السبت، 4 أبريل 2015






32

زَكَّا
«يا زَكَّا... أسرِع وانزل، لأنه ينبغي أن أمكُثَ اليومَ في بيتك»
قال يسوع هذه العبارة  بصوتٍ عالٍ جدًّا ليسمعه زكا المُعَلَّقُ على شجرة جميز كبيرة وسط صخب جماهيري هائل اجتاح مدينة أريحا بعد أن دخلها يسوع. بعد أن قال يسوع عبارته، ساد صمت لعدة ثوانٍ لم تقطعه سوى همهمات اعتراض وصل بعضها إلى أذني يسوع وآذان تلاميذه:
- إنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ.
- هو لم يجرؤ أن يدعوه... لكن يسوع هو الذي اختار أن يبيت عنده. طبعًا فهو غنيّ وسوف يَمُدُّ له مائدة عظيمة.
- لو كان هذا نبيًّا لعلم أن زكا هذا رئيس العشارين.
- المصيبة هي أنه ربما يعلم أنه رئيس العشارين. هذا عيب يسوع؛  تعليمه آسِر، كلامه به سلطان، معجزاته لم يَعمَلها نَبيٌّ من قبله. لكن عيبه الوحيد هو تساهُلُهُ مع الخطاة.
- ومَحَبَّته للولائم والطعام والشراب.
- أنا محبط منه جدًّا... كنت أظنه بارًّا نقيًّا لا يختلط بالخطاة.
- هذا رجل مخادع.
نَزَلَ زَكّا من فوق الشجرة والفرحة لا تسعه، وصار يمشي وسط الناس بفخرٍ وخَيلاء، فهو قد أصبح في غفلةٍ من الزمن، مُضِيفَ يسوع لهذه الليلة. اصطحب زكا يسوعَ وتلاميذَه إلى بيته وهو يتمنى أن تراه الدنيا كلها يمشي متأبطًا ذراع يسوع، نعم إنه يسوع الذي تتمنَّى كل اليهودية والسامرة والجليل وكل سورية أن تنعم منه بنظرةٍ مُلهِمة، أو لمسة شافية.
صور من الماضي تقتحم ذاكرة زكا وهو يمشي مع يسوع.
مجموعة من الأطفال الصغار العنفاء يلتفُّون حول زكا القصير يعايرونه بقصر قامته ويضحكون، والغبار يملأ الجو حولهم.
خلال تلك اللحظات تاهت نظرات زكا وكأنه يرى ما لا يراه أحد. ثم فجأة يعود بنفسه للحاضر وينظر إلى يسوع بابتسامةٍ عريضةٍ محاولًا أن يجد أي معلومات دينية أو فقرات كتابية يتجاذب بها أطراف الحديث لكي يُشعِر نفسه ببعض الاستحقاق أن يكون الليلة مضيف المُعَلِّم.
-        أيها المعلم يسوع، لقد علمت أنك تقول إن ملكوت السماوات قد اقترب. هل معنى هذا أن الرومان قد أصبحت أيامهم معدودة بيننا؟  لقد سمعت أنك تتلو كثيرًا نبوات إشعياء عن اقتراب الملكوت. أنت تعلم بالطبع أن إشعياء هذا عاصر أربعة ملوك كان آخرهم حزقيا الملك المُصلِح.
نظر يسوع إلى زكا وابتسم في حنان ولم يقل شيئًا.
عادَت نَظراتُ زَكَّا تنظُرُ إلى الأفق وكأن روحًا غريبًا تملَّكه.
... يرى نفسه طفلًا يعود وحيدًا من «كُتَّاب» أريحا وعلى خدَّيه خطَّان بفعل الدموع التي جفَّت وقد حوَّلهما التراب إلى خطَّين من طين. أما قلبه الصغير فيشهَدُ تحوُّلًا تدريجيًّا من الخزي إلى الألم، ثم من الألم إلى الغضب ثم إلى المرارة. ثم إلى القرار والتصميم: «أُقسِم بالسماء وبالأرض وبهيكل أورشليم، أن يأتي اليوم الذي فيه أجعلكم كلُّكم تجثون لي وتستعطفونني. لا أعلم كيف، لكنِّي أعلمُ أني سأفعل ذلك».

عاد ذهن زكا للحاضر قليلًا وتعجب. كيف استطاع يسوعُ أن يرى جسدي الصغير مُعَلَّقًا على تلك الجُمَّيزة الهائِلَة وسط هذه الجماهير الغفيرة؟ لماذا قال إنه «ينبَغي» اليوم أن يمكث في بيتي؟ لماذا ينبغي؟ لعله كان يرى ما يدور بداخلي؟ لم يستطِع مالي ونفوذي أن يجتذبا من قبل أي شخصٍ من نوعية يسوع الناصري، بل على العكس، كان هؤلاء ينفُرونَ مني دائماً ويلقبونني بالسارق الخائن. لم أُعجِبْ يومًا طائفة المتدينين، ولا طائفة السياسيين الثوار الراغبين في تغيير الأمور. كان المنتمون لتِلك الطائفتين هم فقط الذين لا يتملقونني. لَكَم كنت أتمنى أن أضمهم أيضًا إلى المنتفعين من صداقتي الخاطبين ودِّي. وها أنا الآن قد ظفرت بأفضل من فيهم وأكثرهم شهرةً ومجدًا حتى أن مُدُنًا بأكملها تخرج لتمشي وراءه. هو الآن يمشي بجانبي ذاهبًا إلى بيتي.
لكن لا يزال شيءٌ صغيرٌ في أعماقِ قَلبي لا يريحني تمامًا. عندما التقت عَيناي بعينيه وأنا فوق الشجرة، رأيت شيئًا لم أَرَه من قبل في حياتي. لم أَرَ الغيرةَ أو الحسدَ اللذين كُنتُ أستطيع تمييزهما في عيون الناس من كثرة ما رأيتهم. كما لم أَرَ الضيق والدينونة والاحتقار الذي كنت أراه في عيون المتدينين. رأيت شيئًا لم أَرَه من قبل.
لا يهم كل هذا الآن. كل ما يهمني هو أن أحتفظ بيسوع بين يديَّ حتى يدخل تحت سقفي. أتمنى ألا يصادفه مريضٌ أو شخصٌ ملبوس بروح شرير فيقضي الأمسية معه ويعتذر لي.
رتَّب الخدمُ المائدة. ربما كانت أفخر الموائد التي مُدَّت في أريحا في الفترة الأخيرة. لم ينقصها شيء من أطايب الطعام والشراب. الجميع سعداء. رائحة الشواء اللذيذة تتصاعد من الخروف متوسط العمر الذي اتخذ مكانه المميز في وسط المائدة. كان زكا لأول مرة منذ فترة طويلة سعيدًا، سعيدًا بحق. لكن شيئًا ما قويًّا كان يحدث في أعماقه ويُلهِبُ قَلبَهُ كما ألهبت نار الشواء ذلك الخروف الذي سوف ينشغل الجميع بالتهامه بعد دقائق.
لم يسألني إن كانت أموالي التي سوف أستضيفه بها حلالًا أم حرامًا. لم يهتم. سوف يأكل طعامي، ويبيت تحت سقفي. أَلا يعلم أني رئيس العشارين؟ أَلا يعلم مصدر تلك الوليمة؟ وذلك البيت؟ هل سَيَملَأُ جَوفَهُ الطَاهِرَ بهذا المال الحرام، الذي يقولون عنه إنه لا يُشبِع بل يُلهِبُ؟
أَطرَقَ زكا بعينيه بعيدًا وبدا وكأنه يتكلم لنفسه في الداخل بدون كلمات.
عندما كنت أعود للبيت معذَّبًا من تعييرات الأطفال، كنت أجري لاهثًا باحثًا عن حضن أمي لكي أطفئ فيه نيران ألمي وخوفي. لكني كنت أجدها دائمًا جالسة أمام الفُرن. عاشت سِتِّينَ سَنَةٍ جَالسةً أمام الفُرن. كنت أجري لأرمي نفسي في حِضنِها فتَنفُر وتَصرُخ:
أفسَدتَ العجين يا غبيّ! هل نجد القمح في الشارع؟ اذهب بَدِّل ملابسك واغتسل لكي تَتَسَمَّم وتنام، لقد مللت منك ومن أبيك ومنكم كلِّكم.
فكنت أذهب أبدل ملابسي وأخلع أحزاني مع حذائي وأضع على قلبي جدارًا سميكًا حتى لا يئن ولا يشعر. وبالفعل كنت «أتَسَمَّم». لقد تَسَمَّمْت كل حياتي. لقد أَغلَقتُ عَلَى قلبي بجدارٍ سميكٍ لكي لا أتألم. لكني أيضًا لم أشعر بأي شيء آخر. كما لم أشعر بالألم، لم أشعر أبدًا بالسعادة. لَم يَحِنُّ قَلبي أبداً. لم يَرِقُّ لا لأرملةٍ ولا ليتيم. انتزعت اللقمة الوحيدة من فم الفقير لأقتسمها مع الرومان ومع أرخيلاوس. جَمَعتُ لنَفسي أكثر فأكثر، وتَبَاعَدَ عَنِّي قَلبي أَكثرَ فَأَكثَرَ.
بَنَيتُ هذا البيتَ على فدانٍ كاملٍ من الأرض. وألحقت به حظائر للغنم والماشية ومعصرةً تنتج أفخر أنواع النبيذ. بعد دقائق سوف يشرب يسوع من نبيذي. نعم نبيذي الذي صَنَعتَهُ من دم الفقراء والمساكين.
ماذا بي؟ ما هذا الذي يدور بداخلي؟ أشعر بشيءٍ ما يتغير داخل قلبي. ذلك الجدار الحجري يتحرك، ويِرقُّ. أنا لم أبكِ منذ سن العاشرة. ما للدمع يتجمع في مُقلَتَيَّ ويَقفِزُ فوق دِفاعاتِ قَلبيَ الذي قَرَّرَ مُنذ زمنِ ألَّا يشعر. مالي أرى الناس وكأنني قد استَبدَلتُ عَينَين أُخرَيَينِ بِعَينيَّ؟ كيف أريد أن أحتضن الجميع؟ ما لي أشعر لأول مرة بانسجام بين قلبي وعقلي؟ ما للألوان قد أصبحت أكثر تلونًا؟ والشمس أكثر إشراقًا؟ ما لي أشعر بأني أملأ كل جسدي؟ وافتخر بقصر قامتي؟ ما لي أرى عينيَّ في نفس مستوى عيون الناس لأول مرة؟ ليست فوقهم أو تحتهم؟ لا أريد أن أكون فوق الجميع، ولا أشعر إني أقل من الجميع، ماذا يحدُثُ لي؟ 
وَقَفَ زَكّا وَسطَ وَليمة العشاء، ورفع الكأس. ظن الجميع أنه سوف يقترح نخبًا ويتاجر بالأقوال كعادته، لكنه فاجأ الجميعَ إذا قال: « يا سيد، ها أنا أعطي نصف أموالي للفقراء. وإن كُنتُ قد اغتصبتُ شيئًا من أحد، أرُدُّ له أربعة أضعاف.»
لقد اعترفت. لقد رَفعَتَ عَن قلبي هذا الحمل الثقيل الذي أثقل كاهلي لثلاثين سنة كاملة. تَسَاقَطَ كُلُّ إحساسٍ بالذنب والعار عندما سردت أسوأ جزء من قصة حياتي أمام الجميع. لم يأتِ الليل بعد ولكني أشعر من الآن أنني سوف أنام الليلة ملءَ جفنيَّ. أشعُرُ أنَّ قَلبي الآن قد أصبح قطعةً واحدةً بعد أن كان لزمنٍ طويلٍ متشرذمًا منقسمًا.
عاجله يسوع بالتشجيع: «اليوم حصل خلاص لهذا البيت، إذ هو أيضًا ابن إبراهيم؛ لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك.»

33


بنيامين وإستير

استطاعَ بنيامين في النهاية أن يقوم ويذهب إلى بيت إستير خارج حدود أورشليم حاملًا سكِّينًا أعدَّها لهذا الغرض، بعد أن أكَّدت له جماعة الفريسيين أنهم سوف يُدَبِّرون أَمرَ هروبه من أورشليم ليختبئ في صور، أو رُبما يستقل إحدى السفن المُبحِرة من عَكّا (بتوليماوس) رُبما إلى بلاد اليونان أو ترشيش (أسبانيا).
لم يكُن بيتُ إستير بعيدًا جدًّا عن الهيكل، لكن بنيامين قضى في الطريق إليه أغلب النهار. كان يمشي مُنهَكًا متثاقلًا، يفقد حماسه، ثم يستعيده مرةً أخرى عدة مرَّات.
عندما فتحت إستير الباب وَقَفا في مُقابِل بعضهما البعض عدَّة ثوانٍ بلا كلام. فقد كان هذا أول لقاء بينهما منذ سَنَتَين كامِلَتين، وذلك عندما ترك بنيامين القرية وخرج للخدمة في مستعمرة وادي قمران بعد وفاة أبيه وأمَّه.
-        بنيامين؟
-        نعم يا إستير.
عندما التقت عينا إستير ببنيامين، قفزت منهُما الأمومة، فَنَسَت كل شيء واحتضنته بذراعيّ أمٍّ وَجَدَت وَليدَها التائِه. أما بنيامين فاستسلم بين أحضان إستير كما لو كانت أمومتها قد استدعت طفولته. بعد لحظاتٍ، انتَبَهَ بنيامين، فدفع استير دفعة قوية، فسقطت على الأرض.
-        فاجرة.
ثم أخرج بنيامين سِكِّينه واقترب منها. حاول أن يقبض بكل قوَّته على السكين لكي لا يظهر ارتعاش يده، فلم يُفلِح. ظَلَّت السكين تَتَحَرَّكُ بشكلٍ واضحٍ في يَدِهِ المُرتعشة. ثم حاول أن يَهوي بالسكِّين على جسد إستير التي ظلت على الأرض لا تتحرك ولا تحاول حتى الهَرب، فلم يستطع وهَوَى بجانبها على الأرض باكيًا وقد نَشَبَت السكينُ في أرضية البيت الطينية المُتواضِعة.

ارتفع نشيجهما معًا على الأرض كما كان يحدث في طفولتهما عندما كانت تهتاج أمُّهما عليهما وتضربهما معًا حتى يبكيا. كانت أستير وقتها تتوقف عن البكاء سريعًا، لتقوم وتحتضن بنيامين الصغير وتواسيه حتى يتوقف عن البُكاء، وهذا ما حدث الآن أيضًا.
واصل بنيامين البُكاء بصوتٍ عالٍ وهو يقول: «لست أدري، من فينا المُذنب؟ هل أنتِ؟ أم أنا؟ أم من؟»
-         كُلُّنا فُجَّار.. كُلنا فُجّار يا إستير. كُلُّنا فُجَّار...
-        نعم يا أخي كُلنا فُجَّار وكُلُنا أيضًا مَرضى مساكين، واللهُ رَحمَتُهُ واسعة.
-        سامحيني يا إستير. لقد دفعتكِ لما أنتِ فيه. لقد هربت ولم أحمل الحِمل معكِ. تركتكِ تحملينه وحدكِ كعادتكِ. لقد كنتِ تحملين الأسرة كلها. كنتِ أنتِ أُمَّنا كُلُّنا منذ طفولتكِ، سامحيني.
وعاد بنيامين للبكاء والنشيج..
-        لستَ أنت السبب يا بنيامين، لست أدري من السبب. كُلُّنا مُذنبون، وكُلُّنا ضحايا. هناك قِصصٌ طويلةٌ سوف تتألم إن قصصتها عليك. التاريخ طويل يا أخي، حتى من قبل أن تُولَد أنت. لكن ما أريد أن أقوله لك الآن هو أن تاريخًا جديدًا يُكتب الآن في حياتي.

قال بنيامين وهو يقوم ويسحب كرسيًا ويجلس عليه ويساعد أخته على القيام هي الأخرى: «كيف يا أختاه؟»
-        ما حدث هذا الصباح في الهيكل أشعُرُ أنه تاريخ ميلاد جديد لي.
-        نعم، لقد كُتِب لك عمرٌ جديد.
-        ليس هذا ما أقصِد. ليس أنني نجوت من الرجم، الأمر أبعَدُ من ذلك بكثير.
-        كيف أَبعَدُ من ذلك؟ وهل هُناكَ أبعَدُ من الموت والحياة؟
-        لقد شعرت بجسدي لأول مرةٍ منذ أن كُنت طفلةً صغيرة، وأنت لا تعلم ما يعني هذا بالنسبة لي.
-        شعرتِ بجسدكِ لأول مرة؟
-        نعم هل تظن أنني كُنت أتَوَجَّع بينما كانوا يسحلونني على الأرض ويرفسونني بأقدامهم؟
-        لم تتوجعي؟
-        قليلٌ جدًّا. أنا منذ سنواتٍ طويلةٍ لا أشعر بجسدي يا بنيامين ولا أشعر أن هذا الجسد ينتمي إليَّ أساساً.  لعله لهذا لم يكن صعبًا عليَّ أن أبيعه لمن يَطلبه، خاصةً إن كان سيعطيني ما أقيم به أُودَ ابنتيَّ.
أشاح بنيامين بوجهه بعيدًا وهو يصارع الألم والخزي معًا.
-        عندما رأيتُكَ في كفر ناحوم وجريت منك، ثم هربت وجئت إلى هنا في أورشليم، لم أكن خائفةً من الموت. عل العكس، فقد كنت أتمناه لسنين طويلة. كُنت أخاف عليك وعلى الطفلتين.
-        وأنا أيضًا يا إستير،. منذ أن رأيتكِ، ومنذ أن سمعت يسوع الناصريّ، وأنا أعيش صراعًا رهيبًا، ولا أكاد أنام.
-        عندما نظر إليَّ يسوعُ وقال: «ولا أنا أحكم عليكِ» لا أعرف ماذا حَدَث. فجأة شعرت بجسدي لأولِ مَرَّة ولا أفهم كيف حدث ذلك. شَعُرتُ وكأن شرخًا كبيرًا داخلي قد التئم.
-        أنا أيضًا لديَّ شرخ كهذا وإن كان من نوعٍ آخر.
-        أنت لا تستطيع أن تفهم يا بنيامين ما أقول. لقد شعرت بجسدي لأول مرة، شعرت. فجأة شعرت بألم الضرب والسَحل والجروح. لقد كُنت في غاية السعادة بهذا الألم. الألم نعمة يا بنيامين لا يعرفها إلا من توقف عن الشعور.
-        ألم القلب أشدُّ وأقسى من ألم الجسد.
-        نعم. أنا الآن لا يُمكن أن أعطي جسدي لإنسان ولَو متُّ من الجوع أنا وابنتيَّ.  لقد جئتُ لآخذ سارة وراحيل من عند الجارة وأجمع كل ما أستطيع حمله لأمضي.
-        إلى أين أنتِ ذاهبة يا إستير؟
-        سوف أتبع يسوع. سوف أكون مع تلميذاته. تعالَ معنا يا بنيامين.
-        رُبما يا إستير. أحتاج أولًا أن أختلي بنفسي عدة أيام لأعيد ترتيب عقلي.
-        هل ستعود إلى وادي قُمران؟
-        لست أدري رُبما.
احْتَضَنَ بنيامين إستير طويلًا ودمعت عيناهما، ولكن هذه المرة على وجهين تكسوهما ابتسامة الرضا.














ترنيمة
أخبرني يا من تحبه نفسي. أين ترعى؟
أين تربض عند الظهيرة؟   أين أحبابك؟
لماذا تكون جماعتي.. كمقَنَّعةٍ غريبةٍ، عند قِطعانِ أصحابك؟
اخلع قناعيَ القديم. علِّمني السفور.
امسك ذراعيَ المُنهَكَ.
فُكَّ لي، شفرة النور.
خُذني إلى حَيثُ يَذهبُ هَوَاك.
اجعلني خاتمًا على قلبك.
واحملني إلى هناك.

إلى الأبرص المنبوذ يصرخ: نجسٌ نجس
إلى مريضِ بالفيروس قلبه، من اليأس قد يئِس.
خذني إلى حيث يصرخ: من أنت؟
فمنذ سنوات مضت، لم يَلمَسْ جلدي أحد.
كيف لمسته؟
ظننته قد ماتَ، فقد تقرحَ، وتَقَرَّحَت:
طبقات القلبِ تحته.
كيف لمسته؟
ولمستُك كيف كَسَت، عورةَ القلبِ.
وكيف ضمدت، وخزةَ الاستبعادِ،
ومرارة الاحتياج.
فَخذني إلى هناك.

إلى طفلةٍ مزواجةٍ،
تموتُ من العطش،
هُناكَ عند بئر المياه.
رأت عيناكَ ثاقبةً: عَطْشَتها للحياة.
ومحاولاتٍ يائسةً.
 تستعطفُ الارتواء.
خذني إلى هناك.

خُذني إلى حيث في شكٍّ تهمس: من أنت؟
وكأنك هبطت من العَلاء.
كيف تكلمني؟ والكل عني ابتعد
كيف تُلامس عقلي؟ وقد أقنعوني
إنِّي فقط جسد.
كيف صارت الكلمات ماءً،
يروي ويغسلُ،
جفافَ السنوات العجاف.
وتراث الانتهاك؟
خذني إلى هناك

إلى قائدٍ لمائةٍ
يشعر بالضآلة
يحتاجُ إلى الأمان.
خذني إلى حيث يُصَرِّح: ها قد وجدتُ حقيقةَ السلطان
ليس في الصوت العالي، وسطوة النفوذِ
ليس فيمن يغالي، وفيمن يفوز.
أعطاك عصاة القيادة، ووقف يشاهد
كيف لغلامٍ بسيط، يَخضعُ الموتُ المعاند
بكلمة فقط؟
ذهبتَ إلى هناك.
هَرَبَ المرض،
و تساقط الارتباك.
فَخُذني إلى هناك.

إلى من غَطُّوها بملاءةٍ.
ودحرجوها على الأحجار.
كَسَت عيناك عورتَها.
ودَحرَجتَ عَنها العارَ.
سَقَطَت أحجَارهُم فجأة،
إذ احتاجوا الأيادي.
يسترون بها عوراتٍ، لا يراها الناس
يترنحون ابتعادًا، عن مسرح الأحداث

خذني إلى حيث ترفع
زَميلتي هَذِهِ عيناها،
مغسولةً بالدموع.
وبصوت أجشٍّ مثلَ صوتي،
من طول الصراخِ،
وقرصة الجوع:
كلهم ذهبوا.
لم يُدِنِّي أحد.
أنت المستحقُّ وحدكَ،
 أن تقيمَ عليَّ الحَد.

كيف انتصَرتَ؟ 
كيف سَتَرَتْها عيناك؟
وكيف بها عبرتَ
من بوابة الهلاك؟
أفلا تأخذني إلى هناك؟

إلى قصيرِ القامة، عالِ المقام.
كهلٌ يبحث عن أبيه.
ينادي في السوقِ:
ألم تروه؟
لا أريدُ أن أعيشِ لقيطًا ثريًّا.
أدفع نِصفَ ثروتي الآنَ، و أريد أبًا.
أريد الأمان.
أريد الحقيقة.
أريد الإيمان.
خذني إلى حيثُ وقفَ،
وسط وليمةِ العشاء.
لا ليقترح نَخبًا،
ويتاجر بالأقوال.
بل ليقولَ: أنا لصٌّ،
سوف أردُ الأموال.

كيف أعدتَ تأهيله،
بوجبة عشاءٍ،
وكلمات الانتماء؟
كيف رددت القلبَ بدردشةٍ،
حول طبقِ من حَساء؟
وغسل بعد العشاءِ يديهِ،
من شهوة الامتلاك.
فَخُذني إلى هناك

إلى شابٍّ يحتَرِفُ النجاحَ.
يحمل درجةً علميةً،
في فنون الاقتصاد.
يتابع بصورةٍ يوميَّةٍ،
الارتفاعَ والانخفاض،
في أسهم البورصة.
يحلم بالثراءِ،
ويَعبُدُ الفُرصة.

في ركنٍ بعيدٍ
من قلبه النابض هناك،
لا يَرضى.
ويقول ما الفائدة؟
فالأرقامُ تهزِمُها الأرقام.
والأحلام يهدِمُها التحقيق.
خُذني إلى حَيثُ يتساءَل:
ماذا أفعل؟
إلى حيث نظرتَ إليه وأحببته
وهو لا يحبُّ، حتى نفسه.
قلتَ أعدكَ بحياة أفضل.
دُرْ في الحياة دورَتَها.
وسوف تعود.
لتجِدَني أنتظِرُكَ
عندما الشمسُ تعود،
ستجدني هناك.

مع الطفلة العامِلةِ القاهرية.
مع قاهرة العار السامريَّة.
مع التاجر الشاطرِ،
الكافرِ بالمال.
مع رجل الدولة،
الباحثِ عن الكمال.
مع ثائرٍ رافِضٍ،
حَالِمِ بالنضال.
مع رجلٍ يصارعُ كيلا يمارسَ
الجنس مع الرجال.
مع كل هؤلاء ستعود.
وتجدني هناك.

أنا أيضًا أريدُ يا أبتِ
أن أكونَ هناك.




















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق