا لا أستطيع مواصلة الحديث معك. فأنا أخشى على إيماني من مثل هذه الأفكار.
-         كما شئت يا صديقي. الرب معك.
-         نعم هو معي، لكني لا أظنه معك.
قام إسحاق الفريسي غاضبًا وهو يفكر كيف يمنع يسوع هذا من تضليل الشعب.














ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق