الخميس، 1 أغسطس 2013

حلقتان من "مملكة الله" معاً


2
جماعة قُمران

تحول لون الشمس إلى البرتقاليّ المائل للحُمرة، وصارت مثل قرصٍ كبيرٍ مرسوم بيدٍ ثابتةٍ لتلميذٍ تجاوز العاشرة وتعلمَ أن يلوِّن دون أن تخرج الألوان عن الحدّ. في هذه الساعة من الغروب، انصاعت أشعة الشمس الحارقة، وصارت مُرَوَّضة، لا تخرج عن حدود ذلك القرص البرتقالي الهائل الذي يعلو هامات جبال قُمران ويمكنُ للعين المجردة أن تنظر إليه طويلاً وتتأمل جماله الأخَّاذ. بدأت أضواء مصابيح زيتية مرتعشة ترصع الفضاء الذي بدأت تزحف عليه الظلمة مثل نقوش ذهبية متفرقة على ثوب سهرة داكن الزرقة. وبدأ سكونُ المكانٍ ترصعه أيضاً أصواتُ تراتيل خافتة، يَتَخَلَّلُها صوتُ الريح الذي يُصَفِّر في فتحات الكهوف المتناثرة حول الوادي. كان وادي قُمران يقع على بعد نحو ميلٍ إلى الغرب من الطرفِ الشماليّ الغربيّ للبحر الميت، وعلى بعدٍ يزيدُ قليلاً عن ثمانية أميال إلى الجنوب من أريحا. مكانٌ منعزلُ، بعيد جداً عن أورشليم العاصمة ،لذا فقد كان موقعاً مثالياً لتلك الجماعة التَقِيَّة التي اختارت لنفسها الهجرة عن المجتمع الأورشليمي الكافر، لكي تنتظر مجيء المسيا وتَحَقُّق مملكة الله.
..اللهم انصرنا نحن أبناء النور..على القوم الكافرين
...اللهم شتت جمع أبناء الظلمة
... ليأت ملكوتك على الأرض
... يا أيها الاسم الحقيقي
... اللهم انصر إسرائيل
... ولينهزم الكفر والشرك
.. اهدم أشباه الحقائق
.. والكهنوت الشرير
.. اللهم أنصر المعلم البار
.. الهادي المهدي المنتظر
.. وليأت المسيا
.. الذي تنتظره جميع الشعوب
.. ليسود السلام على الأرض
لقد كانت هذه الطائفة تتكون من جماعة من الكهنة المُنْشَقِّين عن النظام الكهنوتي الحالي و بعض من الشعب من غير طائفة الكهنة، يعيشون حياةً مشتركةً من التقوى والتديُّن الشديدين، في الكهوف المنتشرة حول وادي قُمران. وكان لديهم مبنى رئيسي يشغل مساحة إثنا عشر قدماً مربعاً و في الجانب الشمالي منه كان يقع المطبخ و حجرة الطعام التي يأكل فيها أفراد الجماعة معاً كل الوجبات وفق نظام دقيق. فيه يجلس كلُ واحدٍ بحسب رتبته، ويقوم المعلم الكبير بمباركة الخبز والخمر، ثم يتلون صلوات الشكر منتظرين يوم أن يجلسوا إلى مائدة المسيا الذي سوف يأتي لتبدأ مملكة الله.  وإلى الجنوب الغربي كانت توجد خمس حجرات تستخدم كأماكن للدراسة والصلاة. ومن بين هذه الحجرات الخمسة، كانت حجرة النُسَّاخ الذين كانوا يقضون أكثر من عشر ساعات يومياً منهمكين في نسخ التوارة وكتب الأنبياء على رقائق من جلد الماعز موصولة معاً، ويقومون  بلفِّها بعناية في لفائف من الكتان ثم وضعها في أواني فخارية أنيقة يصنعونها بأنفسهم في المستوطنة ذاتها.  وكان في الركن الشمالي الغربي من المبنى، برج حصين يتناوب شباب الجماعة على حراسته نهاراً وليلاً ليستطيعوا مراقبة الطريق والهروب قبل مجيء حملات الاعتقال التي كانت تقوم بها القوات الخاصة المدعومة بأفراد الأمن المركزي لتعتقل بعض من قادتهم وهكذا تبقي عليهم ضعفاء، وذلك لأن الحكومة المركزية في أورشليم تخشى قيامهم، بعد طول الانتظار، بتحقيق مملكة الله بأيديهم. وهذا ما كانت تتبناه جماعة منهم أكثر عسكرية وهي جماعة الغيورين التي تتعرض لقمع الدولة أكثر منهم.
                                         * * * *
بعد افتضاح أمر أخته استير التي قد ضُبِطَت مع أحد الرجال بعد طلاقها، لم يستطع بنيامين أن يزور قريته مرةً أخرى، ليواجه كل يومٍ نظرات التعيير أو حتى نظرات الشفقة في عيون أهل القرية التي لم يكن لها حديث في ذلك الوقت إلا استير المرأة المطلقة سيئة السُمعة التي ضُبِطت مع رجل، ثم هربت من القرية. كان بنيامين يعرف أن ما دفع استير لما فعلته هو العُوَز، فبعد طلاقها لم تجد من يُنفِق عليها هي وطفلَتيها التي إحداهما رضيعة، بعد وفاة والدَيهما وانخراطه هو في سلك "الرهبنة" القيروانية، لكنه لم يسامحها أبداً.
منذ جاء بنيامين ليعيش في هذا المجتمع الديني الصارم اكتسب محبة الجميع من كهنة وغير كهنة، فقد كان من أفضل النُسَّاخ، وكان يقضي الساعات الطويلة ينسخ بدقة كل كلمةٍ من كلمات التوارة والأنبياء، حتى أنه الآن، بالرغم من كونه مُستَجَدّاً، قد أصبح صاحب الرقم القياسي في النَسخ. واليوم تتم السنوات الثلاث التي يمكن بعدها لبنيامين أن يصبح عضواً رسمياً في جماعة قُمران، فبعد اتمامه لبعض الطقوس المبدئية، ظلَّ بنيامين تحت الاختبار لمدة ثلاث سنوات تنتهي اليوم.
لم يدر بنيامين كيف يشعر اليوم؟ كان قلبه مليء بالفخر والإنجاز لاجتيازه فترة الاختبار، لكنه كان يشعر في الوقت نفسه ببعض من الحيرة ويتساءل إن كان قد اختار الطريق الصحيح في الحياة.
-        لا بد أنك سعيد اليوم يا بنيامين
رد بنيامين وهو يغمس ريشته في المحبرة الرومانية المصنوعة من الرخام، ثم تردد قليلاً وأعاد الريشة إلى المحبرة.
-         لنأخذ بعض الراحة. لا يمكن أن نتحادث هكذا ونحن ننسخ كلمة الله. أصدقك القول يا يوئيل يا أخي. لا أعرف فأنا لا أكاد أنام هذه الأيام. بمجرد أن يطلق نفير النوم مساءاً وأذهب إلى فراشي، تهاجمني الأفكار كالخفافيش التي تملاً الكهوف المهجورة حولنا.
-         فيم تفكر يا بنيامين؟
-         الكثير. إذا توقفت عن التفكير في قريتي، فإني أفكر في كلام العِظات التي نسمعها هنا عن الملكوت الآتي، والمعلمين الجُدُد الذين نسمع عنهم كيوحنا المعمدان مثلاً
-         ما المشكلة في أسرتك يا بنيامين؟
-         لاشيء. لا عليك بأسرتي. الأهم الآن هو ملكوت الله. الجميع يتكلمون عن ملكوت الله، ترى من هم الصادقون؟
-         بالطبع نحن. من المؤكد أن رئيس الكهنة الأورشليمي الفاسد وأتباعه لا يملكون الإجابة. نحن أبناء سيدنا إبراهيم الحقيقيين، نحن إسرائيل الحقيقية، وسوف يبدأ الحكم السماوي لكل العالم من هنا. من هذا المكان
-         كيف؟ لم يدر بخلدك ذلك السؤال: "كيف؟"
-         سوف يأتي المَسِيّا وسوف نكون نحن جنوده المخلصون. وسوف نهزم الحكم الفاسد في أورشليم ونحرر كل البلاد اليهودية من سطوة الغرب الروماني الكافر الذي يستخدم حُكَّامَنا كدُمَى يحركها كيفما يشاء. سوف يأتي "النبيّ" أولاً كما وعد الله موسى ليعد الطريق. ثم يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من إسرائيل، فيحطم طرفي موآب، ويهلك كل بني الوغى. وننتصر نحن بني النور على أبناء الظلام الكفار من بني الأمم غير اليهود، والفاسقين من اليهود المتآمرين والمتعاملين معهم. بدا يوئيل وهو يتكلم ووكأنه يخطب في مئات التابعين.
-        يوئيل، هل سمعت عن يوحنا المعمدان الذي يُعمد الناس للتوبة في نهر الأردن؟
رد يوئيل وهو يحاول التخفيف من حِدّة حماسه: نعم وقد ذهبت بالفعل واعتمدت منه.
-        هل فكرت فيم يقول؟
-         الحقيقة لم أفكر كثيراً. لقد كان كل ما يهمني هو إتمام الطقس. فالمعموديات، كما تعرف، أمر ضروري جداً يا بنيامين للتطهير متى توفرت التوبة الحقيقية والحياة المنضبطة و...
-        قبل أن تعظ مرة أخرى يا يوئيل، دعني أقول لك، فأنا أيضاً قد ذهبت واعتمدت من يوحنا، لكني منذ ذلك الحين وأنا لا أستطيع التوقف عن التفكير فيما يقوله.
-        الحقيقة أنا لم ألتفت كثيراً لما يقوله
-         لقد توقفت كثيراً عند عبارة المعمدان "أن الله قادر أن يصنع من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم"
-        كلام غريب
-        اسمع أيضاً ما قاله عن المسيا
-        ماذا قال؟
-         قال: " أنا أعمدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار. كيف تكون معمودية الروح القدس هذه؟ ثم، ألعل  يوحنا المعمدان هذا يكون "النبي" يا يوئيل؟
-        لا أدري
-        عموماً دعنا نعد إلى عملنا. أنا لا أريد أن يقل إنتاجي، وبالذات في اليوم الذي سوف أنضم فيه رسمياً للجماعة.


3

يسوع في أورشليم القُدس

بدأ الربيع يبعث الدفء في أنحاء الجليل بعد شتاءٍ قاسٍ. بدأت أغصان الأشجار الجافّة العارية تُخرِجُ براعم غضة زاهية الخضار، تداعبها ريح الفجر الربيعي فتتأرجح كأطفال فطيمة تبدأ في تعلم المشي في خطوات متأرجحة سريعة، ثم لا تلبث أن تتعثر و تسقط، لكن إرادة الحياة تدفعها من الداخل لمواصلة المحاولة.  خرجَت العصافيرُ من أعشاشِها مع الصباحِ الباكر تحتفلُ بالدفءِ والنماء. وأصواتها التي تشبه مجموعة صفافير في أوركسترا هائلة بلا قائد، تُرَصِّعُ سماءَ الفجرِ الجليليّ الطازَج.
الأسبوع الأول من شهر إبريل (نيسان). الفصح يقترب. وهو الفصح الأول ليسوع بعد تركه مهنة النجارة وانخراطه في الخدمة الروحية المتفرغة.
 كان يسوع معتاداً أن ينزل مع أمه مريم ويوسف واخوته للعيد كل سنة، و ذات مرة عندما كان في الثانية عشر لم يعُد معهما للجليل ومكث في أورشليم. أما أبواه فلم يعرفا وظنا أنه معهما في القافلة العائدة للجليل يلهو مع الأطفال. وبعد مسيرة يومٍ كامل شعرا ببعض القلق.
-        يوسف. أين يسوع؟ غريب أنه لم يأت ليبيت معنا في الخيمة
-   لا تقلقي يا مريم، لعله بات مع سمعان والصبية الآخرين يلهون.  أنت تعلمين لقد اقترب الآن من المراهقة. يجب أن نعطيه مساحة من الحرية.
-         أنا قَلِقَة يا يوسف. أنت تعرف. ليس هذا طبع يسوع. سأذهب لأفتشَ عنه
-         سآت معك
ولما لم يجدا يسوع في القافلة مطلقاً، قررا العودة إلى أورشليم ومعهما بعض الرجال للبحث عن يسوع في أورشليم. وعندما غابت شمس اليوم الأول ولم يجداه استجرا غرفة في خان صغير لقضاء الليل وفي الصباح يواصلا البحث عن يسوع
-        ما لك يا مريم. هل تبكين؟
-   ألعل هذا هو السيف الذي قال سمعان الشيخ أنه سيجوز في نفسي؟ ثم كيف يختفي يسوع هكذا؟ وأين الوعود التي صاحبت ميلاده؟ ألعلها كانت تهيؤات. ألعلها أمانينا نحن بالخلاص.
-         اهدئي يا مريم.. سوف نجده.
-         أين نجدْه لقد فتشنا أورشليم كلها؟ لماذا يعطيني الله ابناً بدون رجل، ثم يأخذه هكذا قبل أن يصير رجلاً؟
-        نامي الآن وفي الصباح نجده بإذن الله.

أشرقت الشمس على أورشليم وهي تنزفُ  قوافل الحجيج النازلة من الهيكل المرتفع مغادرة المدينة المقدسة في جميع اتجاهات فلسطين، ومنها من كان مقصده إلى أبعد كثيراً.   يتنفس سكان أورشليم الصعداء بعد الزحام الرهيب الذي يعانون منه طوال الأسبوعين الأولين من شهر أبريل من كل سنة.
-        لم يبق إلا الهيكل. هيا نذهب يا يوسف
-   من غير المعقول أن يكون يسوع في الهيكل. أنت تعرفين أن الكهنة لا يسمحون لأحد بالبقاء في الهيكل بعد انتهاء مناسك الحج، فكم بالحري الأطفال.
-         لا أعلم. قلبي يقول لي أنه في الهيكل.
-         لنذهب على أي حال
دخل يوسف ومريم إلى الهيكل حيث كان اللاويون، خُدَّامُ الهيكل، يقومون بنشاط بتنظيف الساحة الخارجية من دماء وبقايا الأُضحِيات قبل أن تتعفن ليُلقوا بها في وادي هنوم أسف الهيكل حيث يتم حرقها. وحول أحد الأعمدة كانت مجموعة من الكهنة مجتمعة وكان يبدو عليهم الاهتمام كما لو كانت بينهم مناقشة حامية.
-    مولانا. أليست  الوصية الأولى في التوارة هي «اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» كيف يقول داود في المزمور المائة والعاشر: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ»؟ من هو "الرب" ومن هو ذاك الذي يدعوه داود "ربي"؟ وكيف يُكلِّم كل منهما الآخر؟
صَمَتَ الكهنةُ أمام سؤالٍ كهذا يسأله صبي عمره لم يتجاوز الثانية عشر.
-   لا تسأل عن هذه الأشياء يا فتى. أنت أصغر من أن نشرح لك هذه الأشياء. ثم لا تسأل أصلاً عن أشياء من الممكن أن تزعزع إيمانك. اعرف شيئاً واحداً أن الله واحد، واحفظ الوصايا. هيا انصرف الآن.
-         أعلم أن الله واحد. لكن.. على أي حال، أنا آسف إن كنت قد أزعجتك يا مولانا

خرج يسوع من وسط جماعة الكهنة، فأبصره أبواه فجَريا واندفعا نحوه واحتضناه وبكيا.
-        يا بنيّ. لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نبحث عنك معذبين
-        لماذا كنتما تبحثان عني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في بيت أبي؟
-    ما هذا الذي تقوله؟ بيت أبيك في الناصرة. هل اشترى أبوك بيتاً في أورشليم؟ هل ستعود للكلام الذي لا نفهمه. ثم صمَتت مريم هُنيهة، وبدا أنها فهمت ما يقول
-   أنا آسف يا أمي. سامحني يا أبي. لقد كنت أُصَلّي ونسيت نفسي. ثم عندما لم أجدك قررت أن أبقى لكيلا نتوه من بعضنا البعض، وقلت أنكما سوف تأتيان إليّ هُنا.  إنني في الهيكل أشعر بشيء غريب.  أشعر أن هذا مكاني وبيتي، ولا أشعر أنني أحتاج لأن أذهب لأي مكان آخر. سامحاني
-        وهل لم تخف لأنك لم تجدنا؟
-         أنا آسف، لم أخَف
مضى يوسف ومريم مع الرجال الذين أتوا معهم وكان يسوع يمشي وحده وراءهما وذهنه شارد في أشياء يفكر فيها ولم يقلها لأحد.
-        هل تعلمين؟ مرات أشعر أن هذا الولد ليس مِنّا. إنه ليس مثلنا.
-   في بعض المرات، حتى أنا، أشعر أنه ليس ابني. صحيح أنه خرج من بطني، ويخضع لي ويطيعني. لكنني في مرات كثيرة أشعر كما لو كان هو الكبير وأنا الصغيرة
يضحك يوسف ثم تخفت ضحكته وتتحول ملامحه للجد.
-         تصوري. أنا أيضاً أشعر بذلك أحياناً

*  *  *

إنه الآن أول عيد فصح بعد تمام يسوع الثلاثين. وهاهو يسوع ينزل إلى أورشليم للمرة الأولى بعد أن صار رسمياً رجلَ دين وانضم إلى طائفة الكتبة وهي طائفة معلمي الناموس والأنبياء.
وجد يسوع أورشليم وقد تغيرت كثيراً عما كانت عندما كان طفلاً. الشوارع أصبحت أكثر ازدحاماً. وجوه الناس أصبحت مُترَبَة مكفهرة ونادراً ما يرى ابتسامة على الوجوه. وعندما كانت تلتقي عيناه بعينيّ أحد المارة في الشوارع المزدحمة فيبتسم محيياً، نادراً ما كان يرد تحيته أحد بل في بعض الأحيان كان يتلقى نظرات حادة مستهجنة من المارة.

... ما بك يا أورشليم؟ ماذا دهاك؟
... لماذا يا مدينة الصلاة لم تعودي مدينة السلام؟ لماذا لم تعد صلاتك تعطيك سلاماً؟
 كلما اقترب يسوع من الهيكل كلما زادت كثافة الزحام فموسم الحج على وشك أن يبدأ وتعداد أورشليم يتضاعف ربما أربعة أو خمسة مرات خلال هذه الأيام. وأهل أورشليم بالرغم من ضيقهم بهذا الزحام إلا أنه فرصتهم السنوية لمزيد من الرواج ودخول العملة الصعبة القادمة مع الحجيج من كل البلاد الخاضعة للإمبراطورية الرومانية.

كانت أورشليم، بل وكل اليهودية والجليل تختبر حراكاً سياسياً واجتماعياً وروحياً شديداً وتتأرجح قلوب الناس، وبخاصة الشباب بين التطرف في الدين، وبين الشك فيه،  بين التزمت الشديد و التحرُّر المتجاوز لكل الحدود، فبين الدين "الرسمي" والحركات الروحية المتعددة، كانت وجوه الناس تَتَقَلَّب في السماء بحثاً عن الله، وعن الحقيقة.
كان الصدوقيون، وهم طائفة الكهنة الذين لا يؤمنون إلاّ بأسفار التوراة الخمسة، ويحفظون طقوس الذبائح في الهيكل، هم الذين يمثلون الدين الرسمي،  ومعروف عنهم تواطئهم مع الحكومة واشتراكهم معها في نفس درجة الفساد وحب المال. منهم بالطبع نيافة الحبر الجليل رئيس الكهنة شيخ الهيكل، ومفتي الديار اليهودية. كانت طائفة الصدوقيون تمثل الطائفة الليبرالية التي تقيم الطقوس والشرائع في العلن لكن إيمانها يميل إلى المادية، لذلك فقد كانت هي الطائفة المُفَضَّلَة لرجال الأعمال ورجال الدولة الذين يرون أنهم إذا أدّوا الصلوات في أوقاتها وأدوّا عشور الزكاة وحجّوا للهيكل وقدَّموا الذبائح والأّضحيات في مواسمها، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. كان الصدوقيون يؤمنون أيضاً أن النفس تموت مع الجسد ولا توجد قيامة أموات ولا خلود بعد الموت ولم يؤمنوا بوجود الملائكة أو الشياطين أو أي كائنات غير منظورة، وكانوا يؤمنون أن الله يبارك الإنسان الصالح بركة مادّية هنا في الأرض وكفى. وبالتالي يكون الثراء الماديّ  هو علامة رضا الله سبحانه، وهذا بالطبع كان يوافق ميلهم للسلطة والشهرة وجمع المال.
هكذا سيطر الصدوقيون على الهيكل، ورجال الأعمال على الاقتصاد ،ورجال السياسة على الحكم، وكان وشائج الصلة والمنافع المشتركة، وأيضاً المصاهرة، شديدة القوة بين هذه الطوائف الثلاث في فلسطين القرن الأول الميلادي.
هؤلاء بالرغم من سيطرتهم على الحياة الدينية الطقسية للشعب من تقديم الذبائح، ومراعاة الطقوس والأعياد وبالذات عيد ضحية الفصح الذي يأتيه الحجيج من كل بقاع الأرض، إلا أن الشعب لم يكن يثق بهم ولا يستمع إلى فتاواهم وأحكامهم. كان عامةُ الشعب مرتبطين أكثر بالفريسيين وهم الذين يؤمنون بكُل الكتاب من توراة وأنبياء وأحاديث يهودية عديدة، وتفسيرات شديدة الدقّة لكل أمور الحياة.  كان الفريسيون، من حيث العقيدة، يؤمنون بخلود النفس وقيامة الجسد ووجود الأرواح والجنة والنار، غير أنهم حصروا الصلاح في طاعة الناموس، فجاءت دياناتهم حَرفِيّة، ظاهرية وليست نابعة من القلب، فيطيلون ذقونهن، وأهداب أثوابهم ويُصلُّون قائمين مفترشين الشوارع وليس فقط في المجامع.

 كانت هذه الطائفة من الدُعاة المُتَشَدِّدين، هي الأقرب للشعب، فكان الناس يسألونهم عن أمور دينهم ودنياهم، فسيطروا على أغلب المجامع وراح الناس يستفتونهم في كل أمور حياتهم، من قضاء الحاجة إلى مباشرة النساء.  وكلما مارس هؤلاء الفريسيون غُلُواً شديداً في التحريم والتكفير، وكلما زادت كراهيتهم لنظام الحكم واتهامه بالفسق والفجور، كلما ازداد تَعَلُّقُ الناس بهم لكونهم يرون فيهم ما يتناقض مع فساد السلطة السياسية والدينية الرسمية، والدوائر المحيطة بها من رجال المال والأعمال والفن وأعلام المجتمع اليهودي.  لهذا السبب كان كل من يريد قبولاً من الشعب يظهر "التزامه" الديني بفروض الفقه الفريسي، ويعلن ارتباطه بنجوم الدُعاة الفريسيين الذين ظهرت منهم مؤخراً طبقة حديثة تستخدم لغة عاطفية بسيطة تصل إلى قلوب الشعب لكن يظل مضمون تعليمهم فريسياً متشدداً.
وسط هذه الخريطة الدينية، تاقت أرواح الناس، وبخاصة الشباب الباحث عن الصدق والحقيقة، إلى خبرة روحية حقيقية تُقَرِّبُ الإنسانَ بصدقٍ من معاني الوجود العميقة ومن أخيه الإنسان وتعطيه معنى جديداً لحياته. تاقت القلوبُ إلى علاقةٍ روحيةٍ شخصيةٍ مباشرةٍ بالله، بعيداً عن تقاليد الدين وتسلط رجاله على الناس. وقد ظَهَرَ هذا الشوق لله وللخبرة الروحية في صور ممارسات عديدة، منها من ظل متمسكاً باليهودية، ولكن في صُوَرٍ أخرى، تبحث عن الله بعيداً عن  الفساد الرسمي والتشدد الفريسي على حد سواء. ومنها من كفر باليهودية تماماً وذهب وراء الديانات السرّية ذات الأصول الوثنية، ومنهم من كفر بالعالم الروحي تماماً وأغرق نفسه في كل ما هو مادّي وحِسيّ.

من بين حركات التجديد الروحي اليهودية التي قامت في القرون الميلادية الأولى، حركة الآسينيين الذين يقال أنهم تفرعوا من الكهنة الصدوقيين رافضين ديانتهم المادّية وعاشوا في مجتمعات صغيرة في الصحراء حياة صوفية من النسك والفقر الاختياري ممتنعين عن الزواج أو أي من مباهج الحياة. من بين الآسينيين جماعة وادي قُمران التي ينتمي إليها بنيامين. هؤلاء عاشوا متوحدين في أنحاءَ متفرقةٍ من صحراء اليهودية. يرى البعض أن الآسينيين والغيورين شيءٌ واحد، وأنّ الآسينيون الذين لا يؤيدون العُنف في العلن، يساندونه في السِرّ.


أما الديانات السَرِّيّة، فكانت عديدة، أهمها كانت ديانة "مِثرا" التي كانت شائعة بالذات داخل الجيش الروماني، من القرن الأول إلى الرابع الميلادي وهي منسوبة للإله الفارسي "مِثرا" المولود من صخرة. و كانت تتم عبادة مثرا في معابد سرية  تحت الأرض، ومن ينضم لهذه الجماعة عليه أن يمارس طقوس خاصة فيها يقوم بذبح ثور والشرب من دمه والاغتسال بهذا الدم إيذاناً بولادته من جديد في الدين المثرائي ثم بعد ذلك يرتقي الداخل في هذا الدين سبعة رتب في الجماعة بقدر وفاءه بالطقوس والعهود.  كانت هذه الديانات السرّية تقدم للناس خبرة خاصة وتشبع احتياجاهم للعلاقات الحميمة وللدخول في مجتمع  آخر غير المجتمع  الذي يشعرون بفساده واليأس من تغييره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق