الأربعاء، 22 أبريل 2015

حوار مع صديقي الذي لا يُسَمِّي نفسه علمانياً


اخترت أن أضع هذا العنوان لمقالي هذا تَيَمُّناً بمقالٍ سابق بعنوان: «حوار مع صديقتي التي لا تُسمي نفسها مُلحدة». مُنذُ فترة وأنا أُتابِع على موقع «فيسبوك» فيديوهات وحوارات لاهوتية تدور حول رفض وقبول، وهجوم ودفاع عن الفكرة اللاهوتية المعروفة بالكفارة أو الموت البديلي للمسيح. فَكَّرت بالطبع أن أكتب رأيي ونتيجة صراعي الشخصي حول هذا الأمر، ولكني تراجعت. فإن الإمساك بتلابيب فكرة كهذه وكتابتها بشكل بسيط وفي نفس الوقت وافي ومانع، في حدود المُمكن، لسوء الفهم، لهو أمرٌ بالغ الصعوبة. فقلت لنفسي: «لا داعي لتَدخُلَ عُشَّ دَبابيرٍ آخر، خُذ أجازة. ثُم لماذا؟ لا يبدو أن الأمر يُهم كثيرين.»

هذا حتى جائني صديقي (الذي لا يُسمي نفسه علمانياً) وهو يُصارع مع أفكاره ويتساءل:

-        لا أستطيع أن أستوعب مفهوم «الخطية الأصلية» هذا. كيف أكون مولوداً بخطية لم أرتكبها؟! ما ذنبي بما فعله شخص ما في أعماق التاريخ؟ بل في بدء الخليقة نفسها؟

-        أَوَلا تخطِئُ أنت أيضاً؟

-        بلى. لكني أيضاً لا أستطيع أن أستسيغ فكرة الكفارة والموت البديل.

-        إذاً سأقول لك ما أرتاح أنا شخصياً له. إذا كان مفيداً لك، فليكن، وإلّا، فَدَعُهُ جانباً.

وهكذا بدأنا نتكلم، وفي النهاية خرج وهو أكثر راحة. وبقيت أنا بين الراحة والصراع مرة أخرى. هل أكتب هذا الكلام، خاصة بعد أن تبَلوَر في ذهني بسبب الحوار؟ رُبما يوجد شباب آخرون يصارعون مع نفس الأفكار، وبالتأكيد يوجد. كيف يمكن أن تصل إليهم هذه «الرؤية اللاهوتية» الأخرى التي ربما تريحهم روحياً ونفسياً؟
أخذت أؤجل وأؤجل، حتى وجدت نفسي ألقي بنفسي في خضم المقال، مثل من يقرر في النهاية أن يلقي بجسده الساخن في ماء البحر البارد ويتحمل فرق درجة الحرارة.
أولاً كمقدمة ينبغي أن نعرف ما هو اللاهوت؟ وللإجابة سوف أقتبس جزءًا من كتابي الأخير "البؤرة" الذي في فَصلِهِ السادِس أتناول أهمية اللاهوت بالنسبة للإيمان والتلمذة المسيحية.

الإنجيل يمثل خِبرة تاريخية وروحية «مُدمَجة»compact ، مقدمة لنا في صورة هذا الخبر أو تلك الرسالة، أما اللاهوت فهو عملية تفسير و«فَك» لهذه الخِبرة المدمجة واستيعابها والاستفادة منها في الإطار المُعاصر.
إذاً اللاهوت ليس مجرد التفسير، ولكنه التفسير في سياق الظرف الواقعي المُعاصِر. أي أنه جعل الرموز الكتابية بما فيها من معاني روحية أبدية، تتعامل مع الواقع في كل عصر وتَعمَل فيه وتُغَيِّر فيه. الهدف من اللّاهوت ليس فقط فهم النَصّ الكتابي ولكن أيضاً فهم الواقع باستخدام مصباح كلمة الله. اللاهوت يؤمن أن كلمة الله وإن كانت مخبأة في نصوص عتيقة إلا أنها تحمل نوراً يجعلنا نرى الواقع الذي نعيش فيه الآن بصورة أفضل. اللّاهوت هو الذي يُخرِج هذا المصباح من غلافه التاريخي لكي يجعله ينير في كل عصر. وبسبب المحدودية والتوتر والجدلية والارتباط بالسياق والمنظور وكل ما يميز المعرفة الإنسانية، فإن اللاهوت ليس مطلقاً ودائماً في حالةِ تطورٍ ونمو. لا يمكن أن نعتبر أن اللاهوت نهائي أو جامد، فاللاهوت كائنٌ حَيّ. لذلك على اللاهوتيين دائماً الرجوع للبدايات واستخراج النور من الرموز لإضاءة الواقع ورؤية الجديد. لذلك فإن المسيح يقول عن كل كاتبٍ متعلمٍ في ملكوت السموات أنه كَرَبِّ بيتٍ يُخرِجُ من كَنزِهِ دائماً جُدَداً وعُتَقاء.[1]
هذا كُلُّه ينبغي أن يُقدِمُهُ اللاهوت، أما الدين فلا يعبا بكل هذا. الدين هو ممارسات طقسية، ومشاعر وقتية، وتفسيرات حَرفية، غالباً ما تكون سَلَفِيّة[2] أي تفسيرات السَلف في العصور القديمة والتي أكسبها القِدَم قداسة ما بحيث لا يجرؤ أحد أن يُناقشها ولا أن يسمح لنفسه أن يَستلهِم الرموز الدينية بطُرُقِ أخرى مُكَمِّلة ومسايقة للعصر، وذلك باعتبار أن الرمز ينبغي أن يكون قادراً أن يشع أضواء مختلفة في عصور مختلفة لمواجهة تحديات هذه العصور. على سبيل المثال رمز «الصليب والقيامة» لا يُشعّ فقط مفهوم الكفارة، بل يُشع مفاهيم كثيرة؛ فلسفية، ونفسية، واجتماعية وسياسية أيضاً. في الصليب قِمّة المحبة والخروج من النفس. في الصليب اشتراك الله معنا ليس فقط في اللحم والدم، ولكن أيضاً في الخزي والعار والفشل الاقتصادي والاجتماعي. في الصليب والقيامة انتصر الله للفقراء وللنساء (حيث اختص المسيح النساء بخبر القيامة[3]) وغير ذلك الكثير.
وأستطيع أن أقول إن تنامي الإلحاد في مجتمعاتنا هو بمثابة نداء يشير إلى أننا نحتاج لأن نقدم لهذا المجتمع  «لاهوتاً» ولا نكتفي فقط بالحماسة الدينية وبكَون شعوبنا «مُتَدَيِّنة بطبعها»لا تُناقش ولا تُجادل خاصة وإن هذا يتناقص تدريجياً خاصةً بين الشباب الذين بسبب التَعَرُّض المعرفي المتنامي، يتركون بأعدادٍ متزايدة مرحلة السذاجة الفكرية والطفولة الفلسفية. إن من يهتم باللاهوت وتجديد الخطاب (والفكر) الديني هو من يهتم بالمستقبل، فالمستقبل نقديٌّ بكل المقاييس.

فيما يلي سوف أحاول أن أقدم ما يريحني أنا في فهمي للإنجيل. وبالأنجيل هنا أعني حقيقة موت وقيامة يسوع المسيح ومعناها اللاهوتي بالنسبة لنا اليوم. هذا الإنجيل هو الذي أؤمن أنه هو رجاء البشرية، ورجائي الشخصي في الحياة والوجود. سوف أقسم هذه الرؤية اللاهوتية، كما تُقَسَّم أبواب كُتب اللاهوت النظامي إلى ثلاثة أقسام:
·        الخليقة
·        الخطية والسقوط
·        الفداء والحياة الجديدة


الخليقة
خلق الله الإنسان على صورته، كائناً أدبياً روحياً أخلاقياً. والروح هي ببساطة الإرادة، والإرادة الروحية هي أن يستطيع الإنسان أن يقول لغرائزه واحتياجاته «لا» وهذا لا يستطيعه الحيوان. وبالتالي فإن الإنسان هو المؤهل لكي يكون الملَك على الخليقة، وهو الوكيل الذي من خلاله يدير الله العالم وكل المخلوقات. لكن بالطبع يظل الإنسان يشترك مع الحيوان في أنه لا يستطيع أن يستغني عن الاحتياجات الجسدية تماماً، وتلك «اللا» التي يستطيع أن يقولها لاحتياجاته، ليست لاءًا مطلقة نهائية. لذلك فإن الإنسان يعيش حالة درامية متوسطة، كما كتب أحدهم عن البشر أنهم: «ملائكة تتمرغ في الطين وثدييات تحاول الطيران»، وهذا ما يجعل الله يشفق علينا ويعطينا الفرصة تلو الأخرى. لانه «يعرف جبلتنا، يذكر أننا ترابٌ نحن»  وفي نفس الوقت قال أننا « آلهة وبنو العليّ كُلُّنا».
يدور الكتاب المقدس كله، وبالتالي يدور الإيمان المسيحي حول حقيقة أن هذه الحالة المُتوسطة وذلك الصراع الدائم بين الروحانية والمادية في حياة الإنسان لا يُمكن حله إلّا من خلال العلاقة مع الله التي تتميز بالطاعة والتواصل. وكانت دائماً محدودياتنا وضعفاتنا تجذبنا نحو البحث عن إله كقوى عظمى نرتاح بين أحضانها، وفي نفس الوقت كانت قدراتنا الخلاقة وميلنا للحرية (الناتجة من الروح الإنسانية الخارجة من فم الله) تدفعنا للتمرد كوسيلة لتحقيق الذات. لذلك فإن أكثر ما يعبر عن «الروحانية المتزنة»، صلاة السكينة التي تقول:

«اللهم امنحني السكينة لكي أقبل الأشياء التي لا أستطيع أن أغيرها (أقبل كوني مخلوقاً محدوداً)
والشجاعة لكي أغير الأشياء التي أستطيع أن أغيرها (قبول قدراتي الإنسانية وتشغيلها)
، والحكمة لأعرف الفرق بينهما.» ذلك لأن عدم إدراك الخليقة القديمة «آدم» لهذا الفرق (وآدم هذا ليس بالضرورة شخصية تاريخية بالمعنى الحديث للتاريخ، وإنما رمزُ للبشرية القديمة يُمَثِّلُنا كُلُّنا) هو أصل الصراع الذي يعذبنا دائماً، وهو مصدر أمراضنا وإدماناتنا.
هذه الحالة الصراعية يصفها سفر التكوين بطريقته القصصية الرمزية في صورة «جَنّة» (أي حديقة) مليئة بالأشجار الكثيرة يمارس الإنسان فيها حريته بأن يأكل من كل الأشجار، ويمارس أيضاً قدراته الخلاقة وسيادته عليها فيزرعها ويحفظها ويسيطر عليها تماماً. لكن في نفس الوقت عليه أن يَتَذَكَّرَ أنَّه محدود وأنا ليس مالك الخليقة ولا خالقها، وإنما هو نفسه، جزء منها. هذه المحدودية قد تم الرمز لها برمز «الشجرة المُحَرَّمة». ليست القضية بالطبع شجرة ولا أكل من ثَمرة، فكل هذه رموزو. ولا هي أيضاً منعاً ولا سيطرة ولا تحكما من الله ولا رغبة من الله في حد حرية الإنسان (مثلما كان التشويه لصورة الألوهة الذي جاءت به الوثنية والأساطير الإغريقية) وإنما هي تذكير للإنسان بحقيقة محدوديته. وإن كان محدوداً فكل شيء فيه ينبغي أن يكون محدود، حتى حريته. وهذا ما يجعله يتناغم مع حقيقة نفسه ومع الكون، ويستمر الكون في التناغم.


السقوط
اغتَرَّ الإنسانُ، ولا يزال، بقدراته، فنسي حقيقته المخلوقة. هذا ببساطة هو السقوط. هذا المستوى من الوجود: «آدم وحواء» (مرة أخرى، آدم وحواء ليسا بالضرورة شخصيات تاريخية بالمعنى الحديث للتاريخ، وإنما رمزُ لنا كلنا)، لم يستطع أن يقاوم تمرده ويحتمل هذه الحالة من الصراع بين محدوديته وقدراته، فعاش كما لو كان هو الله. أوليس هو الذي يقرر أن يزرع الشجر فينمو بأمره؟ أوليس هو الذي يقرر أن ينجب الأولاد والبنات فيظهرون للوجود، ويقتل الرجال والنساء فيصيروا في ذمة التاريخ؟ فهو إذاً يخلق ويُحيي ويميت. هذا يظهر في قصة السقوط في سفر التكوين هكذا: «فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ». فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ.»
هذا معناه ببساطة أن الإنسان (حواء) قيل لها أنها عندما تأكل من الشجرة، ستصير كالله، فأكلت، لأنها ببساطة تريد أن تكون الله. هذا حالنا كلنا، كلنا نريد أن نتحرر من كل القيود وندير حياتنا بأنفسنا، لكننا سرعان ما يُدرِكُ الإنسانُ ضَعفَه وعجزَهُ أمام قوى الطبيعية، فيطلب إلهاً ليعبده، وفي نفس الوقت يتمرد على الإله لأنه يعود ويفتتن بقدراته وحريته في إدارة الكون. لذلك كانت الوثنية التي هي الحل المزيف الفاسد الفاشل بين الحرية والمحدودية. (وليس خافياً أن الوثنية ليست شيئاً من الماضي، ولكنها لا تزال موجودة في صورة عبادة الإنسان للأشياء مثل المال والجنس والأكل والشهرة بل والدين أيضاً) وهكذا كان الحل الوثني: لأنني محدود فأنا أحتاج دائماً إلى إله، ولأنني أريد الحرية، فأنا الذي سوف أصنع بنفسي الإله وأحمله بين يدي وأضعه في بيتي وأسقط عليه دوافعي الجنسية والعنيفة، فكانت الآلهة الوثنية  دائماً تجسيداً لدوافع وغرائز الإنسان. أي أن الإنسان يحتاج إلى إله، وفي نفس الوقت لا يريد إلهاً يُسيطر عليه، فقرر أن يعبد نفسه ويصنع رموزاً تُصالح بين عبادته لنفسه وعبادته لآخر، فيعبُد شيئاً من صُنعِه. 
عَبَّرَ سفر التكوين عن هذه الحالة بوحي من روح الله من ناحية، لكي يحافظ على المعنى الروحي اللاهوتي، ومن ناحية أخرى بلغة العصر الذي كُتِبَ فيه وهي اللغة الرمزية الأسطورية، فكانت قصة الشجرة والأكل من الشجرة والطرد من الجنة وكل هذا. هذه القصة لَعِبَت ولاتزال تلعب دورها في شرح القصة الوجودية الروحية ببساطة ملموسة للبشر في كل العصور وأدّت دورها لدى الكثيرين في أن يواجه حقيقة خطيتهم وموتهم الروحي ويقبلون إلى علاقة مُخَلِّصَة ومُخلِصة مع الله. لكنها في نفس الوقت، إذا تمسكنا بحرفيتها (وهذا بالمناسبة لم يكن حال الأولين، فهم لم يكونوا حرفيين أبداً بل كانوا يدركون أن هذه قصة). إذا تَمَسَّكنا بحَرفِيَّتَها فإننا، للأسف نخسرها. وبالذات من يتميزون بالتفكير التحليلي وليس الكلي الانطباعي وهذه طريقة تفكير أصبحت متزايد بعد عصر النهضة والعلم. إذا تمسكنا بحرفية هذه القِصة، فإننا نرى الله وكأنه إلهٌ يُفاجَئ و تحدث له مشكلات فيحاول حلها. خلق الإنسان، فتمرد، فدبر خلاصه. وكأن الله «يُطفئ حرائق» بينما ليست هذه إلا "طريقة" في وصف الحقائق الروحية الكونية التطورية. طريقة  للشرح والفهم (لاهوت) كان مقبولاً في عصر من العصور ولم يعُد مقبولاً في هذا العَصر، على الأقل من البعض (الذين ينتمي إليهم صديقي) وكثيرون، خاصة من الشباب الأكثر تعرضاً لروح هذا العصر الحداثي والبعد حداثي. 

الخطية الأصلية
هذه الحالة «غير المُختارة» (أي التي لم نَختَرها بأنَفُسِنا بشكلٍ واعٍ) من الضَعفِ والخَطِيَّة والحَاجة للتطوُّر الروحي، عَبَّر عنها اللاهوتيون بتعبير كان مفيداً لدى الكثيرين وهو «الخطيّة الأصلية»  واعتمدوا، تقريباً،على آيةٍ واحدة من سفر المزامير (الذي هو شِعرِيّ ويختلطُ فيِهِ العامُّ بالخاصِّ في حَياة داود). هذه الآية: «هأَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ، وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي.» (مزمور 51: 5)  (يعتقد بعض المفسرين أن داود كان يقصد نفسه، فهو ابنُ لأبيه يَسَّى من علاقة غير شرعية ولهذا السبب لم يعرضه يَسَّى على صموئيل عندما جاء ليختار واحداً من أبناء يسى ليمسحه ملكاً). لكن هذا النموذج اللاهوتي (أي طريقة الفهم البشرية للحقائق الإلهية) له أيضاً مشكلاته التي تجعله منفراً لدى البعض. ما معنى أن أعاقب بذنب لم أرتكبه أنا؟! إذاً هو ليس «ذنباً» بالمعنى المفهوم. هذه "حالة" و "مستوى"  من التطور الروحي، بالطبع نولد فيه كلنا، ولا «نَرتَكِبَهُ». أنا لا  «أرتكب»  خطأ عدم القدرة على الطيران كخطية، وإنما أنا وُلِدت هكذا في حالة من التطور الناقص. ليس لي ذنب، لكن عَلَيَّ مَسئولية أنه عندما تأتي الخليقة الجديدة، أن أشترك فيها بالإيمان.  هذه هي مسئوليتي ومسئولية كل إنسان أمام الإنجيل. وإذا لم أفعل، أظل (وإلى الأبد) على المستوى الأقل (وهذا هو الجحيم).

الفداء
كان آدم (الصورة الأقل تطوراً من الناحية الروحية) غير قادرٍ على احتمال الصراع بين محدوديته وقدراته، وهذا كان معلوماً من الله من البداية، فالله لم يُفاجَئ. وهو كان يُجَهِّزُ للنَقلَةِ التَطَوُّرِيَّةِ الرُوحِيَّة الجديدة[4] التي سوف يقوم بها وسوف يدعو كل البشر للانضمام إليها. إنه آدم الثاني، المولود مثل آدم الأول بدون عملية جنسية، أيّ مَولودٌ مِنَ الله مباشرةً (ابن الله) والذي بالرغم من سلطانه الكامل على الخليقة (حتى أنه هو نفسه الله الظاهر في الجسد) كان خاضعاً لله تماماً. أي أن قدراته كانت أكثر من آدم بما لا يُقاس، بل هي نفسها قدرات الله في صورة بشرية. وفي نفس الوقت خَضَعَ تماماً لله كما لم يخضعْ آدَمُ وأبناءُ آدَم.  إنه النموذج الذي استطاع أن يصالح تماماً وإلى الأبد بين القدرات والحُرية (حتى في صورتيها الكاملتين) من ناحية، وبين الخضوع والعبودية والطاعة لله (في صورتيهما الكاملة أيضاً التي عُبّرَ عنها بكونه حَمَل "ذنباً" لم يرتكبه). بالطبع مثل هذا الإنسان/الإله كان تجلياً إلهياً، وكان إنساناً في نفس الوقت. لقد اتحد فيه الله بنا لكي يرفعنا إليه. أخذ خطيتنا لكي يعطينا بره، أخذ وضاعتنا، لكي يعطينا رفعته، أخذ نَقصَنا لكي يُعطينا كَمالَهُ. 
إذاً جاء ابن الله، وابن الإنسان إلى العالم وبالرغم من أن قدراته هي قدرات الله نفسه ، كان في نفس الوقت خاضعاً لله تماماً. هذا ما لم يستطع أن يفعله آدم.
·        آدم الذي كان مُجَرَّدَ "مخلوقٍ على صورة الله"
·         رفع نفسه وعصى
أما آدم الثاني
·         الذي هو نفسه «صورة الله»  أي كلمة الله وعقله الأزلي الأبدي و صاحب القدرات الكاملة الذي قال: «أنا والآب واحد» وأبرأ الأكمه (المولود أعمى، أي أنه خَلق عيناً من عدم)، وأقامَ المَوتى، بل قام بنفسِهِ من بين الأموات.
هذا الكامل، وَضَعَ نَفسَهُ وأطاع، أي أن صاحب القُدرات الكاملة صار هو أيضاً صاحب الطاعة الكاملة. الذي قال:«أنا والآب واحد» هو نفسُهُ الذي قال: «أبي أعظم مني» (وهذا يُحَيِّر كثيرين ويعتبرونه تناقُضاً). ولَيسَ ذَلِكَ فَقَط بل أَطَاعَ حَتَّى الموت، موت الصليب، موت العار. أي يموت كأحقر نجس، وهو أبر من خطا على الأرض.

هذا هو المقصود بأن المسيح مات من أجل خطايانا
مات لكي ينجح لَنا فيما فشلنا فيه، وهو مصالحة القدرات مع المحدودية من خلال الطاعة.

هكذا وضع الله كلمة «النهاية» على الخليقة القديمة ــــــ خليقة آدم الأول. هذا لكي يُعلِنَ لَنا أن هذا «الطرازَ القديم» من البشرية قد انتهى، وتم إطلاقُ طرازٍ آخر.  بل أن الخليقة المادية كلها سوف تتطور وتعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله. إنه طراز آخر يمكن فيه أن تتصالح الصورة الإلهية مع المحدودية البشرية. وأول نسخة من هذا الطراز هو يسوع المسيح، الذي مات بالنسخة القديمة، وقام بالنسخة الجديدة لكي يؤكد لنا بداية هذه الخليقة الجديدة والعالم الجديد.

الموت الكفاري (البديلي)
كان النموذج الذي يُمكن للبشر أن يفهموه لينقل الله به هذه الحقيقة الروحية المجردة هو نموذج الذبيحة الكفارية (البديلية) الذي كان مُنتشراً جدأً في ذلك الوقت. الذبيحة التي تموت لتحمل الموت في نفسها، وتعطي الحياة لمن يقبلها. إنه كبش الفداء الذي توضع عليه الخطايا ليموت فيحيا الإنسان. الموت الذي يُفضِي إلى حياة. هو نموذج قَبِلَهُ ولا يزال يَقبَلَهُ كثيرون. وحسناً يفعلون إن كان لا يُضايِقهُم. 
لكن البعض لا يقبلونه، لأنه مثل أي نموذج تشبيهي للحقيقة (ظِلّ الحقيقة) له مشكلاته. فهو يصور الله وكأنه مُنتَقمٌ غاضِبٌ مُتَعَطِّشٌ للدماء. يريدُ ذَبيحَةً لكي يَرضَى.. وهذا كان هو التشويه الذي قام به الشيطان (من خلال الديانات الوثنية القديمة) لكي يُشوه فكرة الألوهة عموماً، ولعله أيضاً لازال يحاول أن يضع هذه الصورة المشوهة على الله  نفسه (في المفهوم المسيحي) عندما لا يزال يَتَّهِمَههُ أمامَ ضمائرِ البشر في هذا العصر الحديث أنه لا يختلف كثيراً عن «مولوك»  ذلك الإلهِ الوَثني الذي عبده الآموريون وكان يريد دائماً ذبائح بشرية. (راجع كتاب "تاريخ الله" لكارن أرمسترونج الذي حقق مبيعات هائلة في السنوات العشر الأخيرة)
إذا كان هؤلاء القدماء يقدمون لمولوك أبناءَهُم ذَبيحةُ، فما الفرق؟ يَهوَه أيَضاً يذبَحُ ابنَهُ لِكَيّ يُرضي غَضَبَهُ وغرورَهُ. حتى فكرة المصالحة بين العدل والرحمة تبدو أمام الكثيرين كتمثيلية وكأن الله عاجز وغير قادر. وجديرٌ بالذِكرِ أن ذلك الشرح عن المصالحة بين العدل والرحمة، هو مجهود لاهوتي قام به القديس أنسلم Anslem   في العصور الوسطى وليس موجوداً بشكلٍ واضِحٍ في العهد الجديد. هذا المجهود اللاهوتي قَبِلَهُ المُصلِحون وعَمَّموه واستخدموه حتى أنه أصبح يُعامل على أنه من «الثوابت» الإيمانية، مع  أنه مجهودٌ لاهوتيٌ، وقَامَ بَعده لاهوتيّون آخرون حداثيّون بمجهوداتٍ أُخرَى، لكِنَّ السَلَفِيَّة والأُصولِيّة دَائِماً ما تقَُدِّسُ مِن فَهمِ الأَقدَمين وكَأَنَّها ثَوابِتٌ بينما لَيستِ هَذِهِ هي الثوابت.  

فما هي الثوابت الإيمانية إذاً؟ 
ببساطة  الثابت الإيماني الوحيد في المسيحية هو الإيمان بالإنجيل الذي يقدمه بولس الرسول باختصار في مستهل الأصحاح الخامس عشر من رسالته الأولى لأهل كورنثوس، وهذه الرسالة كُتبت قبل كتابة الأناجيل الأربعة المكتوبة، حيث لم يكن «الإنجيل» كتاباً وإنما خبراً ساراً بحدوث حدث يشكل الإيمان به قانون الإيمان المسيحي. فها هو إذاً قانون الإيمان المسيحي الأول:
وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِالإِنْجِيلِ الَّذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ، وَقَبِلْتُمُوهُ، وَتَقُومُونَ فِيهِ، وَبِهِ أَيْضًا تَخْلُصُونَ، إِنْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّ كَلاَمٍ بَشَّرْتُكُمْ بِهِ. إِلاَّ إِذَا كُنْتُمْ قَدْ آمَنْتُمْ عَبَثًا! فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا: أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ،

الثابت الوحيد في المسيحية هو هذا الإنجيل. وما يجعلك مسيحياً هو:

أولاً: تؤمن وتصدق وتقتنع أنك خاطئ. ليس بالضرورة لأنك ارتكبت خطية (وإن كُنّا كلنا قد أخطأنا وأعوزنا مجد الله) ولكن أن تُدرِكَ وتَعتَرِفَ أن هذا المُستوى من الوجود (مستوى آدم) فاسِدٌ وفاشِلٌ، خُصوصاً لأنَّكَ تُؤمِنُ بحقيقيّة وبتاريخِيَّةِ مَجيء وحياة، وموت وقيامة المسيح التي قدمت لك المستوى الأعلى من الوجود (وبالذات القيامة التي تُعطي البُرهان لكُلِّ ما سَبَق)، فتقرر أن هذا المُستَوى الحَاليّ من الوُجود هو موت، بالنسبة للحياة التي جاء بها المسيح، وبالتالي يكون الانتقال للمستوى الجديد بمثابة وُلادة جديدة. تماماً كما أن بقاء الجنين بالرَحِم دون ولادة هو موتٌ مؤجَّل. 

ثانياً تصدق عقلياً أن المسيح بالفعل مات على الصليب ودفن وقام في اليوم الثالث، وتؤمن وجودياً بأن هذا كان من أَجلِكَ، أنتً شخصياً، بمعنى أنك شخصياً  تستطيع أن تشترك في هذه الخليقة الجديدة بالإيمان والطاعة، والاستسلام، والعمل مع روح الله الذي يستطيع، ويريد أن يُغَيَّرك تدريجياً لتُشابِهِ أخلاقياً الخليقة الجديدة في المسيح (المحبة)، وبالتالي فإنَّكَ تُصبِحُ مُتمرداً ومُخطِئَاً في حَقِّ نَفسِكَ  وحَقِّ الله إن لم تقبل «الترقية» التي يقدمها الله لك.

ثالثاً: تنتظر قيامة الأموات، وحياة الدهر الآتي. وتدرك أن سيرتك (هُويَّتَكَ) هي في السماويات التي منها تنتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح، الذي سوف يغيرك، ليس فقط روحياً وأخلاقياً كما يحدث الآن، وإنما سوف يغير حتى شكل جسد تواضعك (هذا المستوى الجسدي من الوجود) ليكون على صورة جَسَدِ مَجدِهِ (القائم من بين الأموات) بحَسَبِ استطاعته أن يُخضِعَ لنفسِهِ كُلَّ شيء. أي أن الروح الذي يشفع الآن فيك ويحقق فيك شخصية المسيح الأخلاقية، سوف يفعل في جسدك أيضاً ما فعله في جسد المسيح، إذ سوف يقيمه من بين الأموات في اليوم الأخير إلى جَسَدٍ وَوُجُودٍ مَادِيٍّ لا يَموت.

آمين.




[1]  إنجيل متى 13: 52
[2]  يستخدم المسلمون هذا اللفظ حرفياً، أم المسيحيين فلا يستخدمونه حرفياً وإن كان الفكر «السلفي» يُشكِّل تَحَدّياً مسيحياً أيضاً. فهل يجرؤ مسيحي أرثوذكسيّ أن يختلف مع أحد من آباء القرون الأولى مثل إيرينايوس أو مار إسحق السرياني أو كيرلس الكبير؟ وهل يجرؤ بروتستانتي أن يناقش لاهوت كالفن مثلاً؟
[3]  إنجيل لوقا 24: 22
[4]  لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا. (أفسس 2: 10)

هناك 4 تعليقات: