الخميس، 5 مارس 2015


2

جماعة قُمران

تحول لَونُ الشمس إلى البرتقاليّ المائل للحُمرة، وصارت مثل قرصٍ كبيرٍ مرسوم بيدٍ ثابتةٍ لتلميذٍ تجاوز العاشرة وتعلَّمَ أن يلوِّن دون أن تخرج الألوان عن الحدِّ. في هذه الساعة من الغروب، انصاعت آشعة الشمس الحارقة، وصارت مُرَوَّضة لا تخرج عن حدود ذلك القرص البرتقالي الهائل الذي يعلو هامات جبال قُمران ويمكنُ للعين المجردة أن تنظر إليه طويلًا وتتأمل جماله الأخَّاذ. بدأت أضواء مصابيح زيتية مرتعشة ترصع الفضاء الذي بدأت تزحف عليه الظلمة مثل نقوش ذهبية متفرقة على ثوب سهرةٍ داكن الزرقة. وبدأ سكونُ المكان ترصعه أيضًا أصواتُ تراتيلٍ خافتةٍ، يَتَخَلَّلُها صوتُ الريح الذي يُصَفِّر في فتحات الكهوف المتناثرة حول الوادي.
يقع وادي قُمران على بعد نحو ميلٍ إلى الغرب من الطرفِ الشماليّ الغربيّ للبحر الميت، وعلى بعدٍ يزيدُ قليلًا عن ثمانية أميال إلى الجنوب من أريحا. مكانٌ منعزلُ، بعيد جدًّا عن أورشليم العاصمة، ولذا فقد كان موقعًا مثاليًّا لتلك الجماعة التَّقِيَّة التي اختارت لنفسها الهجرة عن المجتمع الأورشليمي الكافر، لكي تنتظر مجيء المسيا وتَحَقُّق مملكة الله.

اللهم انصرنا نحن أبناء النور... على القوم الكافرين
ليأتِ حُكمُكَ على الأرض
يا أيها الاسم الحقيقي
اللهم انصر إسرائيل
اللهم انصر المُعَلِّم البار
الهادي المهدي المُنتَظَر
وليأتِ المَسِيَّا
ليَقهَرَ الرومان الكفرة الزنادِقة
ولتسودَ إسرائيلُ على العالمِ أجمع

لقد كانت هذه الطائفة تتكون من جماعةٍ من الكهنة المُنْشَقِّين عن النظام الكهنوتي الحالي، وبعض من الشعب من غير طائفة الكهنة، يعيشون حياةً مُشتَرَكةً من التقوى والتديُّن الشديدين في الكهوف المنتشرة حول وادي قُمران. وكان لديهم مَبنى رَئيسِيُّ يشغلُ مساحةَ اثني عَشر قدمًا مُربعًا وفي الجانب الشمالي منه كان يقع المطبخ وحجرة الطعام التي يأكل فيها أفراد الجماعة معًا كلَّ الوجبات وفقَ نظامٍ دقيقٍ، حيثُ يَجلِسُ كلُّ واحدٍ بحسب رتبته، ويقوم المُعَلِّمِ الكبير بمباركة الخبز والخمر، ثم يَتلونَ صلواتِ الشكر منتظرين يومَ أن يجلسوا إلى مائدة المسيا عندما يأتي وتبدأ مملكة الله. وإلى الجنوب الغربي، كانت توجد خمس حجرات تُستَخدَم كأماكن للدراسة والصلاة. ومن بين هذه الحجرات الخمس، كانت حجرة النُّسَّاخ الذين كانوا يَقضون أكثر من عشرِ ساعاتٍ يوميًّا منهمكين في نَسْخِ التوارة وكتب الأنبياء على رقائق من جلد الماعز موصولة معًا، ويقومون بلفِّها بعناية في لفائف من الكتان ثم يضعونها في أوانٍ فخاريةٍ أنيقةٍ يصنعونها بأنفسهم في المُستَوطَنة ذاتها. وكان في الرُّكن الشمالي الغربي من المبنى، بُرجٌ حَصينٌ يتناوب شباب الجماعة على حراسته نهارًا وليلًا ليستطيعوا مُرَاقَبَةَ الطريق، والهروب قبل مجيء حملات الاعتقال التي كانت تقوم بها قُوّاتٌ خاصة من حَرَس الهَيكل مدعومةٌ بأفراد من أمن القَصر المَلَكي لتعتقل بعضًا من قادتهم وهكذا تُبقِي عليهم ضعفاء؛ لأن الحكومة المركزية في أورشليم تخشى قيامهم، بعد طول الانتظار، بتحقيق مملكة الله بأيديهم. وهذا ما كانت تتبناه جماعة منهم أكثر عَسكَرِيَّةً هي جماعة الغيورين التي تتعرض لقمع الدولة أكثر منهم.


                                         * * * *

بعد افتضاح أمر أخته أستير التي كانت قد ضُبِطَت مع رجُلٍ بعد طَلاقِهَا، لم يَستَطِع بنيامينُ أن يزورَ قريته مرةً أخرى. لم يَعُد قادراً أن يواجِهَ كل يومٍ نظرات التَعيِير أو حتى نظرات الشفقة في عيون أهل القرية التي لم يكن لها حديث في ذلك الوقت إلا أستير. تِلكَ المَرأة المُطلَّقة سَيِّئَة السُّمعة التي ضُبِطت مع رجلٍ بعد طلاقِها ثم هَرَبَت من القرية. كَانَ بَنيامينُ في أعماقه يعرف أن ما دفع أستير لفعلتها هو الفَقرُ والعوَز؛ فبعد طلاقها لم تجد من يُنفِق عليها هي وطفلَتيها التي إحداهما رضيعة خاصةً بعد وفاة والدَيهما، وانخراطه هو في سلك الرهبنة القيروانية. لكنه لم يسامحها أبدًا.
منذ جَاءَ بنيامين ليعيش في هذا المجتمع الديني الصارم، اكتَسَبَ مَحَبَّةَ الجميع من كهنةٍ وغير كهنة؛ فقد كان من أفضل النُّسَّاخ، وكان يقضي الساعات الطويلة ينسخ بدقة كلَّ كلمةٍ من كلمات التوارة والأنبياء، حتى أنه الآن، بالرغم من كونه مُستَجَدًّا، قد أصبح صاحب الرقم القياسي في النَّسخ. واليوم تتم السنوات الثلاث التي يمكن بعدها لبنيامين أن يصبح عضوًا رسميًّا في جماعة قُمران؛ فبعد إتمَامِهِ لبعضِ الطُقُوس المَبدَئِيَّة، ظلَّ بنيامينُ تَحتَ الاختبار لمدة ثلاث سنوات تنتهي اليوم.
لم يدرِ بنيامين كيف يشعر اليوم؟ كان قلبه مليئًا بالفخر والإنجاز لاجتيازه فترة الاختبار، لكنه كان يشعر في الوقت نفسه ببعض من الحيرة ويتساءل إن كان قد اختار الطريق الصحيح في الحياة؟ لقد جَاءَ إلى هذا المُجتمع لأنه كان يشتاق لحياةٍ أُسرية حميمة، لم يعشها أبداً في طفولته، فقد كان أبوه غائباً دائماً، وعندما يأتي كان لا يفعل شيئاً إلّا الشجار مع أُمّه وضَربِها. لم يشعر أبداً أن أباه يُحِبّه، ولا هو أيضاً أَحَبَّه.  
-        لا بد أنك سعيد اليوم يا بنيامين
رَدَّ بِنيامين وهو يَغمِسُ ريشَتَهُ في المَحَبَرَةِ الرومانية المصنوعة من الرخام، ثم تَرَدد قليلًا وأعاد الريشة إلى المحبرة.
-         لِنَأخُذَ بَعضَ الراحةِ. لا يمكن أن نتحادث هكذا ونحن ننسخ كلمة الله. أُصدِقُكَ القولُ يا يوئيل يا أخي، لا أعرف. فأنا لا أكاد أنام هذه الأيام. بمُجَرَّدِ أن يُطلق نفير النوم مساءً وأذهب إلى فراشي، تهاجمني الأفكار كالخفافيش التي تملأ الكهوف المهجورة حولنا.
-         فيم تفكر يا بنيامين؟
-         الكثير. إذا توقفت عن التفكير في قريتي، فإني أُفَكِّرُ في كلام العِظات التي نسمعها من مُعَلِّمينا هنا عن الملكوت الآتي، والمعلِّمين الجُدُد الذين نسمع عنهم كيوحنا المعمدان مثلًا.
-         ما المشكلة في أُسرَتَكَ يا بنيامين؟
-         لا شيء. لا عليك بأسرتي. الأهم الآن هو مملكة الله. الجميع يتكلمون عن مملكة الله، ترى من هم الصادقون؟
-         بالطبع نحن. من المؤكد أن رئيس الكهنة الأورشليمي الفاسد وأتباعه لا يَملِكُونَ الإجابة. نحن أبناء سيدنا إبراهيم الحقيقيون. نحن إسرائيل الحقيقية. وسَوفَ يبدأ الحكم الإلهي لكل العالم من هنا؛ من هذا المكان.
-         كيف؟ لم يَدُر بخلدك ذلك السؤال: «كيف؟»
-         سوف يأتي المَسِيَّا وسوف نكون نحن جنوده المُخلِصِين. سوف نهزم الحكمَ الفاسدَ في أورشليم ونحرر كل البلاد اليهودية من سطوة الغرب الروماني الكافر الذي يستخدم حُكَّامَنا كدُمَى يحركها كيفما يشاء. سوف يأتي «النبيُّ» أولًا كما وعد الله موسى ليَعُدَّ الطَريق. ثم يَبرُزُ كَوكَبٌ من يعقوب، ويقومُ قَضيبٌ من إسرائيل، فيُحطم طرفي موآب، ويهلك كل بني الوَغَى. وننتصر نحن، بني النور على أبناء الظلام الكُفَّار من بَني الأمم غير اليهود، والفاسقين من اليهود المتآمرين والمتعاملين معهم.
بدا يوئيل وهو يتكلم ووكأنه يخطب في مئاتِ التابعين.
-        يوئيل، هل سمعت عن يوحنا المعمدان الذي يُعَمِّد الناس للتوبة من الخَطِيّة في نهر الأردن؟
رد يوئيل وهو يحاول التخفيف من حِدّة حماسه: نعم وقد ذهبت بالفعل واعتمدت منه.
-        هل فكرت فيما يقول؟
-         الحقيقة لم أفكر كثيرًا، لقد كان كل ما يهمني هو إتمام الطقس؛ فالمعموديات، كما تعرف، أمرٌ ضروري جدًّا يا بنيامين للتطهير، متى توفرت التوبة الحقيقية والحياة المنضبطة و...
-        قبل أن تعظ مرةً أخرى يا يوئيل، دَعنِي أقولُ لَكَ، فأنا أيضًا قد ذهبت واعتمدت من يوحنا، لكنني منذ ذلك الحين وأنا لا أستطيع التوقف عن التفكير فيما يقوله.
-        الحقيقة أنا لم ألتفت كثيرًا لما يقوله.
-         لقد توقفت كثيرًا عند عبارة المعمدان: «أنَّ الله قادرٌ أن يصنع من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم».
-        كلام غريب.
-        اسمع أيضًا ما قاله عن المَسِيّا.
-        ماذا قال؟
-        قال: «أنا أُعَمِّدكم بماءٍ للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لستُ أهلًا أن أحمل حذاءَه، هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار». تُرى كيف تكون معمودية الروح القدس هذه؟ ثم، ألعلَّ  يوحنا المعمدان هذا يكون «النبيّ» يا يوئيل؟
-        لا أدري. لا أظن. فهو لم يتكَلّم أبداً عن تطبيق الشريعة، ولم يتكلم عن إقامة حُكم الله في الأرض.

-        عمومًا دعنا نعود إلى عملنا. أنا لا أريد أن يقل إنتاجي، وبالذات في اليوم الذي سوف أنضم فيه رسميًّا للجماعة.

هناك تعليقان (2):

  1. جميل .. تصوير المشاهد و الحوار .. أحسنت يا دكتور .. الرب يباركك ..

    ردحذف
  2. رائع جدا .. الرب يباركك دكتور اوسم

    ردحذف